في كتابه الأخير “روسيا ضد الحداثة”، تنبّأ المؤرخ الروسي ألسكندر إتكيند، بتفكك وانهيار الإمبراطورية الروسية، ووصفها بـ”الأخيرة”.

ويتابع إتكيند الأحداث المتعلقة بروسيا والمنطقة من زاوية تحليلية متعمقة تدمج بين ما روته كتب التاريخ والحاضر بكل تفاصيله، من مكتبه بجامعة أوروبا الوسطى في فيينا حيث يعمل أستاذا بقسم العلاقات الدولية.

وفي مقابلة خاصة مع الجزيرة نت، أكد المؤرخ الروسي أن الحرب الأوكرانية التي شنتها روسيا قبل أكثر من عام والعزلة السياسية التي تواجهها والنزاعات الداخلية، قد تقودها إلى حافة الانهيار.

وهذا نص المقابلة:

البروفسور ألكسندر إيتكند تنبأ بانهيار الامبراطورية الروسية (الجزيرة)
  • تنبّأتَ في كتابك الأخير “روسيا ضد الحداثة” بانهيار الإمبراطورية الروسية.. إلى ماذا استندت؟

بداية، انهارت العديد من الإمبراطوريات في القرن العشرين، بما في ذلك البريطانية والألمانية والنمساوية المجرية وغيرها، وكانت الإمبراطورية الروسية إحداها عندما سقطت عام 1917. وفي عصرنا الحالي، أتوقع أن نشهد تفكك الاتحاد الروسي.

في العادة، يجب أن يمر الانهيار بفترة من الحروب والثورات لكن العملية بطيئة ومؤلمة بالنسبة للإمبراطورية الروسية؛ فبعد الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية، تحولت الإمبراطورية إلى الاتحاد السوفياتي الذي انهار عام 1991، واستقلت آنذاك أوكرانيا وجورجيا ودول أخرى عن الهيمنة الروسية.

من المهم ذكر أن الاتحاد الروسي، وريث الاتحاد السوفياتي، يتكون من عشرات الأجزاء التي تختلف كثيرا عن بعضها بعضا وتحكمها موسكو بيد من حديد. وأعتقد أنه كان بإمكان روسيا أن تستمر لسنوات أو عقود إذا لم تبدأ الحرب في أوكرانيا، لكن هذا الصراع سيوقع فرمان تفككها بطريقة سلمية أو عنيفة.

  • تشهد روسيا انقسامات داخلية وتمرد مجموعة “فاغنر”.. برأيك، ما تداعيات ما يحدث الآن على مستقبل البلاد؟

يمثل تمرد يفغيني بريغوجين، مرحلة في الأزمة الداخلية التي تعيشها روسيا، وقد تشكل الخطوة الأولى لحرب أهلية ناشئة. صحيح أن البلاد تجنّبت معركة دامية، إلا أن هذا التمرد كشف مدى ضعف النظام.

وبما أن جميع القوات الروسية موجودة في أوكرانيا الآن، فقد يكون من السهل على أعداء النظام المحليين أو الأجانب التدخل بسهولة.

  • أشرت في حوار سابق إلى أن بوتين متأثر بفيودور دوستويفسكي، وخاصة مقولته إن “العالم ممل أيها السادة”.. هل يمكننا تطبيق هذه المقولة على ما يحدث في روسيا الآن وعلى بوتين نفسه، وهل وُلدت الحرب من الملل؟

لا أعتقد أن بوتين متأثر بدوستويفسكي، لكن الروائي والفيلسوف الروسي يساعدنا على فهم بوتين بالتأكيد.

ففي روايته القصيرة “ملاحظات من تحت الأرض”، يحكي دوستويفسكي قصة شخصية مثيرة للشفقة تراكمت لديها مشاعر الحسد والمرارة لدرجة الرغبة في دفن هذا العالم المُمل والمتوازن والعقلاني بشكل مبالغ فيه، لينتهي بها المطاف إلى إهانة صديقته، وليؤدي ضجر هذه الشخصية إلى الدمار وتدمير الذات.

وبالتالي، يمكننا العثور على دافع دوستويفسكي في تصريحات وأفعال بوتين، لكن بطبيعة الحال هناك العديد من الأسباب والذرائع ـالحقيقية أو الوهميةـ لاندلاع الحرب الحالية.

  • قدّم بوتين نفسه بفكر حداثي منفتح في بداية مشواره السياسي، لكن ما دوافعه الحالية في فصل روسيا الحديثة التي تأسست طوال الـ30 عاما الماضية عن العالم الحديث؟

يمكن وصف قصة فلاديمير بوتين بـ”المأساوية”؛ فمن جهة، وصل إلى سدة الحكم بمحض الصدفة في وقت كانت تعاني فيه البلاد من اضطراب كبير. ومن جهة أخرى، أنهت هذه الأزمة وظيفته السابقة واحترامه لجميع المؤسسات التي كان يعرفها.

لقد ترك الرئيس الروسي قيمه وأفكاره الموروثة جانبا، مستثنيا واحدة منها: الحفاظ على وحدة بلده رغم أنه كان ينهار أمام عينيه. وخاض حربا تلو الأخرى وانتصر فيها وتعلم كيفية جني الأموال الطائلة دون لفت الانتباه، ولو بشكل نسبي. كما كان مقتنعا أن الكل يتعلق بالنفط والغاز فقط.

كما أنه استغل كل فرصة متاحة للبقاء في السلطة، والمفارقة أن هذه الفرص حصل عليها بشكل أساسي من أعدائه في الدول الغربية. وأصبح من أغنى الرجال في العالم لكنه ولد كراهية وغضب الأشخاص العقلانيين والمعتدلين من المال “الذي تعلم إخفاءه بمهارة”.

ولهذه الأسباب، قلت إنها قصة مأساوية وتشبه أحداث الفيلم الشهير “ستكون هناك دماء” المستوحى من كتاب “النفط”. كما أن انفجار بوتين الأخير أودى بحياة مئات الآلاف من الأشخاص الذين ادعى أنهم مواطنوه، سواء كانوا روسا أو أوكرانيين أو غيرهم.

  • الحرب الحالية تدمّر كلا الطرفين، هل يمكن أن يؤدي رد الفعل الهستيري الروسي على مساعدة الغرب لأوكرانيا وتحول الطاقة العالمي والعزلة السياسية إلى إلحاق الأذى بمصالحها مثل ما حدث في سد كاخوفكا؟

ألحقت الحرب التي احتلت فيها القوات الروسية شبه جزيرة القرم وأجزاء من منطقتي دونيتسك ولوغانسك في عام 2014 ضررا بمصالحها الوجودية.

في الماضي، لم يقبل حلف شمال الأطلسي انضمام روسيا ما أدى إلى خشية موسكو المستمرة من توسّع الحلف باتجاه الشرق. ويبدو أن الحرب الحالية أتت بنتائج عكسية إذ نرى أن فنلندا أصبحت عضوا في الناتو وقد تليها السويد قريبا، وربما أوكرانيا أيضا.

وصفت ما يحدث في كتابي بـ”الانتقام”، وهو مبدأ يلعب دورا رئيسيا في السياسة كما تُستخدم المحاكاة في الفنون. بمعنى آخر، يختلف الانتقام عن العدالة لأن هذه الأخيرة تحتاج إلى عامل ثالث، أي محكمة أو إله ليجعلها تتحقق.

وقد حدث شيء مشابه في سد كاخوفكا بعد أن دمرته القوات الروسية، ما ساعد الأوكرانيين على إعادة تشكيل صفوفهم ومحاربة الروس.

  • بين الماضي والحاضر، هل تعتقد أن مغازلة الكرملين للصين ودول أفريقيا سيكون مفيدا أو أنه سلاح ذو حدين؟

اتفقت الصين والهند على شراء النفط الذي كان مخصصا لأوروبا قبل الحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من فرض سقف لأسعار النفط وارتفاع نفقات النقل، تعتبر هذه التجارة مفيدة جدا لموسكو. وبفضل هذا التعاون، تحافظ روسيا على استقرارها الاقتصادي وتمويل حربها.

لذا، لن أقول إنها مجرد مغازلة وإنما علاقة جدية ومؤسفة، لكنني أؤكد أن هناك جانبا آخر لهذه القصة؛ فمن خلال أقواله وأفعاله، يوقظ بوتين الصدمات السياسية القديمة والمقموعة في كل مكان بالعالم. عندما يبرر حربه على أوكرانيا في صورة المظالم الروسية العميقة السابقة، يعيد إلى أذهان محاوريه من آسيا وأفريقيا الخسائر التي تكبدوها والإهانات التي عانوا منها في الماضي.

فعلى سبيل المثال، عانت الصين من حروب إمبريالية جائرة في القرن التاسع عشر حيث أدت هزيمتها في حربي الأفيون إلى خسارة مناطق شاسعة لها لصالح تحالف الدول الغربية، مثل هونغ كونغ ومنشوريا.

وعندما عادت هونغ كونغ إلى الصين بعد استيلاء الإمبراطورية البريطانية عليها، ضمت الإمبراطورية الروسية منشوريا، وهي الآن جزء من الاتحاد الروسي ـ الجزء الجنوبي من سيبيريا.

واليوم، عندما يخبر بوتين شي جين بينغ عن مظالمه التاريخية حول أوكرانيا، يتذكر نظيره الصيني إرث حروب الأفيون أو “100 عام من العار” كما يسميها الصينيون.

وفي السياق ذاته، أعتقد أن نقل القوات الروسية من الحدود الصينية إلى أوكرانيا سيفتح المجال أمام بعض الأسئلة المنسية، من قبيل “تمكنا من استعادة هونغ كونغ، فهل سنستعيد منشوريا؟”.

  • ــ لماذا كنت تعتقد أنه من المستحيل إزالة نظام بوتين وما الذي تغيّر؟

الجواب بسيط: اتبع المال.

خلال العقود الثلاثة الماضية، حصلت روسيا على معظم أموالها من النفط وذهبت الأرباح إلى خزينة الدولة ولم يستفد منها الشعب. بمعنى آخر، أصبحت دولة روسيا البترولية أكثر ثراءً وأثقل وزنا لدرجة جعلت من الصعب على شعبها الإطاحة بها.

واليوم، بدأت هذه الدولة “الطفيلية” الغنية وذات القوة الخارقة حربا لا يمكنها تحملها، ما سيؤدي إلى استنزافها من الداخل وانهيارها.

  • ما سبب “انقراض” الطبقة الفكرية في روسيا؟

لا تحتاج الدولة البترولية إلى مثقفين، فهي لا تعتبرهم أفرادا متهورين فقط بل تعتبرهم مصدر إزعاج محتملا.

في المقابل، نجد أن الاتحاد السوفياتي اعتمد على أيديولوجيته التي أنشأها ودعمها المثقفون، فقد أرادت الدولة السوفياتية، التي تنافس الغرب، تطوير معارفها وتقنياتها ومعداتها آنذاك. ورغم قمعها للمواطنين، فإنها حافظت على احترام مثقفيها المخلصين.

ثم جاءت الدولة البترولية ما بعد الاتحاد السوفياتي لتعيد تشكيل المشهد برمته، معتقدة أنها تستطيع شراء كل المعرفة والتقنيات الضرورية بجزء بسيط من عائداتها النفطية.

ويمكن القول إن طبقة المثقفين الحالية تعكس إرثا من الحقبة السوفياتية لكن بعد حرمانها من الدخل والاحترام داخل البلاد، بدأت في الاحتجاج ضد سلطة بوتين خاصة في عام 2012.

ومنذ ذلك الحين، تحول المثقفون إلى مصدر إزعاج للكرملين، ما أدى إلى موت بعضهم وهجرة آخرين، فيما اضطر الباقون لخدمة النظام.

  • برأيك، كيف سيصف المؤرخون في المستقبل دوافع بوتين للحرب بأوكرانيا؟

باختصار: فعل انتحاري لإمبراطورية في حالة انهيار.. الاختيار الخاطئ من قبل الشخص الخطأ.. نزوة التاريخ.. معركة عاجزة ضد الحداثة.

شاركها.
Exit mobile version