أفريقيا- في جولات سابقة بين بعض القرى والمدن في الشمال المالي، وقفت الجزيرة نت على الكثير من قصص المشردين الطوارق، واستمعت إلى حكايات الأسر الذين فرقتهم ويلات الحروب والتمرد والتهجير والجوع.

وفي بيت عائلة مولود (دليل سياحي) جاء أحمد وفاطمة وعائشة من مخيم اللاجئين في موريتانيا لزيارة خالتهم التي أصيبت في حادث أثناء رحلتها للبحث عن والدتها.

وأثناء تبادل أطراف الحديث، سرد أحمد الكثير من الأشياء التي كشفت عزلته عن معرفة العالم، ثم بدأ يروي قصة لجوئه وشهادته على ما يتعرض له الطوارق من إبادة، جازما أنها تمت على يد الجيش المالي.

ويحكي أحمد “كانت أمي تعد لنا الغداء حين وصل أبي هلعا وأخبرها أن قريتنا كارغاندو تعرضت لهجوم من الجيش، وأن الرجال أعدموا، والشيوخ أحرقوا أحياء، ففررنا تاركين كل شيء خلفنا، ومشينا 500 كيلومتر على أقدامنا إلى أن وصلنا إلى مخيم أغوغ على الحدود الموريتانية، وهناك مات أبي من شدة الإرهاق والتعب”.

ولم تنته مأساة أحمد هنا، إذ يكمل “كان سكان المخيم 4 آلاف لاجئ، ولم يكن الطعام كافيا ولا أواني الطبخ ولا الحطب. وحدها المدافن كانت كافية”.

3 مدافن كانت تستقبل “ما بين 15 إلى 20 جنازة في اليوم الواحد “وذات مرة مرضت أمي بعدما أكلت قمحا غير مطبوخ، وبعد 5 أيام انتهت رحلتها في الحياة، لنبدأ رحلتنا مع اللجوء واليتم”.

لاجئون غير معترف بهم

وبسبب عدم الاعتراف بهم لاجئين، لم يحصلوا على إغاثة من المنظمات الإنسانية الدولية إلا من بعض النشطاء المتطوعين. وفي هذا السياق يقول أحمد “بعد أسابيع جاء 3 أطباء فرنسيين وأحضروا معهم كمية كبيرة من الأدوية، وكنت برفقة أحدهم في جولته على أطفال المخيم المصاب أغلبهم بسوء التغذية، وكان في دفتره جدول من 3 أعمدة: أطفال قد يموتون اليوم، وأطفال قد يموتون غدا، وأطفال قد يموتون هذا الأسبوع”.

وبحسب أحمد، فقد وضع أسماء كثير من الأطفال تحت العمود الأول “إنهم أطفال زاروا كوكبنا لبضعة أيام وغادروه بذكريات مرعبة”.

وكانت مأساة أسرة أحمد جزءا صغيرا من مأساة جماعية عاشها جل الطوارق والعرب شمال مالي، 200 ألف منهم على الأقل لجؤوا إلى دول الجوار في ظروف مزرية، والبقية تفرقوا في صحراء لا نهاية لها، تماما كمعاناتهم.

ويروي الذين حضروا أحداث ثورة الطوارق في النيجر عام 1990، والتي استمرت حتى سنة 1996، شهادات عن جرائم فظيعة.

إيفارورن آغ عبد الله شهد أحداث ثورة الطوارق بالنيجر عام 1960 (الجزيرة)

وفي وقت سابق، قابلت الجزيرة نت إيفارورن آغ عبد الله، وكان شاهد عيان على أحداث ثورة 1990 حيث يقول “في مدينة غوندام (شرق تمبكتو) رأيت قائدا من الجيش المالي اسمه موسى بادوغو كوني يصفّ 10 طوارق مقيدين ويسكب عليهم البنزين ثم يوقد النار، ورأيت آخرين يعدمون أمام مقر الصليب الأحمر”.

ويضيف “لقد فقدنا الثقة بالعالم، وإلى الآن ورغم وجود القوات الأممية في تمبكتو وباقي المدن فإن جل الناس لم يعودوا إلى بيوتهم بعد”.

وكانت مأساة اللاجئين الطوارق والعرب بعد ثورة 1990 مزدوجة، إذ لم يعترف بمعظمهم كلاجئين، وبالتالي لم يحصلوا على الخدمات التي تقدمها منظمات الإغاثة الأممية كالتطبيب والتعليم، ويقول إيفارورن “قالوا لنا: أنتم رحل ولستم لاجئين”.

وانتهت ثورة 1990 بمقتل أكثر من 10 آلاف من الطوارق والعرب، أغلبهم نساء وشيوخ وأطفال، وكثير منهم قتلوا في طريق اللجوء، فالجيش لم يكتف باستهداف القرى والمدن، إنما أخذ يلاحقهم بالوديان وبين الكثبان. ويقول إيفارورن “صرنا طرائد للجيش، يطاردنا أينما توجهنا تنفيذا لأوامر قائد عسكري قال حينها: حل مشكلة الطوارق تكمن في إبادتهم”.

حاكم الإعدامات

وفي مشاركة للصحفي والناشط المدني أحمد الخميس نوح، مدير جريدة الاتحاد (تانمناك) قال “حين حصلت مالي على استقلالها سنة 1960 انتظر منها سكان الشمال من الطوارق والعرب تفعيل وثيقة سياسية وقعت مع أعيان المنطقة تقوم على منح الأزواديين حكما ذاتيا، لكن الحكومة المالية الشيوعية حينها أرادت دولة مركزية، وكان أول ما بدأت به هو تأميم ممتلكات السكان، فدعتهم إلى إحضار مواشيهم لتطعيمها، وحين فعلوا أخبرهم المسؤولون أنها صارت ملكا للدولة”.

وبينما كان الناس يتوقون للحرية بعد مغادرة فرنسا، ضاق عليهم الخناق أكثر فكانت ثورة كيدال سنة 1963 التي قررت مالي إخمادها بالحديد والنار عندما أرسلت حاكما عسكريا اسمه ديبي سلا ما زال الناس يتشاءمون من ذكره.

وعن جرائم ذلك الحاكم، يضيف نوح “ارتكب ديبي مذابح جماعية أعدم في إحداها 70 من خيرة علماء المنطقة، وفي أخرى 400 من النساء والشيوخ والأطفال، كما تمت إبادة قرى بأكملها”.

وكان سيلا يقوم بتعليق الضحايا في الساحات العامة لزرع الرعب في القلوب، كما قام بتجويع السكان عبر تدمير مخازن الغذاء وتسميم الآبار وتصفية قطعان الماشية، وحظر شراء المواد الغذائية على الطوارق.

وكما لم يتوقف التنكيل بالناس، بقيت المقاومة مستمرة دون توقف. وعن ذلك يحكي الصحفي قائلا “حين عجز الجيش عن قمع المقاومة أخذ ينتهك حرمات الناس وأعراضهم نكاية بقيمهم المحافظة، فقام بتعرية وجهائهم ونسائهم في الساحات العامة، بل قال لجنوده: نساء الطوارق لكم، افعلوا بهن ما شئتم. فأجبر الناس على تزويج بناتهم للجنود، وقد ينسى الناس القتل الذي تعرضوا له لكنهم لن ينسوا أبدا ولن يغفروا انتهاك أعراضهم”.

وتوقفت الثورة سنة 1964 عندما تم اعتقال قادتها بالجزائر والمغرب وتسليمهم للسلطة المالية، ولكن سياسة التجويع لم تتوقف، وحين ضرب الجفاف منطقة الساحل سنة 1973 استمر حظر المواد الغذائية على الطوارق، ثم وصلت شحنة حبوب كمساعدات إنسانية من دولة مجاورة، وعندما أكل منها الناس تسمموا، إذ كانت فاسدة أو تم تسميمها قصدا وفق البعض، واستمر هذا الوضع طوال 3 عقود ولم يتغير إلا بعد ثورة سنة 1990.

أحمد الخميس نوح مدير جريدة الإتحاد في نيامي - الجزيرة
نوح: ارتكبت حكومة مالي عام 1963 مذابح جماعية بحق الطوارق وأبادت قرى بأكملها (الجزيرة)

2012: العودة من جديد

عندما انسحب الجيش من الشمال انقلب قادة عسكريون على الرئيس المالي في 22 مارس/آذار 2012، متهمين إياه بالتساهل مع الطوارق. وفي الرابع من أبريل/نيسان 2012 أعلنت المفوضية العليا للاجئين أن أكثر من 200 ألف لاجئ نزحوا إلى الدول المجاورة.

وحكى السيد مولود أن الناس رأوا في الانقلاب مقدمة لحملة عسكرية تضطهدهم بنفس الأساليب السابقة فاندفعوا بالآلاف إلى دول الجوار، وفي باماكو تمت مهاجمة شركات الطوارق والعرب ومحلاتهم التجارية.

ويقول سيدي أحمد البكاي -وهو لاجئ سابق وتاجر في باماكو “لقد كانوا هائجين، ويكفي أن تكون بشرتك بيضاء حتى ينقضوا عليك، لقد قتلوا حتى بعض الجزائريين والمغاربة، وكان بعضهم يصيح: اقتلوهم هنا كما يقتلون إخوانكم في الشمال”.

أما في الشمال، فحين تدخلت فرنسا عسكريا غادرت الحركات المسلحة ليدخل الجيش مرة أخرى، وعند ذلك يحكي مولود “في حي أبارانجو في تمبكتو عاشت مئات العائلات العربية، لكنها غادرت حين دخل الجيش إلا 3 عائلات، منها عائلتا علي كبادي ومحمد الأمين”.

ثم استطرد مولود قائلا “لإثبات ولائه للدولة أخذ علي ولد كبادي (70 عاما) بقرة هدية للجيش، لكنه طرد فيما أخذت بقرته، وفي الغد تم اعتقاله واتهم بالتعامل مع المسلحين، وكُسر متجر ابنه ونهب، وفي اليوم الموالي وجد مقتولا، ولم يتم التعرف عليه إلا من ملابسه، حيث كانت ملامحه مشوهة”.

وفي نفس الأسبوع، اعتقل الجيش محمد الأمين وكان إمام مسجد، ثم بعد أيام وجدت جثته خارج المدينة، وتم قتله رغم وجود القوات الدولية.

أما في مدينة غاوا التي بقي فيها عدد أكبر من العرب، فقد تعرض فيها عدد من الشباب العرب للحرق أحياء في الساحات العامة.

وقد أخبرنا أحد الناشطين الحقوقيين بالمدينة، بعدما عرض علينا أشرطة مصورة لتلك الجرائم، أن المليشيات كانوا يقولون “لا نحب أن نراكم بيضا، وإنما سودا مثلنا” أي متفحمين، وقد حصلت جريمة موثقة من هذا النوع في غاوا بتاريخ 9 مارس/آذار 2015، وتمت بحضور الجيش المالي.

وحتى اليوم، فإن أعدادا هائلة من الطوارق ما زالوا لاجئين، كثير منهم عاشوا تجربة اللجوء مرتين أو ثلاثا. ومئات الآلاف منهم موزعون على دول الجوار، جزء منهم فقط معترف بهم لاجئين، بينما يحاول آخرون العودة إلى بيوتهم تدريجيا حالمين بأن تنتهي معاناتهم، وألا يأتي يوم يرحلون فيه عن أرضهم تاركين خلفهم ممتلكاتهم وأحبابهم وأحلامهم.

شاركها.
Exit mobile version