هل بدأت موسكو تتحسس «الخطر» من احتمال أن يكون الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد حسم «استدارته» السياسية من حربها مع كييف؟ سؤال تصاعدت التكهنات بشأنه في الأيام الأخيرة، في ظل تصريحات عدد من المسؤولين الأميركيين، بعضها كان يضفي مزيداً من الظلال على أن تكون استدارته هذه قد لا تعفي أوكرانيا من التداعيات المتوقعة عليها هي الأخرى، خصوصاً بعد تصريحات نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس.
فقد بدا أنه يمهّد الطريق لروسيا لإطالة أمد محادثات السلام ومواصلة حملتها العسكرية عندما صرّح لقناة «فوكس نيوز»، الخميس، بأن «هناك فجوة كبيرة بين ما يريده الروس وما يريده الأوكرانيون». وأضاف أن الولايات المتحدة «ستعمل بجد» لمدة 100 يوم أخرى؛ «لمحاولة جمع هؤلاء الأشخاص معاً». بدت تعليقات فانس متناقضة مع موقف متشدد اتخذه أعضاء آخرون في إدارة ترمب، بمن فيهم وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي حذّر مجدداً من ضرورة تحقيق تقدم في المحادثات «قريباً جداً»، وإلا فقد تقرر الولايات المتحدة التراجع عن محاولاتها للتوصل إلى اتفاق.
وبالمقابل، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب بدأ ينظر إلى النزاع في أوكرانيا «بشكل مختلف قليلاً»، بعد اللقاء بينهما في الفاتيكان في 26 أبريل (نيسان). وقال زيلينسكي في تصريحات حُظر نشرها حتى السبت: «أنا واثق من أنه بعد لقائنا في الفاتيكان، بدأ الرئيس ترمب يرى الأمور بشكل مختلف قليلاً. سنرى. إنّها رؤيته وخياره على أي حال».
وأضاف زيلينسكي أنه ناقش أنظمة الدفاع الجوي والعقوبات على روسيا خلال اجتماعه مع نظيره الأميركي دونالد ترمب، على هامش جنازة البابا فرنسيس في الفاتيكان، قبل أسبوع، والذي وصفه بأنه أفضل اجتماع بينهما على الإطلاق. وأضاف زيلينسكي، بحسب تصريحات نقلتها الرئاسة، أنه وترمب اتفقا على أن وقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً بين كييف وموسكو هو الخطوة الأولى الصحيحة نحو إنهاء حرب أوكرانيا. وذكر أنه أثار مسألة العقوبات خلال الاجتماع الذي عُقد دون إعداد مسبق، وأن رد الرئيس الأميركي كان «قوياً جداً». ولم يخض زيلينسكي في تفاصيل حول هذا الموضوع. وقال: «أبلغته بعدد (الأنظمة التي نحتاج إليها)، فأخبرني أنهم سيعملون على الأمر، وأن هذه الأشياء ليست مجانية».
الكونغرس يهدد بعقوبات
وبحسب وكالة «بلومبيرغ»، فقد أعد مسؤولون أميركيون مجموعة من الخيارات للرئيس ترمب لزيادة الضغوط الاقتصادية على روسيا. ونقلت عن مسؤولين قولهم إن ترمب لم يتخذ قراراً بعد في هذا الشأن، في ظل استمرار الجهود الدبلوماسية.
لكن مع إعلان السيناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام، هذا الأسبوع، أنه يحظى بدعم مجلس الشيوخ لمشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة ساحقة على روسيا، بدت مخاوف الكرملين حقيقية. فمشروع القانون يسعى إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 500 في المائة على الواردات من الدول التي تشتري النفط أو الغاز أو اليورانيوم الروسي، إذا لم تنخرط روسيا في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. وفي الأيام الأخيرة، ناقش مسؤولون أميركيون وأوروبيون فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، تؤثر على قطاعي البنوك والطاقة، بهدف الضغط عليها لدعم الجهود الدبلوماسية الأميركية لإنهاء الحرب.
تقول إيفانا سترادنر، الباحثة المتخصصة في الشأن الروسي، إن تصريحات المسؤولين الأميركيين تظهر نفاد صبر إدارة ترمب تجاه موسكو. وأضافت في حديث مع «الشرق الأوسط»، كان جي دي فانس مُحقاً عندما أكد أن الحرب «لن تنتهي قريباً». ورأت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير مُهتم بالمفاوضات الصادقة. إنه يحتاج إلى وقف إطلاق النار لكسب المزيد من الوقت، ولإعادة تموضع جيشه، ولمواصلة طموحاته الإمبريالية لاستعادة «مجد روسيا»، وإظهار روسيا قوةً عظمى. هدفه النهائي هو إخضاع أوكرانيا، وإظهار أن «الناتو» مجرد نمر من ورق في دول البلطيق.
من ناحيته، يقول مايكل روبين، كبير الباحثين في الشأن الروسي في معهد «أميركان إنتربرايز»، إن تصريحات كلٍّ من فانس وروبيو السابقة لم تُسهم في حل الأزمة الأوكرانية، لكنها على الأرجح عكست تفكير ترمب. وأضاف قائلاً لـ«الشرق الأوسط»: «الآن، وبعد أن غيّرا موقفهما من أي احتمال لحل سريع، يُرجّح أن يعكس ذلك واقعية ترمب في أن بوتين لن يُحقّق السلام».
وسعت موسكو وكييف إلى إلقاء اللوم على بعضهما لعدم إحراز تقدم نحو السلام الذي قال ترمب في البداية إنه يستطيع تأمينه في غضون 24 ساعة من توليه الرئاسة. لكن بعد خلافاته الأولية مع الرئيس الأوكراني، بما فيها اتهامه باستفزاز الغزو الروسي، ركز ترمب غضبه بشكل متزايد على إطالة أمد المفاوضات، ورفض روسيا الواضح لوقف إطلاق النار الذي اقترحته الولايات المتحدة لمدة 30 يوماً، والذي أيدته كييف على الفور.
محاولات روسية للالتفاف
وقد يخيّم ترك مايك والتز، مستشار ترمب للأمن القومي، منصبه وتعيين ماركو روبيو مؤقتاً مكانه، على المداولات حول الخطوات التالية في هذا الملف. وقد يُسهم هذا الأمر «في تبسيط الاستراتيجية الأميركية»، حيث يتولى روبيو كلا المنصبين؛ إذ إن نهج البيت الأبيض تجاه أوكرانيا «كان مدفوعاً بأفكار مختلفة لكبار المسؤولين، بمن فيهم ويتكوف، الذي يُعدّ أكثر تعاطفاً مع مواقف روسيا».
يقول جون هاردي، كبير الباحثين في الملف الروسي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهو مركز أبحاث جمهوري داعم لإسرائيل، إنه بدلاً من التهديد بالانسحاب من محادثات السلام، ينبغي على إدارة ترمب التركيز على التهديد بممارسة ضغوط أكبر على موسكو، مثل فرض عقوبات أشد على عائدات النفط الروسية. وأضاف في حديث مع «الشرق الأوسط» أنه يتعين على الرئيس ترمب تنفيذ وعده إذا استمر بوتين في تصلب موقفه.
وأضاف هاردي:« في غضون ذلك، ينبغي على ترمب أن يطلب من الكونغرس إقرار حزمة دعم أوكرانيا التي توفر له المزيد من تمويل المساعدات، ليعلم بوتين أنه لا يستطيع انتظار انتهاء المساعدات العسكرية الأميركية لكييف (في ظل تكهنات من أن يؤثر الانسحاب الأميركي من عملية السلام على مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا».
اتفاقية المعادن تقلق روسيا
من جانب آخر، وافقت إدارة الرئيس دونالد ترمب، الجمعة، على توفير التدريب وقطع الغيار لمقاتلات «إف – 16» التي تسلّمتها أوكرانيا، في صفقة كان الرئيس السابق جو بايدن قد أعطى الضوء الأخضر لها بعد الغزو الروسي. وأعلنت الخارجية الأميركية أنها أخطرت الكونغرس بموافقتها على صفقة لأوكرانيا بقيمة 310 ملايين ونصف مليون دولار، تشمل تزويدها بمعدات وخدمات لصيانة طائرات «إف – 16». وقالت الخارجية في بيان: «إن الصفقة المقترحة من شأنها تحسين قدرة أوكرانيا على مواجهة التهديدات الحالية والمستقبلية من خلال ضمان تدريب طياريها بشكل فعال، وتعزيز التشغيل البيني مع الولايات المتحدة».
وتأتي الصفقة التي ستسدد أوكرانيا ثمنها، بعد انتقادات ترمب المتكررة للدعم العسكري والاقتصادي الذي قدمه بايدن لكييف بمليارات الدولارات.
ووقّعت واشنطن وكييف، الأربعاء، اتفاقاً لاستغلال المعادن والنفط والغاز في أوكرانيا تقول الإدارة الأميركية إنه يهدف إلى تعويضها عن المساعدات الكبيرة التي قدّمتها لأوكرانيا للدفاع عن أراضيها منذ بدء الغزو الروسي.
وتلقت أوكرانيا أولى شحنة من مقاتلات «إف – 16» منتصف عام 2024، بعد ممارستها ضغوطاً لعامين على بايدن الذي كان قلقاً من أن يؤدي نقص التدريب لدى الطيارين الأوكرانيين إلى خسارة هذه الطائرات.
وأعلنت أوكرانيا، الشهر الماضي، مقتل طيار لطائرة «إف – 16» خلال القتال، وهي الخسارة الثانية التي تلحق بهذه الطائرات منذ تسلمها. وأعلن زيلينسكي في مارس (آذار) الماضي، عن تسلم دفعة جديدة من الطائرات المقاتلة، دون أن يحدد عددها.
بيد أن تزايد القلق في موسكو من أن تفقد روسيا تفوقها في المحادثات مع الولايات المتحدة بشأن حرب أوكرانيا، عززه توقيع كييف أخيراً اتفاقية شراكة اقتصادية تمنح واشنطن وصولاً تفضيلياً إلى صفقات المعادن الأوكرانية المستقبلية. وهو ما انتقده المسؤولون الروس، وعدّوه «خطوة رئيسية أخرى نحو استعمار أوكرانيا»، في محاولة للتقليل من أهميته. ومع ذلك، كان التوتر واضحاً بين النخبة الروسية من أن الاتفاقية قد تمثل تحالفاً جديداً بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، مما قد يغلق نافذة فرصة أمام روسيا لتأمين اتفاق سلام بشروط مواتية.
تقول الباحثة إيفانا سترادنر إن صفقة المعادن تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، وتُتيح لأوكرانيا نفوذاً أكبر على الولايات المتحدة. وأضافت: «الآن، الكرة في ملعب بوتين، وعلى واشنطن أن تُزيد الضغط على الكرملين. وفي غضون ذلك، ستلجأ موسكو إلى آلتها الدعائية لتصوير الولايات المتحدة كجهة إمبريالية شريرة».
غير أن الباحث مايكل روبين يرى أن هذه الاتفاقية لا تكفي وحدها لضمان عدم تغيير ترمب لرأيه مجدداً، ولكن بما أن ترمب ينظر إلى العالم من خلال ميزانيته التجارية، فسيكون هذا مفيداً في إقناع ترمب.
بدوره، يقول الباحث جون هاردي إن صفقة المعادن تعد مهمةً بالدرجة الأولى لأنها تمنح ترمب نصراً وحصة في مستقبل أوكرانيا. لكن عليه أن يتذكر أن الاتفاقية ستكون بلا قيمة ما لم تحصل أوكرانيا على الأسلحة التي تحتاج إليها، الآن وفي المستقبل، لتحقيق السلام وضمان استمراره.
ونقلت وسائل إعلام أميركية عن مسؤول روسي ومحللين قولهم إن أي تراجع في العلاقات الأميركية – الروسية المتنامية قد يلقي بظلاله على احتفال بوتين في 9 مايو (أيار)، ويزيد الضغط على روسيا للموافقة على وقف إطلاق نار أكثر جدية.
وقال مسؤول روسي إن الضغوط تتزايد الآن على بوتين ليبدو على الأقل وكأنه يقدم المزيد من التنازلات. وأضاف المسؤول: «إنه يدرك حاجته إلى مزيد من التعاون، وإلا فإن مشروع القانون الذي قدمه غراهام سيُمثل ضربة موجعة؛ لأن الحكومة أعلنت بالفعل عن تزايد عجز الموازنة». وأشاد وزير الخزانة سكوت بيسنت باتفاقية المعادن، الخميس، معتبراً أنها تُظهر «للقيادة الروسية أنه لا يوجد فرق بين الشعب الأوكراني والشعب الأميركي، وبين أهدافنا». وأضاف أن ذلك سيسمح لترمب بالتفاوض مع روسيا على أسس أقوى.
“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}