أجبر التمرد المسلح لمجموعة «فاغنر» الروسية الخاصة بقيادة يفغيني بريغوجين، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العودة إلى شاشات التلفزيون. والآن يظهر الرئيس بشكل يومي على الهواء؛ حيث ألقى خطابين طارئين (وهو اتجاه غير معتاد بالنسبة للكرملين)، وعقد لقاءً مع مسؤولين أمنيين والتقى حشوداً من الناس في داغستان وقام بتحيتهم (وهو شيء لم نره منذ ما قبل جائحة كورونا).

وقد أصبح ظهور بوتين أمام وسائل الإعلام الآن أكثر تكراراً مقارنة بظهوره عندما بدأ الحرب على أوكرانيا العام الماضي أو عندما أعلن التعبئة العامة في سبتمبر (أيلول) الماضي.

وتقول ألكسندرا بروكوبينكو، الباحثة غير المقيمة في مركز كارنيغي روسيا أوراسيا، في تقرير نشره موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن أسباب هذا التغيير واضحة، وهي أن «مسيرة العدالة» التي قام بها بريغوجين صوب موسكو كانت صدمة غير مسبوقة للمجتمع الروسي، ولبيروقراطيته ولمسؤوليه الأمنيين. لقد كانت انتهاكاً لقواعد اللعبة غير المكتوبة وكذلك لقوانين الاتحاد الروسي على حد سواء.

وبينما كان يسعى الجميع إلى سماع تفسير من الرئيس الأسبوع الماضي، تحدث بوتين فقط عن دولة اتحدت صفوفها في وجه الخطر وعن بطولات الأجهزة الأمنية (التي لم تفعل في الحقيقة أي شيء). وبشكل عام بدا بوتين شخصاً منفصلاً للغاية عن الواقع. وعلى الرغم من ذلك فإن سلوكه أثناء الأزمة، كان بطريقة غريبة، نتيجة لجهود الكرملين لتشكيل الواقع.

وقالت بروكوبينكو، خريجة جامعة موسكو والحاصلة على الماجستير في علم الاجتماع من جامعة مانشستر، إن الركيزتين اللتين يعتمد عليهما نظام بوتين هما الدعاية الإعلامية والأجهزة الأمنية. وقد أضر تمرد «فاغنر» بالاثنتين. فقد اهتزت سيطرة الكرملين بشكل خطير على فضاء المعلومات في بداية التمرد عندما صمتت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، وأصبح المصدر الوحيد للمعلومات بشأن ما يحدث هو بريغوجين، الذي استغل وسائل التواصل الاجتماعي وإمبراطوريته الإعلامية بشكل جيد.

وعندما سيطرت مجموعة «فاغنر» على مدينة روستوف أون دون خلال ساعات، لم يكن لدى الآلة الإعلامية أو قادة البلاد ما يقولون في مواجهة رواية بريغوجين. نتيجة لذلك، كان بريغوجين مسيطراً تماماً على الصورة الإعلامية، وكان مصدر كل المعلومات بشأن ما يحدث، فلم يرَ أحد رتلاً يتألف من 25 ألفاً من عناصر «فاغنر» يتقدم صوب موسكو، ولكن الجميع علم بشأن ذلك.

ورأت بروكوبينكو أن الكرملين دخل بشكل جدي في المعركة الإعلامية في الصباح التالي من خلال خطاب تلفزيوني لبوتين. وتحدث الرئيس عن الموقف الميؤوس منه للمتمردين وعن الوطنية والتضامن والجنود المحترفين، إلا أن ما قاله لم يكن متسقاً مع الواقع، فكل ما قامت به الأجهزة الأمنية هو حفر بعض الطرق، ومعظم المدنيين كانوا مشغولين بشراء عملة أجنبية ونشر العبارات الساخرة. ولكن خطاب بوتين لم يكن موجهاً للشعب المرتبك وإنما كان مخصصاً للآلة الإعلامية.

وقالت بروكوبينكو إن الخطاب قدّم رواية عن شعب وطني يفترض أنه يعارض التمرد وجنود أبطال يؤدون واجبهم بشجاعة. وعندما أنهى بوتين خطابه، قفزت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة لنقل الرسالة. وكرر بوتين تفسيره للأحداث في خطابه التلفزيوني الثاني، الذي أعرب فيه عن شكره للشعب الذي احتشد حول السلطات. وأخيراً، ولتأكيد روايته، التقى بوتين مع رؤساء وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة ومجموعة مختارة من مراسلي الحرب.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء إلقائه خطاباً موجهاً لمواطنيه بعد تمرد «فاغنر» (أ.ب)

ورأت بروكوبينكو أن كل هذا يثبت مجدداً أنه بالنسبة للرئيس الروسي، هناك طريقتان فقط لرؤية العالم: طريقته هو والطريقة غير الصحيحة. فقد حدد «ما الذي حدث حقاً» وبمساعدة الدعاية، كان من المفترض أن يتجذر هذا في عقول الروس العاديين.

وأوضحت بروكوبينكو، التي عملت في وقت سابق لدى البنك المركزي الروسي، أنه بالتوازي، كان بوتين مشغولاً بإصلاح الضرر الذي لحق بالركيزة الثانية لنظامه، وهي الأجهزة الأمنية. وعلى الرغم من أن الأجهزة الأمنية الروسية المتعددة لم تفعل بالضبط أي شيء خلال معظم التمرد قصير الأمد، رسم الرئيس صورة مختلفة تماماً، وهي أن كل رجال الأجهزة الأمنية، بالنسبة له، كانوا أبطالاً ووطنيين منعوا حدوث «أسوأ سيناريو ممكن».

وأشارت بروكوبينكو إلى أن الطريقة التي يرى بها بوتين نجاح القوات الأمنية تكمن في حقيقة أنهم قاوموا إغراء الانضمام إلى بريغوجين. وكان عدم القيام بأي شيء أفضل من الانضمام إلى المتمردين.

وكان العنصر الأخير في رواية بوتين للأحداث هو إنكار حقيقة أن التمرد كشف عن خلافات عميقة داخل الأجهزة الأمنية، وإعادة وصف بريغوجين من «بطل باخموت» إلى «رجل الأعمال الخائن» الذي اختلس أموال الدولة. الآن سيؤكد ممثلو الادعاء المبالغ التي سرقتها شركة بريغوجين «كونكورد» من مناقصات الدولة، وستقوم وزارة الدفاع باستيعاب مجموعة «فاغنر» وستحاول الدولة استعادة احتكارها للعنف.

وأشارت بروكوبينكو إلى أن التمرد سلط الضوء على أزمة إدارة في النظام السياسي الروسي والتناقض الكبير داخل القوات المسلحة الروسية. ولكن يبدو أن الكرملين لا يعتزم اتخاذ أي إجراءات رداً على ذلك، بعيداً عن تحديد كيفية صياغة وسائل الإعلام الرسمية للحدث.

وأكدت أن بوتين لا يحب اتخاذ قرارات تحت ضغط أو إقالة مسؤولين خدموا لفترة طويلة، لذلك فإنه من المرجح أن يحتفظ وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري جيراسيموف بمنصبيها. وتبدو التقارير بشأن اعتقال الجنرال سيرغي سورفيكين، الذي لم يكن شخصية عامة للغاية قبل التمرد، أنها صراع داخلي أكثر من أي شيء آخر. ومن غير الواضح حالياً، ما إذا كان من المنتظر أن تكون هناك تغييرات في القيادة العسكرية.

ورغم أنه من الواضح أن تمرد بريغوجين كان نتيجة لحرب أوكرانيا، من المرجح ألا يؤدي إلى أي أفكار بشأن إنهاء الحرب؛ حيث إن بوتين هو المستفيد الرئيسي من «حرب لا نهاية لها».

وربما يكون النظام قد نجا من التمرد، إلا أن الضرر الذي تسبب فيه سوف يستمر لمدة طويلة. وفي حين أنه ربما يبدو أن بوتين تعامل بنجاح مع تداعيات التمرد من خلال تجاهل المشكلة وتسليم جوائز، فإن الواقع هو أن الضغوط على النظام لا تزال مستمرة. وسوف تؤدي عمليات القمع والتطهير التي يتوقعها الكثيرون الآن إلى تفاقم هذه الضغوط.

واختتمت بروكوبينكو تقريرها بالقول إن نظام الإدارة السياسية في روسيا يواجه أزمة عميقة لأنه يتجاهل المشكلات الحقيقية ويهتم فقط بتصور بوتين للواقع. وقد ازدادت هذه الأزمة عمقاً بسبب الحرب وتضاؤل الموارد. وقد تكون محاولة إصلاح المشكلات بالعلاقات العامة والخوف المتزايد من الأجهزة الأمنية حلاً مؤقتاً، لكنها لا يمكن أن تكون حلاً دائماً للمشكلات.

شاركها.
Exit mobile version