لم يكن عبد الحليم حافظ مطربا محظوظا في حقبته الزمنية فقط، بل استطاع بحضوره السينمائي أن يغير القوالب النمطية التي قدمها أغلب مطربي المرحلة في أفلام الخمسينيات، وتحديدا عقب ثورة يوليو/تموز 1952، ليعلن انتهاء زمن الشاب الأرستقراطي لصالح الحالم المكافح الذي يشبه الكثير من الشباب في تلك المرحلة الزمنية، ويقترب من أحلامهم وأفكارهم، وخدم هذا الطرح بنية “حليم” الجسدية وملامحه البسيطة وبشرته السمراء.

السعي والاجتهاد

الانتصار والوفاء للموهبة والسعي وراء تحقيق الأحلام والفقر سمات الشخصيات التي قدمها عبد الحليم بخطواته الأولى في عالم التمثيل الذي بدأه عام 1955 بـ 4 أفلام، ليقدم شخصيات تشبه روح عصر ما بعد الثورة، ففي فيلم “لحن الوفاء” الذي شاركته بطولته شادية وهو أيضا أول ظهور له على الشاشة قدم “حليم” شخصية جلال الشاب اليتيم الذي تبناه الموسيقار علام ودعم موهبته، ليجتهد من أجل الحفاظ عليها. وحين يقع في أزمة خلال الأحداث، لا يجد سبيلا غير الاعتراف بالجميل والعرفان لفضل أستاذه الذي رباه.

وفي “أيامنا الحلوة” وهو بطولة مشتركة مع النجوم فاتن حمامة وعمر الشريف وأحمد رمزي، كان عبد الحليم نموذجا للشاب الفقير المكافح الذي يعيش مع زملائه حياة بسيطة من أجل الانتهاء من دراسته ويساعد جارته الشابة التي تقع تحت وطأة المرض.

وهو الشاب الذي يعاني أيضا الحرمان من حنان الأب، لكن ذلك لم يقف عائقا أمام اجتهاده الدراسي وحسن خلقه في فيلم “أيام وليالي” وهو الموظف المثالي المبتكر لأحد الاختراعات الهامة في “ليالي الحب”.

4 شخصيات أسست لنموذج الشاب المكافح المجتهد الذي سار “حليم” على خطاه في أفلامه اللاحقة.

حليم.. غنوة لكل الناس - الجزء الأول

بساطة الصورة والتفاصيل

بعد عام قدم عبد الحليم 3 أفلام أخرى، وقف خلالها بطلا أمام كل من فاتن حمامة في “موعد غرام” وشادية في “دليلة” ثم ماجدة في “بنات اليوم” وهي المرحلة التي أسست لسطوع نجمه ليصبح في أعماله المقبلة البطل الرئيسي الذي تدور حوله الأحداث في “فتى أحلامي” و”الوسادة الخالية” و”شارع الحب”.

وظهور “حليم” في تلك الأفلام حقبة الخمسينيات من القرن الماضي أكد على التحول المجتمعي عقب الثورة، فاعتمد على بساطة الملامح والتفاصيل مثل المسكن والملابس وحتى تصوير الأغنيات، فلم يقدم أغنياته في “تابلوهات” استعراضية على غرار تجارب من سبقوه مثل محمد فوزي وفريد الأطرش وحتى عبد الوهاب.

وغنى “لحن الوفاء” على المسرح، و”أنا لك على طول” في “قارب على النيل” وركب الدراجة في “حاجة غريبة” وفي فيلم “معبودة الجماهير” وغيرها من الأغنيات التي غير من خلالها “حليم” من صورة المطرب في السينما، فلم يعد الشاب الثري الذي يعيش في القصور ويظهر في”أوبريتات” تتسم بالفخامة.

عدم الاستسلام

ظلت صورة “العندليب الأسمر” السينمائية معبرة عن جيله وعصره في أفلامه اللاحقة، ففي “الوسادة الخالية” قدم نموذج “صلاح” البطل الذي لم يستسلم للخسائر التي مر بها بل حولها إلى دافع من أجل تحقيق ذاته وتحسين ظروفه الحياتية، ليجتهد في دراسته ومن بعدها في عمله محققا إنجازات جعلته محط احترام الجميع.

وفي “شارع الحب” هو منعم صبري مدرس الموسيقي الذي يحاول أن يحصل على لقمة العيش من خلال موهبته، ومن أجل الوفاء لمن دعموه وهو صغير بعد أن فقد والديه.

وتكرر الأمر في “حكاية حب” فهو الشاب المخلص لأمه الكفيفة وشقيقه الأصغر، محاولا أن يحسن مستواه المادي معتمدا على موهبته.

واستمر مشواره مع التمثيل في أفلام مثل “يوم من عمري” و”البنات والصيف” و”الخطايا” و”معبودة الجماهير” و”أبي فوق الشجرة” ليصبح رصيده السينمائي 16 فيلما قام ببطولتها ونجح من خلالها في الابتعاد عن صورة المطرب النمطية على الشاشة، وأن يصبح بطلا حقيقيا يحاكي قصص كفاح شباب تلك المرحلة، وربما يخدم رسالة سياسية تتوافق مع أهداف ثورة يوليو، مفادها أن للبسطاء الحق في تحقيق أحلامهم وتغيير حياتهم، ليصبح بعدها عبد الحليم واحدا من أهم مطربي القرن العشرين.

تأثير مستمر

القصص الإنسانية التي جسدها عبد الحليم على الشاشة لم تبتعد كثيرا عن حياته في الواقع الذي عاشه، حيث رحلت والدته وهو طفل رضيع لا يزال في أيامه الأولى، ومن ثم رحل الأب قبل أن يتم عامه الأول ليصبح يتيم الأبوين، وعاش لسنوات في إحدى دور الأيتام، كما قضى جزءا من حياته تحت رعاية خاله.

فكان يلعب مع الأطفال في القرية ليصاب بمرض البلهارسيا الذي تسبب في معاناته الصحية خلال حياته، حيث أجرى ما يقرب من 61 عملية جراحية.

غير أن هذه الطفولة الصعبة لم تمنع عبد الحليم من تحقيق حلمه بعالم الغناء والتمثيل، حتى بعد أن نهره الجمهور في أولى حفلاته حين غنى “صافيني مرة” لكن ذلك لم يقلل من عزيمته، كحال الشخصيات التي قدمها على الشاشة، وهو ما عزز مصداقيته لدى الجمهور الذي منحه الحب الجارف فاعتلى مكانة كبيرة سواء بتجاربه التمثيلية -التي رغم قلتها- تركت بصمة بالسينما، وأيضا رصيده الغنائي سواء أغنياته العاطفية أو الوطنية وأيضا القصائد التي برع في تقديمها.

شاركها.
Exit mobile version