خلال حملته الانتخابية للرئاسة الأميركية، استعان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بعبارة كتبها وليام فوكنر في إحدى رواياته، وهي تقول “إن الماضي لم يمت ويدفن، لأنه في الحقيقة ليس ماضيًا”.

وعندما التقى الرئيس الأسبق بيل كلينتون والروائيان الكولومبي غارسيا ماركيز، والمكسيكي كارلوس فوينتس، في جلسة عشاء، راحوا يتبادلون الحديث في الأدب، حتى جاءت اللحظة التي أشار فيها فوينتس إلى رواية فوكنر “ابشالوم ابشالوم” عندها هب كلينتون واقفًا، وراح يلقى مونولوغًا طويلًا من رواية “الصخب والعنف” التي كتبها فوكنر أيضًا.

وما فعله كلينتون كان يشير، بتلقائية، إلى الأثر الذي تركته تلك الرواية منذ صدورها عام 1929، وما رسخته في الرواية العالمية ومفاهيمها من جيل إلى جيل. وهو الأمر الذي جعل من فوكنر واحدًا من أكثر الروائيين تأثيرًا في الكتاب وحتى في العديد من السياسيين خلال القرن العشرين وما بعده.

وهذا التأثير هو الذي أكد عليه ماريو فارغاس يوسا الروائي الحائز على جائزة نوبل، حين قال إن تأثير فوكنر كان كبيرًا جداً على أعماله، وعلى كبار الكتاب، لأنه اخترع نظاماً عالمياً للرواية، وابتكر حبكة جيدة للقصة، وأدخل إلى النثر الإثارة والترقب.

غلاف الرواية (الجزيرة)

متعة الكتابة

المكانة الكبيرة -التي بات فوكنر يحتلها في خريطة الرواية العالمية- لم تأت بسهولة، فرواياته الأولى لم تلقَ نجاحًا، ولم يعجب بها لا النقاد ولا القراء، لكن على الرغم من ذلك، واصل فوكنر الكتابة، بعد أن بات على قناعة من أنها هي الممارسة الوحيدة، القادرة على إشعاره بالمتعة، في الوقت الذي اكتشف فيه حقيقة أن العوالم التي يتشكل منها مسقط رأسه تستحق الكتابة، وأنه لن يستطيع طوال حياته التوقف في أي وقت عن الكتابة عنها.

وهذا ما رأى فيه يوسا تشابها مع عوالم أميركا اللاتينية، وعلى وجه الخصوص، ذلك المجتمع الريفي الذي يحتوي على الكثير من العناصر الإقطاعية والإثنية، مؤكدًا أن هذا التقارب جعل كثيرا من الروائيين اللاتينيين يتأثرون به.

وحين تحدث يوسا عن تجربته مع تأثيرات فوكنر، راح يقول “اكتشفته حين كنت شاباً، وقد انبهرت من طريقته البارعة في تنظيم الحبكة، الزمن المتشابك، وطريقته في توليد الأحداث”. وهو ما دفع يوسا إلى التأكيد على أنه لا يوجد كاتب من أميركا اللاتينية، من الجيل الذي ينتمي إليه، لم يتأثر بشكل مباشر بفوكنر.

واقعية جديدة

لم تكن روايات فوكنر سهلة، لا في قراءتها، ولا في تقليد الكتاب الآخرين لها، والسبب يعود إلى أنه ابتدع أسلوبًا روائيًا خاصًا، يعتمد تيار الوعي، وساهم ذلك في تمكينه من تقديم روايات مهمة، استحق عنها جائزة نوبل عام 1950.

وإذا ما تأملنا في خلفية الروايات التي كتبها فوكنر، لوجدناها محلية، حتى وإن اتخذت الموضوعات الرئيسية فيها ملامح ذات طابع شمولي إنساني. فما قدّمه فوكنر، لم يكن معنيًا من خلاله بتقديم صورة عن الجنوب، قدر ما كان مهتمًا بالكتابة عن أزمة الجنوب، وقد استطاع عبر ذلك، أن ينفذ إلى أعماق العقل الجنوبي، مبتعدًا عن الواقعية التي تعني بنقل الصور المطابقة للأصل، وساعيا للوصول إلى الواقعية الجديدة.

وهذه الرؤية هي التي كانت وراء تناوله، وإن كان بالنقد، مختلف مظاهر الحياة الحديثة التي فُرضت على الجنوب، وإلى توجيه الانتقادات لما أسماه بالانحلال المتعلق بالقيم الخلقية، والذي كان مدفوعا بضغوط تجارية، وأيضا بالثمن الكبير الذي يدفعه الإنسان، ومخاوفه بشأن العزلة الضاربة في نسيج مجتمع، اختفت منه السمات الرئيسية لشخصية الفرد، وانهارت فيه الحساسية الفردية، والأخلاق الطيبة، أمام موجة موغلة في الجشع.

سرد القصص

تمتلك رواية “الصخب والعنف” لفوكنر نوعًا خاصًا من سرد القصص. ففي مستهلها يعني الكاتب أولًا بسرد تاريخ عائلة كومبسون، بشكل غير واضح، من خلال شخصية معاق ذهنيًا. لأنه على الرغم من أنه كان يبلغ 33 عامًا من عمره، فإن مستوى تفكيره لم يكن يتخطى مستوى تفكير طفل صغير يبلغ من العمر 3 سنوات.

وتتابع الرواية أحداثها مع هذا الشخص، حتى يقدم في النهاية على الانتحار. لتستعرض الرواية بعد ذلك تفاصيل الحياة المعقدة والصعبة، الخاصة شقيقته كانديس، وشقيقه جاسون الذي سيلحق الضرر فيما بعد بعائلته.

بينما ستكون خاتمة الرواية على لسان الراوية ديلسي التي تعمل خادمة لدى عائلة كومبسون. وهي التي تراقب كافة الأحداث من بعيد، وهي الشخص الذي يتحكم في كل شيء، ويعرف عنهم كل أمور حياتهم.

مكان متخيل

تخيل فوكنر لنفسه منطقة خيالية، أسماها “بوكتبا تاوفا” وجعلها مسرحاً لأحداث معظم رواياته، ساعيا من خلال ذلك إلى صنع واقعه بنفسه. وفي قلب هذا العالم، هناك مدينة باسم “جيفرسون” ومن خلالها قام برصد كل ما يحدث في الجنوب الأميركي، كما كانت له رؤيته الخاصة لعالم هذه المنطقة، فهي معبقة بالانحلال والخطيئة، والكبت والقسوة والعنف، وفي هذه الروايات، ذات الأعداد القليلة من الشخصيات السوية، تتدافع الذكريات من رؤوس الشخصيات، لتعلن عن تجارب قاسية وأليمة.

ولا يميل فيها فوكنر -ولا في مختلف أعماله- إلى الشرح والتفسير لما يدور، بل يحرص على تقديم تفاصيل الحياة، مثلما يحياها الناس في حياتهم اليومية، بكل ما فيها من فوضى وتناقضات.

وهذه الحكاية التي تدور أحداثها في بقعة جغرافية مُتخيلة في منطقة الميسيسبي، جميع أبطالها من عائلة مسكونة بأمجاد شرف يخص ماضي أجدادها بالجنوب الأميركي. وهذه البقعة في النهاية مقاطعة متخيلة، اخترعت لتكون مسرحاً للأحداث الأساسية في رواياته، غير أنها ترتبط بالأماكن التي عاش فيها فوكنر، والبشر الذين عرفهم، بينما تعتبر عائلته ذات تأثير في تاريخ ولاية الميسيسبي، لأن أحد أجداده كان النموذج الذي صاغ على غراره شخصية “جون ساراتوريس” في أكثر من رواية من رواياته، وكان هذا الجد محامياً وجندياً ورساماً، كما أنه شارك في بناء سكة الحديد هناك.

ونشأ فوكنر في كنف عائلة متأثرة بالتقاليد والعادات والقصص المحلية والحكمة، والفكاهة الشعبية الريفية، والروايات البطولية والمآسي عن الحرب الأهلية الأميركية. ولعل هذا هو ما دفعه إلى الحرص في معظم أعماله الروائية على تسجيل تفاصيل شهادته المتعلقة بالتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي طرأت على الجنوب الأميركي.

ربيع الشعوب - الثورة الأمريكية

رواية الروائيين

لاقت رواية “الصخب والعنف” إقبالاً كبيرًا من النقاد، منذ نشرها، فقد اعتبرت بمثابة رواية الروائيين، في تركيبها الفني الذي يعد في براعته معجزة من معجزات الخيال، دون أن يعني هذا القول إنها بعيدة عن المؤثرات الأدبية والعلمية الأخرى، خاصة المنجزات التي شهدها علم النفس الحديث. ففي هذه الرواية، استطاع فوكنر أن يقدم سردًا للأحداث على عدة مستويات، من الزمن والوعي، حتى أن علامات الترقيم غابت عنها في كثير من الأحيان، في الوقت الذي تأثرت فيه هذه الرواية بالعديد من الاتجاهات الأسلوبية التي عرفتها العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وهي فترة من أهم الفترات وأخصبها في تاريخ الرواية، ليس بسبب ظهور عدد من الروائيين الكبار فيها، بل أيضًا لكثرة التجارب التي طرحت، ونجاح الكثير من هذه التجارب في فن القصة.

وفي الوقت نفسه، لمعت في هذه الفترة أسماء شعراء ساهموا في تغيير أشكال الأدب، ومن بينهم ت. س. إليوت وإزرا باوند، بالإضافة إلى ظهور منجزات روائية تنتمي إلى الرواية الحديثة، مثل رواية “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست، “ويوليسيس” لجيمس جويس، نظرا للتركيز على الأهمية القصوى للاشعور.

وهو الأمر الذي أثر بشكل واضح على رواية “الصخب والعنف” حتى أن العنوان قد استعير من أحد المقاطع التي تضمها مسرحية “ماكبث” لوليام شكسبير، التي لم يكتف فوكنر بأخذ العنوان منها، وإنما حاول أن يجسد في الرواية واحدة من الأفكار الخاصة بشكسبير، والتي جاءت بالمسرحية، من خلال شخصية معتوهة.

ثورة حقيقية

غير أنه يجدر هنا التوقف، قليلاً، عند التعريف الخاص للرواية الحديثة، وعلى وجه خاص ما يتعلق منها برواية “تيار الوعي” الذي يمثل ثورة حقيقية على الاتجاه التقليدي، والذي كان ظهوره في القرن الـ19، بالتزامن مع الإنجازات العلمية المذهلة التي شهدتها بدايات القرن الـ20. وهو ما يؤكد على أن الإنتاج الأدبي الجيد ليس دورانًا في الفراغ، وإنما هو تتويج لجهود سابقة، ولتطورات مستمرة في تاريخ الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه تيار الوعي، وهو الأمر الذي يؤكد من جهة أخرى أن الأسلوب الحديث في الكتابة يأتي استمراراً لجهود سابقة، أضيفت إليها جهود لاحقة، وهو ما يعني شرعية انتمائها إلى الجنس الروائي، والمدى الذي يوغل فيه هذا الانتماء، فقد ظهرت، بداية القرن الـ19، روايات تتخلى عن رسم الشخصية من الخارج، في بعض مقاطعها، وتلتفت إلى أعماقها مثل تلك الروايات التي كتبها ديستوفسكي، وجين أوستن، وهنري جيمس.

وعلى الرغم من ذلك، بقيت هذه الرواية وفية للتقاليد التي أرساها الرواد، وما كان يعني منها بالمحافظة على الأبعاد الروائية الثلاثة: الحدث، الشخصية، اللغة.

ويعود الفضل في اختراع مصطلح “تيار الوعي” إلى وليام جيمس، أحد علماء النفس، وهو ما استقر الآن عليه كمصطلح أدبي، بات يستخدم للدلالة على طريقة تقديم الجوانب الذهنية والشعورية للشخصية. ومن خلاله، باتت الرواية تهتم بالمستويات غير الكاملة، خاصة مستوى ما قبل الكلام، بما فيه من الكلام والأفكار والمشاعر والذكريات، وبذلك لا تخضع للمراقبة والتنظيم والسيطرة على نحو منطقي، فتبدو الذكريات والأفكار والمشاعر أشبه بتيار مضطرب في الأعماق، وينكشف أمامنا عندئذ الكيان النفسي للشخصية.

تراكيب جديدة

تتجلى ملامح تيار الوعي في كتابة أحداث رواية “الصخب والعنف” من خلال توظيف فوكنر للرموز والأساطير، والأحلام والكوابيس، وأيضا في تَشظِّي المكان والزمان، وانسياب العبارات المفككة، وتعدد الأصوات السردية، وإعادة توظيف اللغة، لخلق تراكيب لغوية جديدة، تتخذ طابعًا شِعريًا في بعض الأحيان.

فقد توزعت أحداث هذه الرواية في 4 فصول، موزعة زمنيًا من الفصل الأول، الذي يبدأ في السابع من أبريل/نيسان 1928، ويرويه معتوه العائلة “بنجي”. والثاني، الذي يبدأ في الثاني من يونيو/حزيران 1910، وجاء على لسان أخيه الطالب في جامعة هارفارد (كونتن). أما الثالث، فيحدث في السادس من أبريل/نيسان 1928، ويرويه الأخ العاقل الوحيد الذي بقي على قيد الحياة (جاسن) بينما يبدأ الفصل الرابع في الثامن من أبريل/نيسان للعام نفسه، يقصّه علينا المؤلِف أو الراوي العالم.

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا جعل المؤلف الراوي الأول للأحداث شخصًا أبله؟ هل تعمد فوكنر ذلك، كي ينقل لنا اِنفعالات وهواجس إنسان بسيط بعيدًا عن فلسفة الأمور وتحليلاتها، وبعيدًا عن حيّز المصلحة الذاتية؟ حتى وإن كان هذا الوصف للأحداث والانفعالات يتسم بالكثير من الفوضى الزمنية وعدم الترابط في الكلام والكثير من الرموز؟

وقد تعمد فوكنر أيضا، في هذه الرواية، إسناد المهمة لأبناء أسرة آل كومبسون الثلاثة، فهم الذين يتولون سرد الحوادث، فضلا عن استخدامه فن الاستذكار والحوار الداخلي، دون أن يلتزم بنمط أدبي محدد أو برسم شخصيات روائية متماثلة، بل إن شخصيات رواياته شكلت خليطاً عجيباً من المكافحين والمسحوقين والآثمين والشرفاء، وتجلت حرفيته في رسم هذه الشخصيات عبر شحنات متدفقة من الخيال والواقعية والصدق، إلى الدرجة التي تبعث في نفس القارئ الكثير من المشاعر التي تساعده على تفهم نزاعات الشخصية.

ويتساءل روبرت همفري في كتابه “تيار الوعي في الرواية الحديثة” قائلا “كيف يمكننا أن نُعبِّر عن شيء يتسم بالفوضى بشكل منظم؟ وهنا تُعد رواية “الصخب والعنف” من أشهر الروايات التجريبية التي وظفت تيار الوعي، وتعني هذه التقنية الروائية بتدفق سيل الأفكار والحياة الذهنيّة والروحيّة والنفسيّة للشخصيات، أي أنه يغوص في عوالم الذِّهن قبل أن يتحول الحدث إلى مستوى الكلام.

وكما هو متعارف عليه فإنّ الحركة الذهنيّة للأفكار والمشاعر والانفعالات والتخيّلات غير منظمة لا تعتمد على قواعد منطقية لانسيابها. وتتجلى هنا الصعوبة في التقنيات التي اختارها كُتّاب تيار الوعي الذي يمثل فوكنر الضلع الرابع من أضلاع هذه التقنية في الرواية العالمية الحديثة، مع فرجينيا وولف وجيمس جويس، حيث يكون التداعي الحر لفيضان الذِّهن بكل فوضويته.

وكانت الفترة، التي عاشها فوكنر عند مطلع القرن الـ20، من أهم الفترات الخصبة التي نشأ فيها التجريب في الأدب الروائي الغربي، فخلالها تأثر الكثير من الكتاب والروائيين بمرحلة ظهور علماء النفس من أمثال النمساوي سيجموند فرويد، والسويسري كارل يونغ مؤسس علم النفس التحليلي، وقد أضافت هاتان المدرستان التحليليتان الكبيرتان، عند ظهورهما، تأثيراً كبيراً على الأدب والفن، في المرحلة التي كانت فيها قمة ظهور الثورة الصناعية في أوروبا وأميركا، ونمو الاقتصاد الكبير من جهة، والصراعات المادية والسعي الحثيث الذى قاد العالم نحو الحروب والاستعمار والزحف نحو الشرق والبحث عن الموارد الأولية والطاقة من جهة أخرى.

ورغم الإشادات، والأثر الكبير الذي تركته أعماله الروائية، فإن فوكنر قرر ذات مرة الاتجاه نحو كتابة السيناريو السينمائي، عندما كان لهوليود تأثير كبير على الكثير من الأدباء، غير أنه استطاع تجنب هذا التأثير، بعد أن ابتعد عن حياة هوليود الاجتماعية، وراح يكتب نصوصه دون أن يكون راغبًا في جعل هذه الكتابة أساسًا لحياته ومصدرًا لرزقه، قدر ما رآها عملاً حرفيًا يؤديه بأمانة، وبصورة مؤقتة، من أجل أن يتمكن في النهاية من العودة إلى بلده. وهو ما تحقق فيما بعد، بالعودة إلى أكسفورد، تلك البلدة التي عاش فيها في شبه عزلة، قاطعًا معظم الوقت ما بين عائلته في بيته العتيق ومزرعته الصغيرة، في الوقت الذي ظل يرفض فيه الإدلاء بالأحاديث الصحفية، أو تبادل الرسائل، بل حتى لم يعد منتظما على الكتابة.

تقنيات سينمائية

ويبدو أن عمل فوكنر في كتابة النصوص السينمائية في هوليود قد ألقى بظلاله على أسلوبه الأدبي، فأهم ما يُميّز رواية “الصخب والعنف” هو توظيفها لتقنيات سينمائية مثل: المونتاج الزمني حيث تؤدي عملية القطع إلى تأخير الحدث المُتوقع، وتزيد من حدة التوتر نظرًا لانقطاع الاستمرارية في الحدث، و”القفز بين اللقطات أو المشاهد” و”التوالي السريع للصور” حيث التلاعب بالوقت هو أهم ما يميز روايات تيار الوعي. وقد استفاد فوكنر من خلال ما أحيط به عالم الابتكار المادي والاختراعات والاكتشافات عند القرن الـ19، فضلاً عن انعكاس ذلك على عالم الأدب والفن من خلال ظهور موجة من الانتقالات الإبداعية وظهور أسماء كبيرة فى عالم الشعر والرواية، أو الفن والأدب بشكل عام.

والحقيقة أننا لا نجد في “الصخب والعنف” تقنية واحدة لرواية تيار الوعي، وإنما عدة تقنيات، كذلك لا نستطيع القول إن هذه الرواية تنتمي للأدب السيكولوجي فقط، بل تنتمي أيضا إلى علوم وفنون أخرى، فقد امتصت كل الأجناس الأخرى، فهي تنافس الشعر، عندما تمتلئ بالاستعارات، أو عندما تتلاعب بموسيقى الكلمات، وتستعير من المسرح المنولوج والحوار، كما تستعير من النقد الأدبي غاياته، عندما تقدم نظريتها في الأدب، بينما تفسح مكانًا للفلسفة، وتستعين بالموسيقى، بوساطة تركيب الفقرات والإيقاع ورنين الجملة.

ويمكن إدراك مغزى الكتابة لدى فوكنر، وفهم عالمه المنفرد، من خلال القراءة الواعية للعلاقة بين حياة الكاتب وما يكتبه، إذ قال ذات مرة “أنا لست كاتباً، بل أنا فلاح”، لأن مرجعيته الريفية أتاحت له أن يحشد هذا القدر الهائل من الأحداث والشخوص، داخل النص الروائي الواحد، ليقلب منظوره في عالم الجنوب، ويخرج في كل مرة برؤية جديدة، مثيرة للدهشة والتأمل في آن واحد.

ومن مقولات فوكنر الشائعة “إن مؤلفي الروايات بحاجة شديدة إلى 99% موهبة ومقدرة، و1% نظاماً عاماً، وإن على الروائي ألا يقتنع بما يكتب لأن ما حققه لا يمكن أن يكون الكمال بعينه، فمن ضرورات عمله أن يسعى جاداً إلى الارتقاء بما يحسبه نهاية قدره، ولا جدوى من محاولة التفوق على معاصريه أو سابقيه، لأنه لا وجه للمقارنة بينه وبينهم”.

هدف للقراءة

قيل الكثير في غموض “الصخب والعنف” هذا العمل الروائي المبهر، وصعوبة فك ألغازه، ويبدو أن هذا النوع المُلغِز من الروايات قد شاع في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20، لكن مَكمن الصعوبة في هذه الرواية أنها لا تُقرأ فقط لأجل معرفة أحداثها وحبكتها، لأن أول من ترجم هذه الرواية إلى اللغة العربية كشف لنا أحداثها في ما كتبه في المقدمة، كما أن فوكنر نفسه كتب بعد 16 عامًا على نشرها ملحقًا أوضح فيه الأحداث للقارئ، بعد أن علم بأن نسخ طبعته الأولى ظلت في المخازن الأميركية، بعد ما أحجم عنها القرّاء، بينما لجأ بعض الناشرين عند قراءة مسودتها إلى تمزيقها.

وكعادة الروايات التجريبية فقد لاقت رفضًا واسعًا من قِبل الجمهور الذي لم يعتد على هذا الشكل الفني في الكتابة، وتعالت صرخات الاستهجان والسخرية من قبل النّقاد عند نشرها، بل وحتى بعد نشرها حين اتُهم فوكنر بالترويج للرذيلة. غير أنه عام 1945 نفدت مؤلفات فوكنر جميعها من الأسواق، وعام 1950 فاز بجائزة نوبل للآداب.

ولقد كانت مكانته الأدبية في أوروبا -وخاصة فرنسا- أرفع مما كانت عليه في أميركا لحساسية الظروف السياسية والاجتماعية والصراعات القائمة بتلك المرحلة.

وحين جاء السادس من يوليو/تموز 1962، رحل فوكنر عن عمر ناهز الـ65، بعد انتحار صديقه الروائي إرنست هيمنغواي بعام واحد، لتشيع الساحة الأدبية الأميركية جيلاً مخضرماً من الكتاب، ابتكر أنماط وألواناً وأشكالاً باهرة في الرواية الأميركية المعاصرة، وتجاوز آفاق المحلية والعصر الذي كتبوا من خلاله وفيه، لتتسابق الأجيال اللاحقة على قراءة أعمالهم التي لا تزال تحمل هذا القدر من الدهشة وإثارة التأمل.

شاركها.
Exit mobile version