مراسلو الجزيرة نت
أكرا- كشف ملف رُفعت عنه السرية مؤخرا تورط وزارة الخارجية البريطانية في تنفيذ عمليات سرية للإطاحة بالرئيس الغاني كوامي نكروما وحكومته، وذلك بهدف “تغييرها بحكومة أكثر قربا من الغرب”، حيث استولى الجيش على السلطة خلال زيارة خارجية لنكروما في فبراير/شباط عام 1966، وبقي الرئيس في المنفى حتى وفاته عام 1972.
ونشر موقع (Declassified UK) الوثيقة التي تُظهر أن الاستخبارات البريطانية أرسلت عميلا ميدانيا من “وحدة الدعاية السياسية” التابعة للخارجية، والتي تعرف باسم “قسم الأبحاث والمعلومات” (IRD) ما بين الأعوام 1962 و1964، لإجراء تقييم وإرسال تقارير مفصلة للمساعدة في وضع خطة يمكن من خلالها اتخاذ إجراءات لزعزعة مكانة نكروما في غانا.
بروباغندا بريطانية
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، أدركت بريطانيا صعود الولايات المتحدة الأميركية كقوة جديدة، وأنها بدأت تتموضع في مكانها بوصفها قطبا عالميا، وأصبح الأمر أكثر وضوحا مع تبلور مفهوم الحرب الباردة، لذا اقترح ضابطان سابقان في وحدة الاستخبارات البريطانية إعادة تسويق الإمبراطورية البريطانية كـ”قوة ثالثة” بين قطبين كبيرين، الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة.
اشتمل المقترح على بعدين، الأول داخلي لإقناع حزبي العمال والمحافظين بتوسيع عمليات الاستخبارات خارجيا، والثاني محاولة إقناع الدول غير المنضوية تحت مظلة أي من المعسكرين بأن خيار الاصطفاف الثالث مسألة ممكنة، وخرج المقترح إلى النور عام 1948، وعمل لـ3 عقود تحت مسمى “قسم الأبحاث والمعلومات” (IRD)، مرتكزا على تجنيد شبكة واسعة من الصحف ووكالات الأنباء والصحفيين والكُتاب في جميع أنحاء العالم، سواء بعلم أو دون تواطؤ بالضرورة، لبث الدعاية السياسية.
وشارك القسم في عمليات سرية تخطت “محاربة المد الشيوعي” لمحاولات الحفاظ على هيبة الإمبراطورية “بتشويه صورة أعدائها”، والذين كان من بينهم قادة حركات التحرر الأفريقي، ليكون كوامي نكروما أحد ضحايا البروباغندا البريطانية، كما تكشف الوثيقة.
فكر نكروما السياسي
ينحدر كوامي نكرونا من عشيرة أسونا، وهي من أبرز عشائر إمبراطورية أشانتي، التي اتخذت شكلا توسعيا وأنشأت في بدايات القرن السابع عشر كيانا إمبراطوريا، وأرست حكما مؤسساتيا بسلطات قضائية وتنفيذية ومصالح تجارية، وكانت في ذروة تجربتها السياسية حين بدأت طلائع الاستعمار الأوروبي تتوغل في أفريقيا، لتتحول غانا إلى مستعمرة بريطانية أواخر القرن التاسع عشر.
تشكلت الشخصية السياسية لمن سيصبح لاحقا “أب الاستقلال” في غانا من خلال تجارب تخطت حدود أفريقيا، حيث درس الاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة واللاهوت في الولايات المتحدة، لكن الفلسفة غلبت اللاهوت في تكوين الفكر السياسي الذي شكّل نكروما.
وفي الولايات المتحدة، أحاط نكروما نفسه بمفكرين ومناضلين من أصول أفريقية، كان من بينهم رائد حركة الحقوق السياسية الأميركية مارتن لوثر كينغ، ورائد الفلسفة الجامايكي مارتن موسييه غارفن وأبرز منظري مفهوم “الولايات المتحدة الأفريقية”، كما تعرف على أسس العمل السري على يد المؤرخ والمفكر والمناضل الترينيدادي سيريل ليونيل روبرت جيمس.
“أب الاستقلال”
وبعد سنوات الدراسة في الولايات المتحدة وبريطانيا، عاد كرومي إلى “شاطئ الذهب” (اسم غانا السابق)، وانخرط في العمل السياسي تحت لواء “مؤتمر شاطئ الذهب الموحد”، وأسس “حزب المؤتمر الشعبي” في بداية خمسينيات القرن الماضي بهدف تحقيق الحكم الذاتي للبلاد، ونظم حملات عصيان مدني ضد الاستعمار، فاعتقله البريطانيون.
ومن وراء القضبان، قاد حزبه لتحقيق أكثرية ساحقة في انتخابات بلدية وعامة، فأطلق سراحه ليشكل حكومته عام 1952، ليعلن بعدها بـ5 سنوات استقلال غانا عام 1957، وليكون أول زعيم شعبي في القارة ينتزع استقلال بلاده، ويعيد تسميتها بـ”غانا”.
لم يكن مفاجئا تبني نكروما نظام حكم اشتراكيا، حيث ترافق صعود غانا كدولة مستقلة عن الاستعمار وسط موجة من حركات التحرر في دول الجنوب، فقد كانت مصر تعيش حلم الدولة الاشتراكية، وتوجهت الهند يسارا مع جواهر لال نهرو، وثبت كاسترو أركان الشيوعية في كوبا، وبينما كانت الحرب الباردة على أشدها بمعسكرين شرقي وغربي، نهض الجنوب بحركة “دول عدم الانحياز”.
اعتبر نكروما أن دول أفريقيا المستقلة حديثا، وتلك التي هي قيد الاستقلال كما دول أميركا الجنوبية، تمتعت باستقلال سيادي شكلي، بينما تمسك دول الاستعمار السابقة بمفاصل الاقتصاد، وتوجه سياسة مستعمراتها السابقة، فبدأ مع قادة أفارقة ورواد حركات التحرر بمحاولات ترسيخ الوحدة الأفريقية وعدم الانحياز، بوصفهما أدوات أساسية لمقارعة الإمبريالية وإتمام مسيرة تحرر الشعوب.
من التضليل للانقلاب
استحوذت الوحدة الأفريقية ودعم حركات التحرر ومعاداة أنظمة الفصل العنصري على سياسات نكروما، وانجرفت البلاد في موجة من التردي الاقتصادي وتراجع الحريات السياسية، ورأت بريطانيا في ذلك تهديدا لمصالحها الاقتصادية والتجارية، وتهديدا لنفوذها العميق في أفريقيا.
واستند التقييم الاستخباراتي البريطاني على توصيف سياسة نكروما بأنها اعتمدت على “مشورة شيوعيين” داخل غانا، وتشير وثائق وزارة الخارجية إلى أجندة نكروما المناهضة للاستعمار باعتبارها “أنشطة تخريبية”، وحذرت من أنها آخذة بالتوسع في أفريقيا.
وأقرت الخارجية -بحسب الوثيقة- شن حملات تستهدف شخصيات في إدارة الرئيس نكروما، واتخذت حملات الدعاية السياسية أسماء وهمية لمجموعات مثل “غانيون وطنيون” وأخرى باسم “الأخوة الأفارقة”، كانت ترسل إلى داخل غانا من دول أفريقية وأوروبية، كما تم التصريح بشن حملات التضليل من قبل مكتب رئاسة الحكومة البريطانية.
وتظهر الوثيقة التي رفعت عنها السرية، أن حملات وحدة الدعاية السياسية في الاستخبارات البريطانية تضمنت إصدار بيانات باستخدام أسماء تنظيمات وهمية، ووجهت صحفيين لكتابة مقالات تستهدف هدم صورة نكروما بين أفراد الطبقة الوسطى والشباب وأساتذة الجامعات والنخب المدنية والأمنية والعسكرية.
وبعد نجاح الجيش بالانقلاب على الرئيس نكروما، تنتهي الوثيقة المؤرخة في 6 مايو/أيار 1966 بخلاصة تقول “الآن وقد تحقق الهدف، يتم توجيه الجهود لضمان عدم ضياع الدرس المستفاد من مغازلة نكروما للشيوعية، عن الأفارقة الآخرين”.