غزة- تتعلق عينا ناجية النجار برضيعها يوسف النائم في غرفة سوء التغذية المخصصة للأطفال في مجمع ناصر الطبي، تصارعها الشكوك عن نجاته بعدما فتكت بهما المجاعة، وهي أسيرة معه منذ ولادته قبل نحو 5 أشهر في المستشفى، ولا تكاد تغادرها حتى تعود به مرة أخرى.

خلال فترة حملها عانت النجار (30 عاما) من سوء تغذية حاد، تسلل إلى يوسف في رحمها، وقد ولدته بوزن ضعيف لا يتجاوز كيلوغراما و200 غرام، وتقول للجزيرة نت، إنها لم تمر بمثل تجربة الحمل والولادة به مع باقي أطفالها (3 أولاد وبنت).

“كان حملي بيوسف صعبا للغاية، وحتى بعد ولادته لم يكن الوضع أفضل حالا، ودخلنا في مجاعة وعادت الحرب مرة أخرى”، وتشير بذلك إلى الحصار المحكم وإغلاق الاحتلال المعابر ومنع إدخال المساعدات الإنسانية في 2 مارس/آذار الماضي، واستئنافه الحرب في 18 من الشهر ذاته.

سوء التغذية الحاد الذي عانت منه ناجية النجار بسبب المجاعة يصيب رضيعها يوسف بعد ولادته (الجزيرة)

مجاعة تفتك بالرضع

قال الأطباء إن يوسف يعاني من تسمم الدم والتهابات حادة استدعت دخوله -غير مرة- قسم العناية المركزة في مستشفى الأطفال بالمجمع.

ومنذ بضعة أسابيع تقيم النجار برضيعها في غرفة سوء التغذية، التي تضم إلى جانبه رضيعين و4 أطفال آخرين، لم تحتمل أجسادهم الغضة لسعات الجوع، وقد جف الحليب في صدور أمهاتهم، ولا يتوفر الحليب الصناعي في الأسواق.

هذه المرأة نازحة من بلدة بني سهيلا، شرق مدينة خان يونس، قضت أياما بلا مأوى في الشارع، وتقيم وأسرتها حاليا في خيمة غرب المدينة، وتقول إن زوجها عاطل عن العمل وكثيرا ما يمر اليوم بنهاره وليله من دون أن يجدوا طعاما يقتاتونه.

الرضيعة سما القاضي ترقد في غرفة سوء التغذية للأطفال في مجمع ناصر بسبب ثبات وزنها وتوقف نموها نتيجة المجاعة-رائد موسى-خان يونس-الجزيرة نت
المجاعة توقف نمو الرضيعة سما القاضي (الجزيرة)

بنبرة تمزج الحزن بالحسرة، تتساءل رحمة القاضي “أنا أم مرضعة لا أجد طعاما، كيف سأرضع طفلتي؟”، وتخشى أن تفقد ابنتها سما (7 شهور) وتعاني من سوء تغذية حاد.

خلال الشهر الجاري دخلت القاضي (29 عاما) بطفلتها 5 مرات للمستشفى، وتقول للجزيرة نت، إنها ولدتها بوزن طبيعي، 3 كيلوغرامات، غير أنه لا يزيد، وقد أخبرها الأطباء أن من هم في عمرها أوزانهم تصل إلى 9 كيلوغرامات.

لهذه الأم 3 بنات غير سما، التي حملت بها وأنجبتها في خيمة تقيم بها مع أسرتها في منطقة مواصي خان يونس منذ نزوحهم عن مدينة رفح في مايو/أيار الماضي، وطوال هذه الفترة عاشت مآسيَ شديدة نتيجة الخوف والجوع.

وتوضح “خلال فترة الحمل بسما كنت أصوم باليومين لعدم توفر الطعام، وأعيش فقط على الماء، أعيش على وجبة واحدة، صحن من الأرز تقدمه لنا المستشفى كل 24 ساعة”. ومنذ شهر لا يتوفر الطحين أو أي مواد غذائية في خيمة هذه المرأة، التي يتملكها القلق على مصير رضيعتها وكافة أسرتها وتقول “الموت بالصاروخ أهون من الموت البطيء جوعا”.

الطفلة غزل كساب لم تأكل الخبز منذ شهرين وخسرت 11 كيلوغراما من وزنها (الجزيرة)

خطر موت جماعي

وعلى وقع هذه المعاناة حذر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية والإغاثية، توم فليتشر، من أن نحو 14 ألف رضيع قد يموتون في غزة في غضون 48 ساعة إذا لم يحصلوا على مساعدات إغاثية. والاثنين الماضي، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إن مليوني شخص يتضورون جوعا في غزة، بينما تمنع إسرائيل دخول أطنان من الطعام على الحدود.

من جانبها، فقدت الطفلة غزل كساب (12 عاما) 11 كيلوغراما من وزنها، وتقول للجزيرة نت، إن وزنها قبل اندلاع الحرب كان 40 كيلوغراما، وانخفض الآن إلى 29 فقط.

وتقيم هذه الطفلة مع أسرتها (6 أفراد) النازحة من مدينة رفح في مدرسة غرب خان يونس، ولا يتوافر لديها الطحين منذ شهرين، ولم تتذوق اللحوم والفواكه والخضار منذ شهور طويلة، وتعتمد في غذائها اليومي على القليل من حساء العدس أو المعكرونة، توزعه تكية خيرية.

ومساء الأربعاء الماضي، سمحت قوات الاحتلال، لأول مرة منذ إغلاق المعابر، بدخول زهاء 90 شاحنة محملة بمساعدات إنسانية، من طحين ومكملات غذائية، تقول هيئات محلية ودولية، إنها غير كافية ولا تفي بالاحتياجات الهائلة للسكان.

وقالت منسقة الطوارئ مع أطباء بلا حدود في خان يونس باسكال كويسار، حسب ما نشرت المنظمة الطبية على منصاتها “سمحت السلطات الإسرائيلية بإدخال كمية تافهة من المساعدات إلى غزة بعد أشهر من الحصار المطبق، وهذا قرار يدل على نيتها تجنب اتهامها بتجويع الناس في غزة، بينما هي بالكاد تبقيهم على قيد الحياة. تمثل هذه الخطة وسيلة لاستغلال المساعدات وجعلها أداة لتعزيز الأهداف العسكرية للقوات الإسرائيلية”.

ووصف مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثوابتة -للجزيرة نت- هذه المساعدات القليلة بأنها لا تعدو كونها استعراضا شكليا أمام كارثة إنسانية حقيقية تعصف بغزة منذ أكثر من 80 يوما من الحصار المحكم والمجاعة القاتلة.

ويقول إن هذه الشاحنات رغم أهميتها الرمزية، لا تمثل سوى أقل من 1% فقط من إجمالي ما يحتاجه القطاع فعليا خلال هذه الفترة، “حيث إنه من المفترض إدخال 44 ألف شاحنة مساعدات ووقود كحد أدنى خلال 80 يوما، لتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية لسكان غزة”.

سياسة تجويع

ووفقا لتوثيق المكتب، فقد أودت سياسة التجويع الجماعي بحياة 326 فلسطينيا في أقل من 3 أشهر، نتيجة سوء التغذية ونقص الدواء والغذاء، منهم:

  • 58 وفاة بسبب سوء التغذية المباشر.
  • 242 وفاة نتيجة نقص الغذاء والدواء، غالبيتهم من كبار السن والمرضى المزمنين.
  • 26 مريض كلى توفوا لعدم توفر التغذية والرعاية العلاجية.
  • أكثر من 300 إجهاض لدى النساء الحوامل من فقدان العناصر الغذائية الضرورية.

وقال الثوابتة، إن الأطفال يشكلون النسبة الأكبر من الضحايا المحتملين في المرحلة القادمة، نظرا لهشاشة أجسادهم وعدم قدرتهم على الصمود أمام الحصار الغذائي الخانق، وهو “ما يضع هذه الجرائم في مصاف جرائم الإبادة الجماعية”.

ودعّم التحذيرات الصادرة من الأمم المتحدة وهيئات دولية بشأن احتمال وفاة 14 ألف طفل بسبب المجاعة، وقال “هذه التحذيرات ليست مبالغات، بل ناقوس خطر حقيقي يستند إلى بيانات ميدانية مرعبة تظهر مدى تفشي الجوع وسوء التغذية الحاد في صفوف الأطفال، حيث يمنع الاحتلال الغذاء والدواء والمياه النظيفة وحتى حليب الرضع”.

واقع الحال في غزة ينذر بكارثة لم يشهدها العصر الحديث، ويقول الثوابتة إنها “تذكرنا بأسوأ حالات المجاعة التي وثقها التاريخ، لكنها اليوم تُرتكب بوعي وسبق إصرار من الاحتلال الذي يستخدم الجوع أداة حرب ضد الأطفال والمدنيين”. وأكد أن الاحتلال يمارس سياسة التجويع الممنهج أداة حرب وإخضاع ضد المدنيين، وينفذها وفق خطة متكاملة، تتضمن:

  • إغلاق المعابر بشكل تام وحرمان القطاع من المساعدات الإنسانية والإغاثية والوقود.
  • استهداف التكايا الخيرية ومراكز توزيع الطعام، وهي آخر ملاذ للمدنيين، ويقصدها الأطفال والنساء والمحتاجون ويقفون في طوابير طويلة من أجل لقمة تسد الرمق.
  • حرمان المستشفيات من الدم والأدوية والغذاء العلاجي للأطفال، ما أدى إلى فشل حملات التبرع بالدم، وتزايد أعداد وفيات الأطفال والحوامل.

بدوره، يقول مدير “مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان” علاء السكافي للجزيرة نت، إن دولة الاحتلال تنتهك بهذه السياسة على نحو صارخ القانون الدولي الإنساني، وكل الأعراف والمواثيق ذات الصلة، والتي تحظر التسبب في المجاعة كممارسة عسكرية ضد السكان المدنيين، وتُعتبر شكلا من أشكال الإبادة الجماعية.

وأدت هذه السياسة، بحسب السكافي، إلى تقويض مقومات الحياة في غزة، وتفاقم الأوضاع الإنسانية التي تدهورت خلال 80 يوما الماضية منذ إغلاق المعابر، وصارت أكثر كارثية ومأساوية.

ونتيجة هذه المجاعة، ومع استمرار استهداف المنظومة الصحية، يقول الناشط الحقوقي “رصدنا في المؤسسة تراجعا على صحة الأطفال والنساء، خاصة الحوامل والمرضعات، فضلا عن ارتفاع ملحوظ في معدلات الولادة المبكرة، وإنجاب مواليد يعانون من تشوهات خلقية أو بأوزان قليلة، وأعداد منهم فارقت الحياة”.

شاركها.
Exit mobile version