يصف المؤرخ ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” معركة البُويب التي وقعت قرب نهر الفرات في العراق بأنها تماثل معركة اليرموك ضد البيزنطيين في خطورتها وآثارها الكبيرة على المسلمين والفرس؛ فقد أحصى أن 100 مقاتل مسلم قتل كل واحد منهم 10 من الأعداء، ولذلك عُرفت هذه المعركة أيضا بيوم الأعشار.
وقعت معركة البُويب في شهر رمضان ١٣ من الهجرة عقب هزيمة المسلمين في معركة الجسر التي خاضوها أيضا ضد الفرس، حيث دعا الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المسلمين إلى الجهاد في العراق، فتجمع 4 آلاف مقاتل من مختلف أنحاء الجزيرة العربية استجابة لندائه.
أسند الخليفة قيادة هذا الجيش إلى جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- الذي ضم عددًا كبيرًا من قومه بني بجيلة. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل أرسل قوة إضافية بقيادة عصمة بن عبد الله الضبي، كما أمر من تاب من أهل الردة بالحضور إلى المدينة ثم وجّههم إلى العراق.
في تلك الأثناء وبعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر، كان الجيش الإسلامي تحت قيادة المثنى بن حارثة -رضي الله عنه- قد انسحب إلى منطقة تُسمى مرج السباخ، الواقعة بين القادسية وخفان، اختار القائد هذا الموقع لقربه من الصحراء، وفيه يمتلك المسلمون خبرة قتالية تفوق الفُرس الذين يواجهون صعوبة في القتال هناك.
ظل المثنى ينتظر وصول الدعم العسكري من المدينة، وخلال ذلك تمكنت استطلاعات الفُرس ومخابراتهم من رصد تحركات القوات الإسلامية المتجهة إلى معسكره. وعلى إثر هذه المعلومات، اجتمع قادة الإمبراطورية الفارسية لمناقشة الوضع، وعرض قادة الفرس مثل رُستم والفيروزان على الملكة بوران ضرورة التصدي للمسلمين، فوافقت على إرسال جيش بقيادة مهران.
تلافي خطأ الجسر
تحرك الجيش الفارسي من المدائن متجها إلى الحيرة، وكان 12 ألف جندي، إذ جهزت الإمبراطورية الفارسية جيشا قويا، فكان مع كل فارس راجل، وصحب الجيش 3 أفيال، وذلك لمواجهة المسلمين.
في المقابل، علم المسلمون بتحركات جيش الفرس نحو الحيرة، وقد عزم المثنى على تلافي أخطاء معركة الجسر والاستفادة من الخبرة التي حصل عليها من مصاحبته القائد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- سابقا، وأن يحدد هو لا العدو موقع المعركة، فتوجه بجيشه إلى منطقة تسمى “البُويب”.
وجه القائد رسالة إلى جرير بن عبد الله، ورسائل أخرى إلى أمراء القوات القادمة من المدينة، يأمرهم بالتحرك إلى البويب، إذ قال لهم كما يذكر الطبري في تاريخه “إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب”.
تحرك المثنى بجيشه وعسكرَ على الضفة الشرقية لنهر الفرات في البويب، ولم يعبر النهر، إذ كان قد تلقى أوامر من عمر بن الخطاب بعدم عبور أي بحر أو جسر لمواجهة الفرس، إلا بعد تحقيق النصر عليهم.
والحق أن أمر عُمر للمسلمين كان على جانب كبير من الأهمية، فقد أراد ان يتجنب المسلمون تكرار حصار الفرس لهم كما حدث في معركة الجسر، كما أنه إذا خسر المسلمون فسيتمكنون من الانسحاب بسهولة إلى قواعدهم، وذلك يسهل على الخليفة عمر إرسال الإمدادات إذا دعت الحاجة.
وصل الفرس إلى الشاطئ الغربي لنهر الفرات، فأمسى النهر فاصلا بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي القادم من المدائن، كأن أحداث معركة الجسر تتكرر من جديد ولكن بنتيجة مختلفة، فعندما نزل قائد الفرس مهران على شاطئ الفرات أرسل إلى المثنى قائلا “إما أن تعبر إلينا، وإما أن نَعبر إليك”، فقال المثنى: “اعبروا”.

اشتداد المعركة
كان المثنى قد نظّم جيشه جيدا، فجعل على الميمنة بشير بن الخصاصية، وعلى الميسرة بُسر بن أبي رُهم، وتمركز هو في مقدمة الجيش، كما وضع فرقة احتياط في المؤخرة لا تشترك في القتال بقيادة مذعور بن عدي، وفرقة للخيول بقيادة أخيه مسعود بن حارثة، بينما أسندَ قيادة فرقة المشاة إلى أخيه الآخر الـمُعنّى بن حارثة.
وبدأ المثنى يحفز الجيش للقتال، ويمر على كل قبيلة على حدة قائلا “إني لأرجو ألا تُؤتى العرب اليوم مِن قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم”.
أصبح جيش المسلمين مستعدا للقتال، وبدأ الجيش الفارسي في عبور الجسر الضيق إلى أرض حاصرها المسلمون من جميع الجهات، حيث وجد الفُرس أنفسهم شرق نهر الفرات، وفي غربهم توجد بُحيرة، وفي شمالهم نهر البويب، بينما يُحيط بهم الجيش الإسلامي بالكامل.
ومع دخول القوات الفارسية، فقدَ جيش الفرس ميزته العددية، لأن المساحة التي تركها لهم المسلمون كانت ضيقة للغاية، مما أجبرهم على الاصطفاف في 3 صفوف، وكان في كل صفٍّ فيل، وبهذه الصورة لم يكن الصفّ الأول من الفُرس يقابل الا الصفَّ الأول من المسلمين، ولم يتمكّن باقي الجيش الفارسي من الدخول إلى المعركة.
حينئذ فقدت الأفضلية العددية للفرس أهميتها، بل أصبحت النتيجة تعتمد على قوة الصفوف المتقدمة في كلا الجيشين، وكان هذا الاختيار موفّقا من المثنى، إذ عَوض به عن الخطأ الذي حدث في معركة الجسر بسبب سوء اختيار أرض المعركة.
دخل الجيش الفارسي في المصيدة، بينما تمركز الجيش الاسلامي في المقدمة، وقد تقدم الفرس وهم يطلقون صيحات عالية لإرهاب المسلمين، لكن المثنى أمر جيشه بالثبات والتكبير 3 مرات بصوت أخاف العدو، ثم بدأ القتال بعد التكبيرة الرابعة، إلا ان الفرس لم ينتظروا وهاجموا المسلمين منذ التكبيرة الأولى.
اندلعت معركة حامية، وتمكن الفرس في البداية من صد هجمات المسلمين، لكن مع استمرار القتال قاد المثنى بنفسه هجوما مباشرا على قلب الجيش الفارسي حيث كان قائدهم مهران، مما أجبره على التراجع من القلب إلى الميمنة.
وعقب ذلك تمكّن أحد المسلمين من قتل قائدهم مهران، وكان لمقتله تأثير كبير على معنويات الفرس، ومع ذلك صمدت ميمنته وميسرته بعض الوقت، لكن مع اشتداد القتال انهار جناحا الجيش الفارسي بالكامل، وبدأ الفرس في الفرار.
غير أن المثنى تمكن من قطع الطريق عليهم عندما سبقهم إلى الجسر الذي عبروا منه، وأمر بقطعه ليمنعهم من الهرب، ولم يعد أمام الفُرس سوى القتال حتى النهاية، وبدأ المسلمون معركة تصفية ضد من تبقى منهم.
حقق المسلمون انتصارا ساحقا، وأسروا نحو 3 آلاف جندي فارسي، وبسبب ضيق مساحة القتال تراكمت جثث الفرس فوق بعضها، ويذكر المؤرخون أن عظامهم ظلت متراكمة لفترة طويلة بسبب كثرتها.
رغم أن قطع المثنى للجسر كان أحد أسباب انتصار المسلمين وهزيمة الفرس، فإنه شعر بالندم على هذا القرار، وقال “لقد عجزتُ عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه، حتى أحرجتهم، فاني غير عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلّة لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع”.
فقد أدرك المثنى أن إكراه الفرس على القتال جعلهم أمام خيارين، إما الموت وإما تحقيق النصر، مما زاد من شراسة قتالهم ورفع عدد شهداء المسلمين قبل أن يسقطوا، بينما كان الأجدر به زرع الرعب في قلوب من تبقى منهم وملاحقة الفلول الهاربة.
مطاردة الفارين
وعقب هذا الانتصار ارتفعت معنويات المسلمين بشكل كبير، فتمكنوا من استعادة الأراضي التي فقدوها سابقا، بينما انهارت معنويات الفرس وهرب من نجا منهم الى المدائن قبل قطع الجسر.
ولم يكتف المثنى بما تحقّق، بل أمر قواته بمطاردة الفارين واستعادة المناطق التي انسحبوا منها، فوجّه عددًا من القادة مع جيوشهم إلى منطقة السواد الواقعة بين دجلة والفرات، حيث بدأت القوات الإسلامية بالسيطرة على هذه الأراضي التي سبق أن عاهدت المسلمين ثم نقضت عهودها.
في أثناء هذه المعركة الناجحة وبعدها وجدنا أن القائد المثنى بن حارثة كان يقاتل الفُرس وفق العديد من التكتيكات القتالية المتوازية أو المتوالية تمثلت هذه الوسائل في القتال في المواقع الكبيرة حيث تكون القوات متقابلة مثل معركة البويب ومعركة بابل سابقا.
وبالتوازي مع هذا، كان الأمر يتعلق بالسرايا والفِرق التي يمكنها مهاجمة الأماكن التي لا توجد بها قوات فارسية كبيرة، والسيطرة على هذه الأراضي وحمايتها من القوات الفارسية الضعيفة الموجودة في تلك المناطق.
واستخدم المثنى أيضا ما يُسمى في العصر الحديث “بحرب الاستنزاف”، أي شن غارات مفاجئة على الجيش الفارسي في عمق أراضيه دون الاحتفاظ بتلك الأراضي بسبب قلة القوات الإسلامية، مما يسبب نوعًا من الرعب والفزع لدى الفرس، ثم تعود القوات الإسلامية مع بعض الغنائم والأموال إلى قواعدها.
نهاية المثنّى والطريق إلى القادسية
اجتمع الأساورة اجتماعا كبيرا وأمروا رستم والفيروزان أن يجمعا أمرهما على قتال المسلمين وإلا قُتلا، وخشي الرجلان أن تكون عاقبتهما القتل أو التخلّي عن إمرة الجيوش، ومن ثم قررا التوحد والقيام بحرب ضد المسلمين.
بدأ يزدجرد كسرى فارس الجديد حينئذ ينظم الجيوش ويدير الأمور وهو حديث عهد بذلك، وأول ما فكر فيه هو القضاء على قوة المسلمين، وقد وصلت الأخبار إلى المثنى بتجمع الفرس العظيم لملاقاة المسلمين، فانسحب بجميع قواته من المناطق التي كان قد استولى عليها وهي الأنبار، وساباط، والحيرة، كما انسحب أيضا من الأبلة.
وجعل المثنى تجمُّعه هذه المرة في منطقة تُسمى “ذي قار”، الواقعة على أبواب الصحراء، والجيش الفارسي لا يجيد القتال في الصحراء، ولو وقع الاحتمال الأسوأ وهو هزيمة جيش المسلمين فيمكنه بسهولة الفرار في هذه الصحراء الشاسعة دون صعوبة.
عندئذ اتجه الجيش الفارسي من المدائن إلى “ذي قار”، وأرسل المثنى رسالة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُخبره فيها أن الفرس يجمعون كل عدّتهم وعتادهم لقتال المسلمين، وبمجرد أن وصلت الرسالة أعلن عمر بن الخطاب النفير العام، وأرسل الدعاة إلى كل الجهات لحث الناس على الجهاد وقتال الفرس، وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة 13 من الهجرة.
في المقابل، كان المثنى قد أصيب بجراحات كثيرة في بدنه في موقعة الجسر وظل متأثرا بها طوال هذه الفترة وعقب البويب وما تلاها كانت حالته تسوء حتى لقي ربه عام 14 من الهجرة.
وكان عمر قد بعث جيشا من المسلمين إلى فارس يتكون من 20 ألف جندي تحت قيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وسار سعد بالجيش حتى بلغ القادسية.
ومن اللافت أن المثنى قُبيل وفاته كان قد أرسل إلى سعد بن أبي وقاص مع أخيه المعنّى بن حارثة الشيباني ينصحه فيها أن يقاتل الفرس على حدود أرضهم، ولا يقاتلهم بعقر دارهم، وفي الوقت نفسه جاءت رسالة من عمر بن الخطاب إلى سعد تحضّه على هذا الأمر، فترحم سعدُ ومن معه على المثنى رضي الله عنه وحسن إدارته ومشورته.
وكان هذا التوافق في الرأي دليلا على بُعد نظره؛ فقد استفاد المثنى بن حارثة الشيباني كثيرًا من تجاربه السابقة، وبفضل هذا الرأي وقعت معركة القادسية التي كانت الضربة القاصمة للفرس، والتي أدت إلى هزيمتهم المفجعة في العراق وفتح الطريق أمام المسلمين للدخول في عمق إيران فيما بعد.