جنوب لبنان- وجهه يقول الكثير رغم صمته، يبتسم وعيناه الممتلئتان بالدمع تخفيان تفاصيل كثيرة عن رحلة نزوحه، لكنه لم يستطع إخفاء خوفه على أطفاله، يقول حسن حمدان بحرقة للجزيرة نت “ما ذنبهم أن يعيشوا بخوف وقلق”، بعد أن نزح من قرية “عيتا الشعب” عند الحدود اللبنانية الفلسطينية إلى بلدة أنصار في قضاء النبطية جنوب لبنان.

اضطر حمدان، وهو أب لأربعة أبناء، منهم نور، إلى النزوح معهم بحثا عن مكان آمن، بعد أن تعرضت قريته الحدودية لقصف إسرائيلي، واستحضر صور أطفال الشهداء في قطاع غزة التي آلمته، فدفعه ذلك لاتخاذ قرار النزوح لحماية أسرته من الخطر، بحثا عن الطمأنينة والأمان.

نور حمدان نزحت مع عائلتها من بلدة عيتا الشعب إلى بلدة أنصار (الجزيرة)

اللعب للتخفيف

وفي محاولة لتخفيف أثر النزوح عن الأطفال، أُطلقت مبادرات إنسانية لاحتضان العائلات الجنوبية النازحة، كان منها مبادرة فريدة لتخفيف معاناة الأطفال من خلال تقديم الألعاب لهم في مراكز الإيواء، وتوظيفها كوسيلة لتخفيف الألم والقلق لديهم، إذ تعمل هذه الألعاب على توجيه الطاقة السلبية نحو نشاط إيجابي، وتعزز صحتهم النفسية.

تقول منال السويد النازحة من كفرشوبا أن أكثر ما يرهقها هو حال أطفالها، وتعبّر للجزيرة نت “الأطفال يشعرون بكمية كبيرة من الضغط والخوف، لا يستطيعون التحكم في مشاعرهم، ولا يعرفون كيفية التعامل معها، هم فعلا الضحايا”.

وتضيف “دفعنا تكاليف النزوح أثمانا باهظة جدا، ولتخفيف حدة القلق والكوابيس لدى أطفالي الثلاثة، ورغم الوضع الاقتصادي الصعب، اشتريت الألعاب لهم وسيلة لتخفيف الألم الناجم عن النزوح، ولإدخال الفرحة إلى قلوبهم حتى ولو بشكل بسيط”.

6 ناظرة وصاحبة المدرسة والمبادرة التعليمية مي إسماعيل
مي إسماعيل: تقديم الدعم التعليمي للأطفال هو نوع من المقاومة (الجزيرة)

تعويض الفقد

ومن ناحية أخرى، وضع العدوان على القرى الحدودية في لبنان حال الطلاب في مهبّ الريح، فما أن انطلق العام الدراسي حتى أصدر وزير التربية القاضي عباس الحلبي في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي قرارا بإقفال جميع المدارس في القرى الحدودية، خوفا من تفاقم الوضع الإنساني والأمني.

ومن هنا جاءت مبادرة السيدة مي إسماعيل، ناظرة وصاحبة مدرسة “إسماعيل واكد إسماعيل” في بلدة أنصار الجنوبية، في محاولة لاحتواء تداعيات العدوان على الأطفال وتخفيف معاناتهم، فقررت -بمساعدة عائلتها- استقبال الأطفال النازحين ودمجهم في برنامج التعليم بالمدرسة، تقول “قدمنا للأطفال جميع المستلزمات من كتب وقرطاسية، بهدف منعهم من فقدان العام الدراسي”.

وتضيف للجزيرة نت “كعضو في لجنة النازحين في أنصار، قمنا بالترويج للمبادرة، حيث بدأنا بعدد قليل، لكنه ازداد يوما بعد يوم ووصلنا إلى 70 طالبا، قدمنا لهم الدعم التعليمي والنفسي”.

وتوضح المتحدثة في السياق ذاته “يبدو على الأطفال النازحين مؤشرات الإرهاق النفسي، بسبب انعدام الاستقرار الذي عاشوه، لذا نشركهم في أنشطة ترفيهية مثل الرسم، لتعزيز تعبيرهم عن مشاعرهم، واليوم أصبح الطلاب أكثر استقرارا”.

ويؤكد مدير المدرسة واكد إسماعيل “استقبلنا الطلاب مجانا، نظرا للحاجة الضرورية لدى العائلات النازحة، خاصة بعد قرار وزير التربية باستقبال المدارس الرسمية للنازحين، دون شمل المدارس الخاصة بهذا القرار”.

ويوضح أنهم يهتمون بمساعدة النازحين وتأمين مستقبلهم، حيث نظموا الصفوف وفقا لاحتياجات كل تلميذ نازح، ويتابعون تقدمهم بكل التفاصيل الدراسية والمتابعة مع أولياء الأمور أيضا.

ولم يفت مدير المدرسة أن يعبر عن شكره لأهالي البلدة والبلدية، وكل من أسهم في نجاح المبادرة وساعد في تحقيقها.

واكد إسماعيل: نظمنا الصفوف وفقا لاحتياجات كل تلميذ نازح (الجزيرة)

معاناة نفسية

تشعر أم محمد المعاذ، وهي نازحة من الحدود الجنوبية إلى مدينة صور، بالقلق رغم وصولها إلى مكان أكثر أمانا، فابنها البالغ من العمر (8 سنوات) يسألها أسئلة لا تستطيع الإجابة عنها، مثل “هل سنموت؟”.

وتقول بحسرة، للجزيرة نت، “أحاول منعه من مشاهدة التلفاز كي لا يرى كوابيس في نومه، لكن كيف يمكنني محو الصورة التي أصبحنا نشاهدها عن أطفال غزة، والحرب والدمار وأصوات القصف التي سمعها وعاشها أثناء نزوحنا من الجنوب اللبناني؟”.

وتؤكد الاختصاصية في علم النفس الإكلينيكي نجوى بنوت للجزيرة نت أن “الدور الأكبر يقع على الأهل في كيفية تعامل الأطفال مع التوتر والخوف، حيث يشجعونهم على التعبير عن مشاعرهم ومخاوفهم من خلال الأنشطة الفنية واللعب والرسم والتمارين البدنية، ومحاولة إبعادهم عن متابعة الأخبار، كما يجب المحافظة قدر الإمكان على انتظام حياتهم مثل النوم والاستيقاظ”.

وتضيف بنوت “يمكن تعزيز قدراتهم على التعافي من خلال الدعم العائلي والعاطفي وتعزيز التفكير الإيجابي، وابتعادهم عن العزلة، وتجنب التصرف كما لو أنه لم يحدث شيء”.

وعن التأثيرات طويلة المدى، تقول الاختصاصية بنوت أنها “تتمثل في اضطرابات النوم والسلوك العدواني، وتراجع مستواهم التعليمي، واضطرابات ما بعد الصدمة، التي يمكن أن تتسبب في أعراض جسدية، ويمكن أن يكون لها أثر كبير إذا لم يتم التدخل بشكل فوري، خاصة للأطفال الذين تعرضت منازلهم للقصف”.

وتوضح للجزيرة نت “يجب أن يكون هناك جهد مشترك بين الأهل وأماكن النزوح، لتأمين بيئة مستقرة خالية من التهديدات، وتلبي الاحتياجات الأساسية من الطعام والشراب والنوم، لتكون عملية الدعم متكاملة من الناحية الجسدية والنفسية”.

استقبال الأطفال النازحين ودمجهم في برنامج التعليم كمبادرة إنسانية فردية (الجزيرة)

واقع صعب

تغيرت تفاصيل الحياة اليومية في قرى جنوب لبنان بشكل جذري منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مع تصاعد حدة القصف الإسرائيلي على البلدات، فلم يعد هذا القصف مقتصرا على المناطق الحدودية النائية فقط، بل امتد إلى المنازل والمؤسسات التجارية والمنشآت الزراعية وحتى السيارات الخاصة.

ووفقا لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فقد تجاوز عدد القرى المستهدفة 90 قرية، وأشارت الأرقام التي نشرتها منظمة الهجرة الدولية ووزارة الصحة اللبنانية في الأول من فبراير/شباط الحالي إلى تجاوز عدد النازحين من الجنوب حاجز الـ83 ألفا، فيما بلغ عدد الإصابات 686 إصابة، ووصلت حالات الوفيات إلى 151 حالة.

شاركها.
Exit mobile version