بعد ما يقرب من العقد على بداية ظهور دونالد ترامب مرشحا رئاسيا في عام 2015، أصبح ترامب رئيسا متزعِّما مجموعتين أساسيتين متناقضين، هما: الشعبويون الغاضبون الذين يسعون إلى الدفاع عن الهويات والتقاليد الاجتماعية المحافظة، وقادة قطاع التكنولوجيا الحديثة.
تهدف الفئة الأولى، وهي التي تتكوّن بالأساس من الطبقات الدنيا والوسطى من العمال ذوي الياقات الزرقاء وسكان الريف، إلى التضييق على المهاجرين ومحاربة مظاهر العولمة، خاصة ما يتعلق بتسهيل التجارة العالمية ونقل الوظائف عبر الحدود والرقمنة.
في حين تهدف الفئة الثانية، التي اصطف كبار ممثليها في مشهد لافت خلف ترامب في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير/كانون الثاني 2025، وكان على رأسهم أغنى رجل في العالم بثروة تُقدَّر بأكثر من 300 مليار دولار، الملياردير إيلون ماسك، إلى الضغط من أجل إلغاء القيود الحكومية، وتسهيل النشر السريع للتقنيات المتطورة التي من المحتمل أن تحل محل العديد من العمال ذوي الياقات الزرقاء، وتقليص الدور والقيود الحكومية بصورة عامة.
لكن ما بدا في الأشهر الأولى لرئاسة ترامب بأننا أمام علاقة ودية وطيدة بين الرجلين، استحال إلى تصريحات عدائية، حيث اقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس الثلاثاء أن تدرس إدارة الكفاءة الحكومية خفض الدعم الذي تتلقاه شركات إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لتسلا من أجل توفير أموال الحكومة الاتحادية.
وهو التصريح الذي ردّ عليه إيلون ماسك متحديا: “اقطعوا كل شيء الآن”.
شعبوية ترامب الفريدة
وصل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض أول مرة عام 2017، ومرة ثانية عام 2025، متكئا على زعامة تيار أميركي شعبوي يميني جديد لم يعرف له التاريخ الأميركي مثيلا، وأُطلق على هذا التيار اختصارا لفظ “ماغا” (Make America Great Again – MAGA)، ووحَّد هذا التيار أفكارا وفئات مختلفة في توجهاتها وأهدافها، ومتناقضة في خلفياتها الاقتصادية والتعليمية.
ومنذ ولايته الأولى، لم يتوقف الرئيس دونالد ترامب عن تكرار أنه يسعى لترشيد الإنفاق الحكومي، وفي سبيل ذلك عهد لرجل الأعمال الشهير وأغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، بالمساهمة في تحقيق هذا الهدف من خلال إدارة الكفاءة الحكومية، بعد وصوله إلى الحكم مرة ثانية.
لكن ترامب طرح “مشروع القانون الكبير والجميل”، وهو حزمة تشريعية شاملة قدَّمها قبل أسابيع، ومُرِّرَ في مجلس النواب بفارق ضئيل في 22 مايو/أيار، بأغلبية 215 صوتا مقابل 214 صوتا جاءت على أساس حزبي صارم، ليتناقض مع فكرة ترشيد الإنفاق الحكومي.
وعلى مدار سنوات حُكم ترامب، مَثَّل خطابه وسياساته تدشينا لرؤية شعبوية أميركية تنادي بـ”أميركا أولا”، معتمدةً على صيغة تلائم القرن الحادي والعشرين، ومركِّزةً على قصور وسلبيات ونتائج ظاهرة العولمة التي وجَّهتها وقادتها بالأساس الولايات المتحدة، سواء تحت حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين خلال العقود الأخيرة.
ويمكن تبسيط مفهوم الشعبوية باعتبارها حركة أو أيديولوجيا أو حتى تكتيك سياسي، تعتمد على خطاب سياسي يهز عواطف المواطنين من أجل كسب ولائهم ودعمهم لما يُعرَض عليهم من سياسات أو توجهات. حيث طالب ترامب في خطابَيْ تنصيبه الشعب الأميركي باتباع قاعدتين بسيطتين، قائلا: “اشتروا المنتجات الأميركية، ووظِّفوا المواطنين الأميركيين”، وهو ما يُمثِّل حجر الأساس في سياساته الداخلية المرتبطة بسياسات الهجرة وسياسات فرض تعريفات وضرائب على شركاء واشنطن التجاريين.
وتمتد شعبوية سياسات ترامب إلى ملفات أخرى، أكثر خطورة وأهميةً من القضايا التجارية، وتتعلق بتهديد النظام العالمي الذي أرست قواعده وعملت على حمايته وتجديده الإدارات الأميركية المختلفة منذ الحرب العالمية الثانية، واعتمد على ليبرالية سياسية واقتصاد مفتوح.
ونجح ترامب في استغلال انقسام الكتلة الجمهورية المتشعبة إلى ثلاث فئات أساسية. أولها: المحافظون الإنجيليون، وهي فئة متدينة ومتشددة اجتماعيًّا. وثانيها: الطبقة العاملة من ذوي مستويات التعليم المتوسطة (أقل من الجامعة)، التي تضم عمال المصانع وأصحاب الوظائف المكتبية ذات الدخول المنخفضة. وثالثها: فئة جمهوريي الوسط، أو الجمهوريون المعتدلون التقليديون، أي الصوت الوسطي المعتدل بمعايير الحزب الجمهوري الذي يتجه نحو اليمين. وتشغل كل فئة تقريبا ثلث أعداد المصوتين للحزب الجمهوري.
تركزت الكتلة الصلبة الأكثر ولاء للمرشح ترامب داخل الفئة الثانية التي تتكون من الطبقة الجمهورية العاملة، وهي طبقة بيضاء البشرة في معظمها. وقد وجدت هذه الطبقة في “ترامب” نموذجا للتعبير عن غضبها مما تراه وضعا اقتصاديا متدهورا، رغم تحسن الأوضاع الاقتصادية بصورة كبيرة خلال الفترات السابقة لانتخاب ترامب.
وشعرت هذه الطبقة قبل ذلك بقسوة الأزمة الاقتصادية عام 2008، وأزمة الرهون العقارية وتبعاتها، ولم تزد أجورها، بل زادت ديون أُسرها. ولذا، فقد قامت بإلقاء اللوم على الآخرين، سواء المهاجرين، أو الليبراليين الديمقراطيين، أو الصينيين.

ماسك وتذبذباته السياسية
مثل العديد من المليارديرات، كان ماسك مترددا في السابق في الانخراط المباشر في الحياة السياسية، لكنه صوَّت لهيلاري كلينتون في انتخابات عام 2016 ولجو بايدن عام 2020.
وفي عام 2021 ادَّعى ماسك أنه يفضل البقاء بعيدا عن الانخراط المباشر سياسيا في نقاشات وصراعات الفضاء العام، وقال: “أُفضِّل البقاء بعيدا عن السياسة”.
بدأ ماسك الانتقال إلى الحياة السياسية الأميركية بصورة مباشرة من خلال شرائه منصة التواصل الاجتماعي “تويتر” في أبريل/نيسان 2022، وأكمل الاستحواذ عليها بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2022 مقابل 44 مليار دولار، وذلك مع احتداد الحملة الانتخابية لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
وفور استحواذه على منصة تويتر، غيَّر ماسك نظام خوارزميات المنصة، وجعلها مفتوحة أمام المؤثرين والسياسيين ممن كانوا محظورين من قبل، وكان دونالد ترامب من بين هؤلاء. وعزَّز ماسك حرية التعبير بما سمح بتحجيم القيود على سوق الأفكار على المنصة التي غيَّر اسمها إلى “إكس”.
ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2022، اتخذ ماسك منعطفا دراماتيكيا في السياسة الانتخابية الأميركية، وبينما كان يتبرع تاريخيا للحزبين، مال ماسك إلى الحزب الجمهوري. ومنذ بداية عام 2024، تحول دعمه العلني إلى الرئيس ترامب وكل القضايا المحافظة التي نادى بها.
في أوائل عام 2024، كان ماسك لا يزال يدّعي أنه غير منحاز سياسيا، مما يشير إلى أنه لن يتبرع لأيٍّ من الحملتين الرئاسيتين. انتهى هذا الحياد الواضح بعد محاولة اغتيال ترامب في تجمع انتخابي في يونيو/حزيران 2024 بولاية بنسلفانيا، حيث أيَّد ماسك ترشح ترامب للعودة للبيت الأبيض.
وكان تحوُّل ماسك الفعلي إلى حركة “ماغا” سابقا بفترة طويلة محاولة اغتيال ترامب، إذ دأب ماسك على التغريد على موقع تويتر والتفاعل مع حسابات تشارك مبادئ أنصار ترامب وبعض ممثلي اليمين الأميركي ممن يروِّجون لنظريات سمو الجنس الأبيض، ومؤامرة الإبادة الجماعية للبيض في جنوب أفريقيا، والعداء لسياسات التنوع والإنصاف والشمول (DEI) التي تبنَّاها ترامب لاحقا.
وأشارت تقارير إلى أن ماسك كان أكبر مساهم مالي في حملة انتخاب ترامب 2024، حيث أنفق ما يقرب من 300 مليون دولار للمساعدة في انتخاب ترامب.
وأثار هذا الإنفاق الهائل أيضا شكوكا في رغبة ماسك في التأثير السياسي غير المتناسب من ملياردير تكنولوجيا يفتقر إلى التفويض الانتخابي أو الدور الرسمي.
وبصفته رجلَ أعمال مليارديرا، كان هناك العديد من القواسم المشتركة الأيديولوجية بين ماسك وترامب، على رأسها برامج التخفيضات الضريبية التي يتبنَّاها ترامب، وتحديد دور الدولة في التشريعات والإجراءات التكنولوجية.
شعبوية ترامب ضد تحررية ماسك
لم يعلن ماسك عن أي إطار أيديولوجي يغلف به تدخله في الحياة السياسية، ووصوله إلى دائرة التأثير المباشرة في البيت الأبيض على مدار الأشهر الخمسة الأخيرة.
وبوصفه رجلا تكنولوجيا ذا ميول تحررية، يُفضِّل ماسك الحد الأدنى من التدخل الحكومي، وغالبا ما ينتقد البيروقراطية وعدم كفاءة الحكومة، ويُقدِّر الأنظمة اللا مركزية (على سبيل المثال العملة المشفرة وحوكمة الذكاء الاصطناعي)، ويُفضِّل الابتكار الفردي على التحكم الذي تقوده الدولة.
وفي الوقت الذي هدف فيه ترامب من خلال الشعبوية إلى الوصول إلى البيت الأبيض مرتين، إضافة إلى إعادته تشكيل الحزب الجمهوري، والحفاظ على حركة سياسية تُمثِّل إرثا شخصيا له، حاول ماسك من خلال رؤيته لنفسه ونظرته إلى العالم الترويج لأفكار كبيرة طموحة، مثل الذكاء الاصطناعي، واستعمار الفضاء، وتعميم استخدام المركبات الكهربائية.
تفاخر ترامب بأن يصبح نصيرا وبطلا للطبقة الوسطى وحاميا للطبقة العاملة المنسية، وخاصة الأميركيين ذوي الياقات الزرقاء في مجالات التصنيع والزراعة وسكان المناطق الريفية. وكثيرا ما يستخدم اللغة الشعبوية، مدَّعيا أنه يُمثِّل “الأغلبية الصامتة” ضد النخب والعولمة ومناصريهم من ساكني سواحل المحيطيْن الأطلسي والهادي.
يصف ترامب نفسه بأنه ملياردير يفهم “الرجل العادي”، ويستخدم سياسات الهوية لحشد دعم الطبقة الوسطى، وغالبا ما يستحضر الوطنية والقيم التقليدية والقومية. وينظر ترامب إلى التكنولوجيا على أنها ذات قيمة في المقام الأول عندما تساعد التصنيع الأميركي أو القوة العسكرية. واجتماعيا، يشكك في الأجندة الاجتماعية لوادي السيليكون وتأثيرها على الثقافة المجتمعية ومستقبل الوظائف. ويتسق مع ذلك تشكُّك ترامب في سرديات تغير المناخ وضرورة اللجوء إلى الطاقة النظيفة، ومن هنا تراجع وألغى وعدّل الكثير من اللوائح البيئية، وعزَّز صناعات الوقود الأحفوري.
وعلى النقيض من ترامب، رأى ماسك نفسه يبني مستقبلا جديدا قد يترك أجزاء من الطبقة الوسطى وراءه، ولكنه يخلق نماذج اقتصادية جديدة تفيد الإنسانية.
ركَّز ماسك على قطاع الأعمال المتقدمة من حيث الابتكار والرقمنة التي يمكن أن تحل محل وظائف الطبقة الوسطى.
في حين يعتقد ماسك أن التكنولوجيا تحويلية وضرورية بطبيعتها، حتى لو عطلت الطبقات الاقتصادية الحالية. كثيرا ما يقلل ماسك من أهمية المخاوف بشأن النزوح الوظيفي، ويعتبرها آلاما متزايدة نحو مستقبل أفضل.
ومن النادر أن يتحدث ماسك مدافعا عن الطبقة الوسطى، لكنه تحدث في كثير من الأحيان بدلا عن ذلك إلى المهنيين في مجال التكنولوجيا ورواد الأعمال أو المستثمرين. وعزَّز ماسك الرؤى طويلة المدى التي تعتمد على التكنولوجيا (مثل التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي) التي لا يتردد صداها دائما مع المخاوف المباشرة للطبقة الوسطى التي يدعمها ترامب.
وعلى العكس من ترامب فيما يتعلق بالمناخ، فماسك بيئي، ومؤيد للسرديات العلمية في هذا الشأن، وبنى إمبراطورية سيارات تسلا انطلاقا من إيمانه بضرورة تقليل انبعاثات الكربون، ومن هنا هو مدافع قوي عن الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية.
تحالف غير مقدس
توجَّه ماسك أكثر للجمهور الأصغر سِنًّا، والواعي بالتكنولوجيا، والمناهض للاستبداد من أصحاب الميول التحررية، أو المحبَطين من المؤسسات السائدة، مروِّجا لشعبوية تكنوقراطية تكنولوجية ليست سياسية بالمعنى التقليدي.
وحاول ماسك التأثير من خلال شعبويته المختلفة في تشكيل الروايات حول التكنولوجيا والحرية والمستقبل، غير مكترث بالهياكل السياسية الحالية. وأدَّى وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما أسهم فيه جزئيا دعم ماسك، إلى تحالف غير مسبوق بينهما.
ومنذ ولايته الأولى، لم يتوقف الرئيس ترامب عن تكرار أنه يسعى لترشيد الإنفاق الحكومي، وفي سبيل ذلك عهد لرجل الأعمال الشهير وأغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، بالمساهمة في تحقيق هذا الهدف من خلال إدارة الكفاءة الحكومية، قبل أن تدب الخلافات بين الرجلين عندما انتقد ماسك مشروع قانون ترامب الذي يصفه بأنه “التشريع الكبير والجميل”، الذي يشمل خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي بشكل كبير.
وقبل ذلك، ادَّعى ترامب وماسك أن وزارة الكفاءة الحكومية التي أشرف عليها ماسك، بقرار من ترامب، قد توفر ما يقرب من تريليونَيْ دولار، يمكن استخدامها لتمويل تخفيضات ضريبية واسعة، ومع عدم تحقق ما سعيا إليه، خشي ماسك من تبعات زيادة مشروع ترامب للميزانية على الدين العام.
ووسط قلق الخبراء المبرَّر من زيادة الدين العام، يدافع ترامب باستمرار عن حجم هذا التشريع ونطاقه، واصفا ضخامة الإنفاق بأنها استثمارات ستُعيد لأميركا عظمتها.
ووصف ترامب القانون بأنه أهم تشريع في ولايته الثانية، وهو مشروع قانون واحد من شأنه أن يُمهِّد لتنفيذ أجندته الداخلية بأكملها. ولكن مع توجُّه مشروع القانون من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ، يُتوقع أن يواجه الكثير من المعارضة.
حيث كشف تقرير صدر من “معهد مراقبة الميزانية”، المستقل في واشنطن، أن مشروع القانون سيضيف 2.4 تريليون دولار إلى الدين الوطني على مدى العقد المقبل.
و”مشروع القانون الكبير والجميل”، هو حزمة تشريعية شاملة قدّمها ترامب قبل أسابيع، ومُرِّرَ في مجلس النواب بفارق ضئيل في 22 مايو/أيار، بأغلبية 215 صوتا مقابل 214 صوتا جاءت على أساس حزبي صارم.
وجاء تمرير القرار في لحظة محورية في أجندة ترامب التشريعية، مما يعكس أولويات سياسته والانقسامات العميقة داخل الحزب الجمهوري.
وتغيَّر الأمر برفض ماسك مشروع ميزانية ترامب المعروف باسم “مشروع قانون ترامب الكبير والجميل”، الذي وصفه بأنه “بغيض”، وطلب من متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي الاتصال بأعضاء الكونغرس الممثلين لمناطقهم لتحفزيهم على قتل المشروع وعدم التصويت له”.
واعتبر ترامب أن غضب ماسك يرجع إلى تخفيضه الدعم للسيارات الكهربائية. ورغم أن تخفيضات الدعم ستؤثر على أكبر شركات ماسك “تسلا”، فإن ماسك أيَّد سابقا إلغاء الدعم.
ولا يزال مشروع القانون يواجه عقبات كبيرة، حيث يشير أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون إلى أنهم يريدون تغييرات جوهرية، رغم أنهم يختلفون على ما ستكون عليه هذه التغييرات.
سخر السيناتور عن ولاية كنتاكي راند بول من تخفيضات الإنفاق ووصفها بأنها “ضعيفة”، بينما وصف السيناتور عن ولاية ويسكونسن رون جونسون، حليف ترامب، التأثير المالي لمشروع القانون بأنه “رهن مستقبل أطفالنا”.
نهاية متوقعة.. ولكن!
غادر ماسك البيت الأبيض، وقام ترامب بشكره على خدمته وقدَّم له “مفتاحا ذهبيا” في احتفالية بالمكتب البيضاوي. لكن هذه الأجواء الاحتفالية غلَّفها توتر صامت حول مشروع قانون ترامب للميزانية الفدرالية، الذي انفجر في خلافات وتغريدات وتصريحات وتهديدات نارية خرجت في بعض الأحيان عن نطاق المعقول المتوقع بين رئيس أكبر دولة في العالم وأغنى رجل على كوكب الأرض.
وأظهر خلاف ترامب وماسك وقوف الحزب الجمهوري على مفترق طرق حاسم: هل يقفون مع دونالد ترامب الذي يريد إضافة أكثر من تريليونَيْ دولار إلى الدين العام، ويقلص العديد من الخدمات الاجتماعية التي يستفيد منها ملايين الجمهوريين من أبناء الطبقات الدنيا والوسطى، أم يقفون مع ما ينادي به ماسك، وهو ما قد يتركهم فريسة لقوى المستقبل غير المعروف.
ويشير الضجيج الجمهوري والاقتتال الداخلي حول الدين العام وعجز الموازنة إلى حقيقة استبدال الحزب الجمهوري أهواء ترامب الاقتصادية غير المتماسكة بما تبقى من أي “سياسة اقتصادية”. وبالتالي، لا يُطلب من المشرعين الجمهوريين تمرير تشريعات، بل يُطلب منهم المشاركة في اختبار الولاء لترامب.
وإذا نفَّذ ماسك تهديداته وانقلب على الجمهوريين -بعد إنفاق مئات الملايين لدعم حملاتهم العام الماضي- فقد يتسبب ذلك في صداع لأعضاء مجلس النواب من شاغلي مناصبهم حاليا، وسيواجهون تحديات في الانتخابات التمهيدية للحزب قبل مواجهة خصومهم الديمقراطيين في نوفمبر/تشرين الثاني 2026.
وستُمثِّل خسارة مجلس النواب ضربة مدمرة لآمال الجمهوريين في الاحتفاظ بالسيطرة على الكونغرس في النصف الثاني من ولاية ترامب، الذي لن ينجو بنفسه من تحقيقات ومحاولات للعزل، ناهيك عن شلّ أجندته الداخلية.
وفي تصعيد لافت لخلافات الرجلين، طرح ماسك فكرة تشكيل حزب سياسي جديد لمنافسة نظام الحزبين القائم والراسخ في الحياة السياسية الأميركية. وأجرى ماسك استطلاعا عبر منصة “إكس” التي يمتلكها، وسأل متابعيه البالغ عددهم 221 مليون شخص: “هل حان الوقت لإنشاء حزب سياسي جديد في أميركا يُمثِّل بالفعل 80% في المنتصف؟”.
تُظهر النتائج العامة أن نحو 80% من المستجيبين صوّتوا بـ”نعم”. قال ماسك، ردا على نتائج استطلاعه الذي قرأ نصه 141 مليون شخص، بينهم ما يقرب من 5.7 ملايين شخص أدلوا بآرائهم: “لقد تحدث الناس. هناك حاجة إلى حزب سياسي جديد في أميركا لتمثيل 80% في الوسط!”.
ومع إنفاق ماسك مئات الملايين من الدولارات دعما لانتخاب ترامب في عام 2024، لا نستبعد أن يستمر ماسك في الاستثمار بكثافة في الحياة السياسية الأميركية بصورة مبتكرة لم يتوقعها أحد قبل أسابيع قليلة.
لكن للمال حدود في السياسة الأميركية، فقد فشل استثمار ماسك الضخم في انتخابات المحكمة العليا في ولاية ويسكونسن في أن يؤتي ثماره في نهاية مارس/آذار الماضي، حيث فازت سوزان كروفورد المدعومة من الديمقراطيين بالمقعد الذي يقرر تَوجُّه المحكمة. وأنفق ماسك أكثر من 20 مليونا لدعم الجمهوري براد شيميل، وعدة ملايين أخرى لزيادة الوعي حول الانتخابات، وسافر إلى ويسكونسن لدعم شيميل، ولم ينجح المرشح الجمهوري.
في حين أن انتخابات المحكمة العليا على مستوى ولاية متوسطة الحجم ليس بالضرورة عاكسا للصورة العامة على المستوى الوطني، لكنها كانت دليلا على حدود قدرة ماسك المالية في التأثير السياسي.
كما أن هذه الانتخابات كانت من أوائل الانتخابات الكبرى التي تُجرى منذ وصول ترامب، ومعه ماسك، إلى البيت الأبيض، مما جعلها استفتاء مبكرا على قدرتهما معا، أو قدرة ماسك وحده، على التأثير على أي انتخابات مستقبلية.