كييف- بعد إسرائيل، ربما لم تستجب الولايات المتحدة ودول الغرب عموما لمطالب دولة أخرى، ولم تتفاعل معها وتدعمها كما فعلت مع أوكرانيا في أزمتها، منذ بداية الحرب الروسية عليها في فبراير/شباط 2022.
وجاءت استجابة هؤلاء سريعة نسبيا، وفي شكل دعم سنوي بعشرات مليارات الدولارات، يشمل سيولة مالية للحكومة، وأسلحة دفاعية وهجومية متطورة ليست موجودة حتى في بعض دول الغرب وحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
ورغم الشد على الأيادي ووجوه المسؤولين الحازمة عند الحديث عن مبادئ وعبارات الدعم الثابت حتى النهاية، تنتقد كييف -من حين إلى آخر- بعض أو كل حلفائها الغربيين، الأمر الذي يكشف خلافات معهم بدرجات متفاوتة.
عقوبات متساهلة
فرغم أن الحرب على أوكرانيا كانت سببا بتصدر روسيا قائمة العقوبات الغربية، فإن كييف لا تزال تنتقد آلية تطبيق تلك العقوبات، وتدعو إلى تشديدها أكثر.
ولعل آخر انتقاد وجهته أوكرانيا في هذا الصدد جاء على لسان رئيسها، فولوديمير زيلينسكي، الذي قال إن روسيا تقصف أوكرانيا أسبوعيا بمئات المسيّرات التي تضم 8755 مكونا غربيا، ومئات الصواريخ والقنابل الجوية الموجهة، التي تضم بمجملها أكثر من 50 ألف مكون غربي المنشأ أيضا.
ولا تكفي العقوبات -بحسب زيلينسكي- لأن “روسيا تحصل على ما تريد من جميع أنحاء العالم تقريبا”، كما قال، و”بشكل مباشر، أو عبر أطراف ثالثة ورابعة”، كما يقول خبراء.
بيروقراطية الدعم
ولعل من أبرز الانتقادات التي توجهها أوكرانيا لدول الغرب تلك المتعلقة بكمّ وببطء وتيرة حصولها على ما تحتاج من مساعدات عسكرية لحماية المدن وتعزيز المواقع، خاصة في مجالات الدفاع الجوي والذخائر والأسلحة بعيدة المدى.
وأبرز وآخر ما قيل في هذا الشأن يتعلق بطائرات “إف-16” التي حصلت عليها أوكرانيا، وكانت أبرز عناوين العام الماضي، خاصة أنها اعتبرت “منعطفا كبيرا في مسار الحرب”.
وفجّر رئيس قسم الاتصالات حاليا والمتحدث السابق باسم القوات الجوية، العقيد يوري إرهنات، مفاجأة قبل أيام، بالقول إنه “لا توجد ذخائر بعيدة المدى لتلك الطائرات، ولم تُجرَ تعديلات لازمة عليها، وبالتالي لا يمكنها التنافس مع المزايا والتقنيات الموجودة في الطائرات الروسية الحديثة”.
أزمات تاريخية
ليس هذا وحسب، فأحيانا تخرج إلى العلن تصريحات لاذعة واتهامات كبيرة من الجارة البولندية، التي تتصدر (نظريا) قائمة الداعمين لأوكرانيا في أوروبا بالمال والسلاح، والمؤيدين بشدة لمساعي تكاملها وعضويتها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
ويرجع أساس هذه الانتقادات والاتهامات إلى ما تسمى بـ”مذبحة فولين” في أربعينيات القرن الماضي، التي يصنفها البولنديون جريمة إبادة جماعية لا تعترف بها كييف، مؤكدين أن عدد ضحاياها بلغ نحو 100 ألف بولندي، بينهم أطفال ونساء، وأن من قام بها هو “جيش التمرد الأوكراني” خلال الحرب العالمية الثانية، لمنع بولندا من إعادة سيادتها على مناطق كانت جزءا من الدولة البولندية قبل الحرب، ومنها مدينة لفيف، أكبر وأهم مدن غرب أوكرانيا حاليا.
والحديث عن مأساة “المذبحة” يتجدد كلما توترت العلاقات بين كييف ووارسو، على خلفية أزمة إغلاق المزارعين البولنديين حدود بلادهم مع أوكرانيا خلال العام الماضي مثلا، واتهام زيلينسكي بولندا بتقديم “وعود كاذبة” فيما يخص إمدادات السلاح، وأخيرا انتقاد بولندا تقاعس أوكرانيا عن تعبئة رجالها في الجيش، وهروب أعداد كبيرة منهم إليها.
أطماع “انفصالية”
ولأسباب تاريخية وعرقية وجغرافية أيضا، ثمة توترات مستمرة بين أوكرانيا والمجر، لا تسترها الدبلوماسية والأولويات التي تفرضها الحرب، كما هو الحال في العلاقات الأوكرانية البولندية.
وتُعَد المجر من أبرز الدول المعادية لدعم أوكرانيا بالمال والسلاح في حربها، والمناوئة لمساعي تقاربها مع معسكر الغرب منذ أحداث الثورة البرتقالية قبل نحو عقدين، حتى وإن اضطرت للتماشي مع الهوى الغربي العام، إن صح التعبير.
وأساس الخلاف اتهامات متكررة وجهتها بودابست لكييف بانتهاك حقوق الأقلية المجرية في مقاطعة زاكارباتيا غرب أوكرانيا، والمتعلقة بقضايا اللغة والتعليم والحريات، مقابل اتهامات صريحة وجهتها كييف لبودابست حول أطماع توسعية لديها، من خلال دعم حراك انفصالي بين تلك الأقليات، على غرار ما فعلته روسيا في جنوب شرق أوكرانيا سنة 2014.
حدود قدرة أم سياسة؟
وعلى خلفية ما سبق، تضطر أوكرانيا للتماشي أيضا مع هذا الواقع والتعامل مع مشاكل الجيران، على ما يبدو، وإلا فستُترك وحيدة في حربها، وقد تكون عرضة لخطر لا يأتيها فقط من الشرق الروسي، كما هو الحال اليوم.
حول هذا الشأن يقول أوليكسي كوشيل، رئيس مؤسسة “الخيارات الأوكرانية” للدراسات الإستراتيجية، في حديث مع الجزيرة نت، إن “تطبيق العقوبات على روسيا أصعب من فرضها. هذه المشكلة ستبقى دون حل، لأنها معقدة، وتحتاج إجماعا دوليا، الأمر الذي يعتبر مستحيلا في زماننا الراهن”.
وأضاف موضحا “لدى روسيا علاقات مع دول تشتري منها النفط والغاز، وتؤمّن لها بالمقابل ما تحتاجه من مواد وتقنيات، كالصين والهند وغيرها من الدول التي ترفض العقوبات وقطع العلاقات مع روسيا”.
ومن وجهة نظر الخبير كوشيل أيضا، “البيروقراطية كانت من أهم أسباب فشل العمليات الأوكرانية المضادة في العام الماضي، والعجز أمام الضغط الروسي هذا العام. ولكن، للأسف، لا خيار أمام أوكرانيا سوى الرضا والسعي دبلوماسيا نحو المزيد، ومحاولة النهوض بما يتوفر لديها وتستطيع تطويره محليا من سلاح”.
وتابع “إنهم (في الغرب) منقسمون بين دول تعتبر أوكرانيا “درعا لها”، ولهذا تريد تقديم الدعم سريعا، لكنها لا تمتلك القدرة، كدول البلطيق وحتى بولندا الخائفة أكثر من غيرها من مخاطر التوسع الروسي، وبين دول ربما تريد فعلا أن تصمد أوكرانيا أو حتى تنتصر، لكنها وجدت في الحرب ذريعة لإضعاف روسيا واستنزافها ببطء، كألمانيا والولايات المتحدة، اللتين، بحجة الخشية من التصعيد، لا تقدمان كل ما يحتاجه الصمود والنصر”، على حد قوله.
النظام العالمي
وفيما يتعلق بالخلافات التاريخية والثقافية مع دول الجوار، يرى الكاتب والمحلل السياسي أولكساندر بالي، وهو مؤلف كتاب “تاريخ أوكرانيا المعاصر”، أنها “خلافات محدودة الأثر وقابلة للحل إذا ما انتهت الحرب بشكل أو بآخر”.
لكنه لفت، في حديث مع الجزيرة نت، إلى أن “خطر تطور هذه الخلافات إلى تدخلات وصراعات لن يكون إلا إذا انتهت الحرب لصالح روسيا بقوة، لأن ذلك سيؤثر على النظام العالمي، وسيخلق فوضى، ويكشف عيوبا وأطماعا كثيرة حول العالم، وليس فقط حول أوكرانيا”، على حد قوله.