واشنطن- على أعتاب النزال السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين حول كسب أصوات الناخبين الأميركيين، وفي أروقة مراكز البحث ذات الآراء والتصورات المهمة عند البيت الأبيض في رسم السياسة الخارجية، تبرز الحرب بين أوكرانيا وروسيا كإحدى الأزمات التي تهدد تماسك الجمهوريين، وتعمّق الخلاف بين حملتي الرئيس جو بايدن وغريمه دونالد ترامب.

ويبدو أن اهتمام الإدارة في واشنطن بالتدخل في هذه الحرب لا يقتصر على الوقوف في وجه التمدد الروسي نحو أوروبا الوسطى، بقدر ما يعكس تخوفا من التأثير الاقتصادي والأمني الذي قد تتضرر منه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.

وقد كشفت حرب أوكرانيا عن تباين المواقف داخل أروقة الحزب الجمهوري، حيث تقف قيادات جمهورية داخل مجلسي الشيوخ والنواب مثل السيناتور “راند بول” والنائب “توماس ماسي” (يمثلان ولاية كنتاكي) ضد التدخل في حرب أوكرانيا، واعتبرا أن تورط الولايات المتحدة فيها “وصفة للحرب والكوارث”.

وعلى نقيض ممثلي ولاية كنتاكي، ثمة نواب جمهوريون يدعمون استمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا، مثل النائبين الجمهوريين “أوغست فلوغر” عن ولاية تكساس و”مايك غارسيا” عن ولاية كاليفورنيا.

وينظر هذا الفريق إلى حرب أوكرانيا بأنها اختبار جيوسياسي لمدى حيوية الولايات المتحدة ليس في صراعها مع روسيا، وإنما مع الصين أيضا.

تزود الولايات المتحدة أوكرانيا بأسلحة وحزمة كبيرة من المساعدات في حربها مع روسيا (وكالة الأناضول)

انقلاب في قاعدة الناخبين

وتلقي الحرب بظلالها على الخلافات بين أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن، إذ يرى المؤيدون للأخير أن روسيا تمثل التهديد الجيوسياسي الأكثر إلحاحا على المصالح الأميركية، وذلك هو النسق العام للحزب الجمهوري.

ويرى الداعمون لدونالد ترامب من الجمهوريين ضرورة عدم الاصطفاف مع حكومة كييف ضد هجمات روسيا، ولا يخفون إعجابهم بالرئيس فلاديمير بوتين بدلا من إدانته.

ويلخص هذا الصدع القائم داخل الحزب الجمهوري خطورة نجاح حملة دونالد ترامب التي قادته إلى البيت الأبيض لفترة واحدة في عام 2016، وهي الحملة التي تستمر حاليا في محاولته العودة إلى الرئاسة، في انقلاب جانب كبير من قاعدة الناخبين ضد المؤسسات الحاكمة، التي دائما ما وصفها ترامب بـ”المستنقع”.

وقد كشفت الصراعات التي يمر بها الحزب الجمهوري أن الرئيس السابق تدعمه تيارات مناصرة لاستمرار الدعم الأميركي لكييف، وأخرى مناهضة له.

والواقع أن التعقيدات الخاصة بدعم أوكرانيا تتضح بشكل أكثر جلاء داخل الحزب الجمهوري، وهو ما عبرت عنه قيادية جمهورية بقولها “ليس كل مؤيدي ترامب مناهضين لأوكرانيا، ولكن كل مناهضي أوكرانيا يؤيدون ترامب”.

مراكز البحث ووسائل التواصل

وفي سياق المخاوف من أدوات التأثير على الرأي العام الأميركي، يأتي دور مراكز البحث التي تلعب دورا بارزا في صياغة الإستراتيجيات ورسم السياسات العامة للولايات المتحدة.

ومن المعروف أن الغالبية العظمى من مؤسسات البحث لها ميول وانتماءات حزبية، فهي موزعة على الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ناهيك عن مراكز أبحاث أخرى لا علاقة لها بالحزبين وبعضها مرتبط بمؤسسات وأجهزة في الدولة بغض النظر عن الحزب الذي يحكم، كمؤسسة “راند” المرتبطة بوزارة الدفاع (البنتاغون) والأجهزة المعاونة لها.

ويأتي “معهد واشنطن” ومعه “أميركان إنتربرايز” كنموذجين لمراكز البحث المرتبطة بالحزب الجمهوري، ويلعبان دورا كبيرا في توازنه ضمن رؤيته المتعلقة بالإستراتيجيات والسياسات.

ومن معهد أميركان إنتربرايز الذي يؤيد بقوة استمرار المساعدات لكييف، يأتي الباحث “كوري شاك” منتقدا السير مع الديمقراطيين الذين يصفهم بالمترددين إزاء ملف أوكرانيا.

وبالإضافة لمراكز الأبحاث ودورها في التأثير على مسار تدخل الولايات المتحدة في الحروب الخارجية، تأتي وسائل التواصل الاجتماعي كعنصر جديد في مجال التأثير على النخب السياسية.

وبدلا من أن يعتمد أعضاء الكونغرس وكبار المسؤولين على أوراق السياسات التي تصلهم من مراكز الأبحاث الرصينة، ثمة عدد منهم يتأثر بمحتوى حملات الدعاية على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل عضو مجلس الشيوخ السيناتور “جي دي فانس” والنائبة “ماجوري تايلور غرين” اللذين ذهبا وراء حملات الدعاية الروسية التي تزعم بأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اشترى يخوتا فاخرة بأموال المساعدات الأميركية.

الاقتصاد هو الأساس

والواقع أن الناخب الأميركي لا يهتم كثيرا بما إذا كانت أوكرانيا ستتقلص أراضيها لحساب روسيا، أم ستستعيد ما تم احتلاله، وذلك باستثناء تأثير عاطفي محدود في حال تحقق الاحتمال الثاني.

ولكن الأهم في استمرارية أو توقف الدعم لأوكرانيا هو التأثير الذي سيتركه انكسار كييف على استقرار أوروبا، وهو ما ستصدّره الأخيرة إلى الولايات المتحدة في ثوب الاقتصاد والتجارة.

فعلى الرغم من كل الضجة حول التجارة الأميركية مع الصين، فإنها تتضاءل أمام حجم التبادلات مع أوروبا، ففي عام 2022 وصل حجم التجارة في السلع والخدمات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لأكثر من 1.3 تريليون دولار، أي أكثر من ضعف التجارة مع الصين البالغة 643 مليار دولار.

من هذا المنظور، يمكن فهم خلفيات الفتور الأميركي تجاه منطقة أوروبا الوسطى في السنوات الأخيرة، إذ اعتبرت أنها لا تقدم الإسهامات المالية التي تكفي للدفاع.

ولكن إذا تراجعت الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا بما يضع روسيا على أعتاب أوروبا الوسطى، فإن القارة العجوز سيتعين عليها زيادة الإنفاق العسكري بشكل هائل، بما يزيد من كاهل الضرائب على مواطنيها، بالإضافة إلى خصم تلك المخصصات من حساب الاستثمار في البنية التحتية.

وبناء على ذلك، فإن الولايات المتحدة في صراعها الإستراتيجي ستكون ملزمة بإرسال المزيد من القوات إلى أوروبا “الفقيرة” والتي ستصبح أقل قدرة على شراء السلع الأميركية، كما سيتراجع استثمارها في أميركا، وستقدم عائدا أقل على استثمارات الشركات الأميركية.

قاضية فدرالية تقر بقانونية محاكمة الكونغرس لترامب
من المحتمل أن تسفر الانتخابات النصفية القادمة عن تراجع أعضاء الكونغرس المناهضين لمساعدات أوكرانيا (الجزيرة)

سيناريو الدعم السخي

وعلى مشارف الانتخابات الأميركية المقررة في نهاية العام الجاري، يبقى مستقبل الأزمة الأوكرانية داخل أروقة السياسية الأميركية يدور بين 3 سيناريوهات:

  • السيناريو الأول وهو المحتمل، يتمثل في استمرار الدعم السخي لكييف، ومما يقوي هذا الاتجاه أن معارضة استمرار هذه المساعدات داخل الكونغرس تقودها مجموعات قليلة، في حين أن غالبية الأعضاء يدركون ما هو على المحك في حرب روسيا على أوكرانيا، ويفضلون استمرار الدعم، والدليل على ذلك إقرار حزمة مساعدات جديدة مؤخرا.
    وفي الوقت ذاته، فمن المحتمل أن يتلقى بعض من أعضاء الكونغرس المناهضين للمساعدات لأوكرانيا هزيمة في الانتخابات المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. وإذا حدث ذلك، فقد تزيد المساعدات بما يسمح لكييف بتحقيق بعض الانتصارات المهمة التي قد تدفع روسيا إلى العودة لحدود ما قبل عام 2022، وهذا السيناريو سيمنح الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين الفرصة لزيادة ميزانيات الدفاع لردع موسكو عن تكرار مثل هذه التحركات في المستقبل.
    ووفقا لهذه القراءة، ستبقى المساعدات متدفقة بشكل مستمر إلى أوكرانيا حتى في ظل انقسام الجمهوريين، وحينها سيتحول شعار ترامب الشهير “أميركا أولا” إلى “أميركا وأوروبا أولا”.
  • السيناريو الثاني وهو الأكثر ترجيحا، ويتمثل في “الدعم الفاتر”، وإعادة تقييم مخصصات المساعدات بهدف احتواء الصراع في إطار استمرار خطوط المواجهة الحالية.
    ورغم أن الأميركيين عموما لا يرغبون في تمويل حرب إلى أجل غير مسمى، فإن النزيف المستمر لعدو جيوسياسي يشكل خيارا مرغوبا للمصالح الإستراتيجية الأميركية، وهو الهدف الذي يمكن أن يتفق عليه طرفا الانقسام الجمهوري.
    وفي ظل هذا التصور، ستجد كييف صعوبة في تحقيق تقدم كبير في ساحة المعركة، وحينها سيمتد الصراع طويل الأمد لسنوات، وتتخلله فترات تنخفض فيها حدته تارة وتشتد تارة أخرى.

ومع احتمال كهذا، ستكون العواقب في مجملها سلبية، ولكنها أقل خطورة مما لو تخلّت الولايات المتحدة عن أوكرانيا بالكامل، وستكون أوروبا أقل استقرارا وأمانا، مما كانت عليه في العقود القليلة الماضية، ولكن سيكون لديها متسع لتعزيز دفاعاتها بثمن اقتصادي باهظ تتحمله هي والولايات المتحدة سويا.

  • السيناريو الثالث وهو الأقل احتمالا، ويتجلى في خروج الولايات المتحدة من الصراع الروسي الأوكراني. ورغم أن هذا الاحتمال مستبعد بحكم الكثير من الوقائع، فإن شرائح كثيرة من الشعب الأميركي قد تضغط على الساسة المناهضين لأوكرانيا حتى تعليق المساعدات بشكل مستمر، وهو ما سيؤدي إلى سلسلة من العواقب أكثرها خطورة الإرهاق الاقتصادي.
    وبالرجوع لتاريخ مشاركة الولايات المتحدة في النزاعات العسكرية وتنافسها مع الروس، سنجد أنه حتى في خضم تطبيق الولايات المتحدة سياسة الرئيس “ويدرو ويلسون” في بداية القرن الـ20، والتي حملت اسم “مبدأ العزلة”، اضطرت بعد عامين من الحرب العالمية الأولى التي كانت أوروبية بامتياز إلى التدخل لحسمها.
    وبعد أكثر من 70 عاما من انتهاء الحرب العالمية الأولى، عاودت أميركا التدخل لحسم ووقف الحرب في يوغوسلافيا عام 1999.

وتبقى جميع الاحتمالات المتعلقة بأوكرانيا مرهونة بنقطة لا تريدها الإدارة الأميركية، وهي أن أي نتيجة في أوكرانيا تمثل نصرا لروسيا ستكون مدمرة للأمن في أوروبا، وستفرض ضغوطا هائلة على اقتصاد أميركا ودفاعها.

شاركها.
Exit mobile version