قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ذات يوم “لا تنسوا شيئا واحدا، وهو أن جزءا كبيرا من الأموال التي لدينا تأتي، على وجه التحديد، من استغلال أفريقيا على مر القرون، لذلك نحن بحاجة إلى قدر قليل من الحس السليم، لم أقل الكرم، ولكن الحس السليم والعدالة كي نقدم للأفارقة ما أخذناه منهم، وهذا ضروري إذا أردنا تجنب الاضطرابات والصعوبات الشديدة، مع كل العواقب السياسية التي سيجلبها ذلك في المستقبل القريب”.

هذه الجمل تصلح توطئة لمقال هوارد دبليو فرينش –في عموده- بمجلة فورين بوليسي، حيث قال إن هناك انتفاضة ملحوظة ضد النفوذ الفرنسي جارية في منطقة الساحل، وهي إحدى المناطق الأفريقية التي كانت الهيمنة الفرنسية فيها أكثر شمولا على مدى العقود الماضية، مشيرا إلى أن هذا الاستياء المتزايد من الاستعمار الفرنسي الجديد، يحفز على رد فعل عنيف ضد باريس في جميع أنحاء غرب أفريقيا.

وقبل الدخول في التفاصيل، يعود الكاتب إلى بداية القصة، عندما انطلق الجنرال شارل ديغول في 1958، بعد عودته للسلطة، في جولة في مستعمرات بلاده في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مقدما لهم خطة للانضمام إلى نوع جديد من “مجتمع” فرنسا.

فصل غينيا

وتقتضي خطة الجنرال استمرار باريس في السيطرة على ما سمّته “خدمات الدولة” التي تشمل: الدفاع والمسائل النقدية والجمارك، فضلا عن وسائل الإعلام والاتصالات، ويسمح الحكم الذاتي شبه المحدود الجديد للبلدان الأفريقية بإدارة شؤونها الداخلية، وتحمّل التكاليف، التي كانت فرنسا تتحملها إلى حد كبير.

أما الصيغة التي قدمت بها الخطة، تحت غطاء من الشهامة –كما يقول الكاتب- فهي استفتاء مدروس، لدى المستعمرات الأفريقية الحرية في قبوله أو رفضه، ولن يكون هناك أي نقاش، بل مجرد تصويت بالموافقة أو بالرفض، وأي مستعمرة ترفض الاقتراح ستواجه الانفصال عن فرنسا “بكل ما يترتب على ذلك من عواقب”.

وعندما رفضت غينيا الخطة ثار غضب ديغول، الذي ألغى العشاء المقرر مع زعيم البلاد أحمد سيكو توري، ورفض دعوته للسفر على متن طائرته الرئاسية إلى السنغال المجاورة في اليوم التالي.

وبعد عودة ديغول إلى باريس، أمر بالانسحاب الفوري للآلاف من موظفي الخدمة المدنية الفرنسيين، الذين أداروا بيروقراطية المستعمرة وزوّدوا عياداتها ومدارسها بالموظفين.

وقبل عودتهم إلى الوطن، انخرط العديد من العمال الفرنسيين في عربدة من التدمير التافه، حيث حطموا الأثاث والسجلات الرسمية والمعدات، وحتى المصابيح الكهربائية.

وإذا كان فصل غينيا واحدا من أشهر الأحداث في التاريخ المشين للحكم الاستعماري الفرنسي وهيمنته على أجزاء كبيرة من غرب ووسط أفريقيا، فإنه لم يكن سوى جزء صغير من قصة طويلة جدا، خاصة أن غينيا كانت موقعا لحملة شرسة شنتها باريس لإخضاع الحكام السياسيين المحليين والسيطرة على البلاد في بداية الاستعمار، من أجل السيطرة على الذهب والموارد الطبيعية الأخرى.

ومع أن فرنسا لم تكن الدولة الأوروبية الوحيدة التي حكمت الأفارقة، فإن تاريخها فريد من نوعه من حيث استمرارها وانتشارها الجغرافي وقدرتها على التكيف، ولكن النضال من أجل الاستقلال في الجزائر، التي كانت آنذاك مستعمرة استيطانية فرنسية كبيرة في شمال أفريقيا، كان سببا في إسقاط الجمهورية الفرنسية الرابعة، وهدّد بحرب أهلية في قلب أوروبا في 1958، وهو العام نفسه الذي جرت فيه جولة ديغول في منطقة جنوب الصحراء الكبرى.

انتفاضة

وفي أعقاب الأحداث في غينيا والجزائر، عندما بدأت شخصيات أخرى من الأفارقة السود في المطالبة بقدر من الحكم الذاتي أكبر مما تصوره ديغول، من أجل الاستقلال التام، بدأت تحدث لهم أمور سيئة، حيث اغتيلت شخصية كاميرونية مناهضة للاستعمار لا يتذكرها كثيرون، وهي: فيليكس رولاند مومييه على يد عملاء فرنسيين سمّموه بالثاليوم المشع في جنيف في 1960.

أما اليوم، وبعد أكثر من 60 عاما، فهناك انتفاضة ملحوظة –كما يقول الكاتب- ضد النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، حيث انتفض زعماء 3 دول في هذه المنطقة شبه القاحلة: النيجر وبوركينا فاسو ومالي واحدا تلو الآخر، ضد النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا وتحركوا للحد أو القضاء على وجود الجنود والشركات والدبلوماسيين الفرنسيين في بلدانهم.

وقد ألقى الزعماء باللوم على باريس في مجموعة من المشكلات، بدءا بالحملة الطويلة الأمد التي قادتها فرنسا، التي كانت غير فعالة ومدمرة في كثير من الأحيان لاحتواء انتشار التمرد الإسلامي في منطقة الساحل، ومرورا بالتدخل في سياساتهم الداخلية، وانتهاء بالتربح من الإرهاب والعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة بشكل صارخ.

وفي ظل الرفض الشديد من جانب فرنسا، رحبت هذه الدول الثلاث غير الساحلية، التي تصنّف من بين أفقر الدول في العالم، بدور أكبر لروسيا، سواء في المساعدة على تعزيز أمنها الداخلي أو في استخراج الثروة المعدنية؛ مثل: الذهب واليورانيوم في أراضيها، ملوحة بإنهاء التعاون مع فرنسا بشأن السيطرة على تدفق الهجرة الأفريقية شمالا عبر الصحراء نحو أوروبا.

وناقشت الدول الثلاث الخروج من الاتحاد النقدي وعملة الفرنك الأفريقي الذي أنشأته فرنسا قبل الاستقلال، وسيلة لدعم الصادرات الفرنسية في المنطقة، وإدامة هيمنة باريس من حيث يقضي بإيداع الاحتياطيات الأجنبية لدى الخزانة الفرنسية، بل إنها تناقش إنشاء عملة ساحلية جديدة لتحل محل الفرنك الأفريقي.

تحديات الساحل

وذهب رئيس النيجر عبد الرحمن تياني، إلى مطالبة فرنسا بدفع تعويضات للدول الأفريقية مقابل سنوات مما شبهه بالنهب، كما تعهد رئيس بوركينا فاسو المجاورة، إبراهيم تراوري بعدم السماح أبدا لبلاده بأن يهيمن عليها الأوروبيون مرة أخرى، مما أثار خيال الملايين من الأفارقة الذين يعيشون في مستعمرات فرنسية سابقة.

ومع أن فرنسا، أشرفت ذات يوم على بناء مشروعات بنية تحتية ضخمة في مستعمراتها؛ مثل: المواني الكبرى والسكك الحديدية والطرق السريعة -وإن تنازلت عن ذلك أخيرا للصين- فإن إجراء مسح لأفريقيا جنوب الصحراء، يترك الانطباع بأن المستعمرات الفرنسية السابقة تتأخر بشكل عام عن نظيراتها المستعمرة البريطانية السابقة، في التنمية الاقتصادية والحكم الديمقراطي والاستقرار السياسي.

ولعل تحديا آخر لزعماء بوركينا فاسو ومالي والنيجر، أن يكون أكثر تأثيرا بمرور الوقت، فهم يتحدون البلدان الأفريقية الأخرى الناطقة بالفرنسية والإنجليزية بهدم الحواجز التي تقسمهم بشكل معوق، لتحقيق حلم الاتحاد الأفريقي بالوحدة.

وخلص الكاتب إلى أن بداية تحقيق قدر أعظم من الرخاء والرفاهية التي يتوق إليها كل الأفارقة لن تأتي إلا عندما تُستأصل الانقسامات، ولن يكون الغضب تجاه فرنسا مفيدا إلا إذا تحوّل إلى حافز لقدر أكبر من القدرة من جانب الأفارقة، على بناء عملاتهم الإقليمية الخاصة والسكك الحديدية والطرق السريعة، وتشكيل اتحادات سياسية واقتصادية على أكثر من مجرد ورق.

شاركها.
Exit mobile version