تستذكر فرح رحلتها المؤلمة من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، حيث لجأت عائلتها فرارا من العدوان الإسرائيلي. وهناك، ومنذ اللحظة الأولى التي أبصرت فيها النور، كانت فرح تعيش في أكبر سجن مفتوح بالعالم.

هكذا بدأت الصحفية هالة الصفدي مقالها -الذي نشره موقع “ميدل إيست آي”- لرواية مأساة سكان غزة متمثلة في هذه الطفلة الصغيرة التي تبلغ من العمر 12 عاما.

وتروى الصفدي أنها لا تستطيع أن تصدق أن هذه الفتاة على صغر سنها عاشت أهوال 3 حروب إسرائيلية على غزة، وأصبحت تعرف عن الحرب أكثر مما تعرف عن السلام.

وتتابع فرح الأخبار وتعرف أسماء السياسيين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما درست اتفاقية جنيف الرابعة وقوانين الحرب. وحتى المشاهد التي تصفها كفيلة بأن تملأ قلب أي طفل بالخوف والحزن، لكن ليس قلب فرح.

واليوم تبدو فرح غير مبالية بالأهوال المستمرة. وهذا هو حال العديد من الأطفال في غزة الذين أصبحت هذه المشاهد طبيعية بشكل مخيف.

وتحكي فرح كيف قصف منزلهم لكنها لا تتذكر التاريخ تحديدا، ولم تعد تعرف أيام الأسبوع، وكل ما تعرفه أنهم كانوا في حرب مضى عليها شهران الآن.

وتقول إنها كانت تعيش بالقرب من مستشفى القدس بمنطقة تل الهوى في غزة. وقرر والدها أن يذهب الجميع إلى المستشفى، معتقدين أن المكان سيكون آمنا.

ولم يتمكنوا في البداية من الذهاب إلى الجنوب لأن والدها لم يجد مكانا يقيمون فيه، وكانوا خائفين على أي حال بعد رؤية مقاطع فيديو لأشخاص قتلهم جنود الاحتلال أثناء فرارهم. كما قضى بالجنوب بعض ممن كانوا يعرفونهم من الشمال.

تجربة مروعة

وتروي فرح أن تجربة العيش في المستشفى كانت مروعة، وأنها شعرت كما لو كانت تنتظر الموت، وأن الجميع هناك كانوا خائفين. وقالت إنها نامت مع أختها (16 عاما) في ممرات الطابق العلوي مع النساء، بينما بقي والدها وأخوها في الطابق الأرضي مع الرجال.

وكان الليل أكثر الأوقات رعبا خاصة عندما يبدأ جيش الاحتلال بقصف محيط المستشفى.

وتقول فرح إن الدبابات الإسرائيلية بإحدى الليالي بدأت تحاصر المستشفى ولم يتمكن أحد من النوم ولو لثانية واحدة. وما إن طلت فتاة صغيرة من النافذة حتى عاجلها قناص إسرائيلي برصاصة فقتلها، وماتت أمام الجميع.

وعلقت فرح على ذلك بأن هذه كانت المرة الأولى التي رأت فيها شخصا يموت أمامها. وكانت أم الطفلة الشهيدة تصرخ طوال الليل، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من النافذة بعد ذلك. وبكت في تلك الليلة أكثر من أي وقت مضى.

وتقول فرح إنهم درسوا كل شيء عن النكبة الفلسطينية عام 1948. وشاهدوا الأفلام عن طرد الفلسطينيين وقتلهم. وعلموا بالمذابح التي وقعت في القرى. وشعرت أنها الآن تعيش نفس هذه القصص في الواقع.

وعلقت بأنه من المحزن أن تكون قصتهم من دروس التاريخ. واستطردت متسائلة: هل سأكون مثل هؤلاء الجدات وأحكي لأحفادي كيف اضطررنا إلى الفرار من مدننا لأنهم كانوا يقتلوننا؟

سيارات محترقة

تمضي فرح في حكايتها بأنه سمح لهم أخيرا بالخروج من المستشفى. ومع إشراق الصباح سلكوا شارع صلاح الدين مع المئات، كما أمرهم الجنود الإسرائيليون. وساروا وقتا طويلا من التاسعة صباحا حتى الثانية بعد الظهر.

وشعرت أن قلبها سيتوقف في أي لحظة من التعب. وأحيانا كانت تغمض عينيها وهي تمشي على أمل أن ما يحدث ربما كان حلما وليس حقيقة. ولكنها كانت تريد أيضا إبقاء عينيها مفتوحتين، تحسبا لقيام الجنود بإطلاق النار على والدها أو أخيها.

طائرات الاحتلال قصفت خان يونس ومخيمي “النصيرات” و”البريج” (الأناضول)

رحلة معاناة

وعند نقطة معينة من رحلة المعاناة، احتجز الجنود الإسرائيليون شابين، وبدا أنهم اختاروهما عشوائيا، وأمروهما تحت تهديد السلاح بخلع ملابسهما، ما عدا الملابس الداخلية، وتركا أحدهما يعود وأخذا الثاني. ولم يعرفوا ما حدث له، وظلت أسرته تبكي طول الطريق. وهنا، تعاظمت هواجس فرح من اعتقال والدها أو أخيها.

وكأن تلك المعاناة لم تكن كافية، حتى أقامت إسرائيل نقاط تفتيش أمنية وأمرت الجميع بالمرور عبر جهاز كشف يستخدم تقنية مسح الوجه. وخشيت أن يُطلق النار على أحدهم، حيث حاول جنديان استفزازهم بالقول “اشكرونا واشكروا حماس على ذلك”. لكن الناس استمروا يحثون بعضهم البعض على تجاهل صراخهم بهدف الوصول إلى بر الأمان.

وتابعت فرح بأنهم كلما مشوا أكثر زاد عدد الجثث التي رأوها على الطريق. ورأت امرأة ترقد بجانب طفل صغير. وكانت بعض الجثث مغطاة بالبطانيات. كما كانت هناك سيارات محترقة بداخلها جثث محترقة.

وما إن وطئت أقدامهم وادي غزة، كان العشرات من الفلسطينيين بانتظارهم وأخبروهم أنهم أصبحوا آمنين الآن. وأعطوهم العصائر وكعك الشوكولاتة.

وجلست فرح على الأرض ولم تتمكن من التحرك لفترة. وعانقت والدها كثيرا وبدأت في البكاء. وأخبرها والدها أنها يجب أن تكون قوية، نهضت بعدها ومشت حتى وصلت إلى مدرسة تابعة للأمم المتحدة.

شاركها.
Exit mobile version