طهران- قبل عقد من الزمن نزل الإيرانيون إلى الشوارع احتفاء بتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، في مشهد نادر من الفرح وعُلّقت عليه الآمال لحقبة جديدة من الانفراج الاقتصادي ورفع العقوبات وعودة إيران إلى الساحة الدولية.

لكن ذلك المشهد ما لبث أن تلاشى وسط العواصف السياسية، ليحل محله اليوم شعور جماعي بالخذلان والخوف، في ظل حرب غير معلنة واختناق اقتصادي متفاقم وثقة منهارة في جدوى المفاوضات.

لم يعد هناك تفاؤل كبير في الشارع الإيراني تجاه أي حديث عن الاتفاق (الجزيرة)

الحوكمة

في مداخلة للناشط السياسي الإصلاحي سعيد شريعتي قال إن إيران كانت تعاني من تعقيدات اقتصادية كثيرة حتى قبل دخولها في أجواء الحرب، مشيرا إلى وجود اختلالات هيكلية واسعة في مختلف مجالات الاقتصاد والموارد، وهي اختلالات لا تزال البلاد ترزح تحت وطأتها حتى اليوم.

وأوضح شريعتي للجزيرة نت أن التفكير في “تعاقد اجتماعي” جديد -ولا سيما في مواجهة “عدو خارجي مسلح حتى الأسنان”- بات ضرورة قصوى، مشددا على أن التغييرات التي تطالب بها النخب السياسية والاقتصادية وقادة التيار الإصلاحي، إضافة إلى مختلف التيارات السياسية في البلاد تمثل “علاجا عاجلا” باتجاه صياغة نظام حوكمي جديد.

واعتبر أن هذا النظام الجديد من شأنه أن يفتح المجال لإعادة تحديد العلاقة مع الغرب بعد سنوات طويلة من التوتر والقطيعة.

وأشار شريعتي إلى أن أحد العوامل الأساسية وراء الأزمات الاقتصادية في إيران يتمثل في العقوبات والضغوط والعزلة المفروضة على البلاد منذ أكثر من عقدين، معتبرا أن تجاوز هذا الوضع يبدأ من الداخل عبر تغيير في نهج إدارة الدولة، مما يؤدي إلى “نموذج جديد في السياسة الدولية”.

ودعا الحكومة الإيرانية إلى التحرك العاجل بمشاركة الشعب والنخب، مؤكدا أن عنصر “المرونة المجتمعية” هو الركيزة الأساسية للصمود، ومحذرا من أن فقدان هذا العنصر قد يعجل بانفجار الأزمات.

وزير الخارجية الإيراني: لن نقبل بأي اتفاق لا يضمن حقنا بتخصيب اليورانيوم

انعدام الثقة

من جهته، قال رئيس تحرير صحيفة الوفاق مختار حداد إن الشعب الإيراني لم يعلق آمالا كبيرة على الولايات المتحدة، بسبب ما وصفها بالتجربة المريرة معها، والممتدة منذ ما قبل الثورة الإسلامية وحتى اليوم.

وأشار حداد في حديثه ل‍لجزيرة نت إلى أن المفاوضات النووية -رغم ما حملته من آمال جزئية- لم تُقنع الشارع الإيراني بإمكانية التغيير الحقيقي، خاصة بعد انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق، وعجز الأوروبيين عن الوفاء بالتزاماتهم، مؤكدا أن ذلك جعل الثقة بإمكانية التفاهم مع الغرب شبه معدومة.

وبشأن الحرب الأخيرة، أوضح حداد أن الرهان كان على تفكك داخلي واحتجاجات شعبية، لكن ما حدث كان العكس، حيث ظهرت حالة نادرة من الوحدة الوطنية، حتى من قبل أطراف معارضة في الداخل والخارج، معتبرا ذلك ردا عمليا على المخطط الإسرائيلي الأميركي.

وشدد على أن الرؤية المشتركة اليوم في إيران من الإصلاحيين إلى المحافظين تتقاطع في انعدام الثقة بالولايات المتحدة، وضرورة إعادة بناء الداخل دون وهم المفاوضات السريعة.

الإيرانيون علّقوا آمالهم على الاتفاق لحقبة جديدة من الانفراج الاقتصادي ورفع العقوبات (الجزيرة)

شهادات

وتُجمع شهادات مواطنين إيرانيين على أن ما بدأ كأمل في 2015 انتهى إلى خيبة تتفاوت درجاتها، وتنوعت الآراء التي استقتها الجزيرة نت في شوارع طهران بين محبط وناقم ومتشكك وداعٍ إلى المراجعة.

ويقول الطالب الجامعي مهدي كاظمي (24 عاما) “كنت ممن راهنوا على الاتفاق النووي حين كنا نتابع أخباره من مقاعد الدراسة الثانوية، صدّقنا الوعود بأننا سنصبح مثل أي دولة مستقرة، بلا عقوبات ولا عزلة، لكن الواقع جاء مخيبا، اليوم، لا أثق بأي حديث عن تفاوض ما لم يكن هناك إصلاح داخلي جذري”.

أما رضا فرجي (44 عاما) -وهو تاجر قطع غيار في سوق طهران- فيعلق “كنا نظن أن الاتفاق سيرفع العقوبات، لكن الأسعار لم تهبط، بل تضاعفت، الناس فرحوا عند توقيعه، ثم استفقنا على انسحاب أميركا وعودة الحصار، الآن لا أحد يثق في تفاوض جديد، لأن الثقة انكسرت بالكامل”.

وتؤكد الناشطة السياسية الإصلاحية السابقة فرزانة بورحسيني (35 عاما) أنها “شاركت في حملات انتخابية روجت للاتفاق النووي، كنا نظنه بارقة أمل، لكن الثقة العامة بالسياسة تآكلت، اليوم هناك تعب جماعي وشك عميق في جدوى أي مسار تفاوضي ما لم يسبقه إصلاح شامل”.

من جهته، يقول منصور علوي (63 عاما) -وهو موظف متقاعد- “لا أحمّل الغرب وحده المسؤولية، بل أرى أن المشكلة في طريقة إدارتنا الأزمات، رغم كل شيء ما زلت أؤمن بالحوار، لكنني لا أستطيع إغفال الخلل الداخلي المتراكم”.

أما المهندس آرش نادري (29 عاما) فيرى أن الاتفاق “أُفشل بفعل الإرادات الخارجية”، لكنه يضيف أن “الخطر الحقيقي ليس من الخارج فقط، بل من فقدان الأمل في الإصلاح، نحن في مرحلة دقيقة، إما أن نعيد بناء الثقة بين الناس والدولة أو نغرق في عزلة أكبر”.

بين الألم والأمل الضائع

وتُجمع كل الشهادات تقريبا على أن الأثر المعيشي للعقوبات لم يعالج بالاتفاق النووي، وتقول مريم حيدري (41 عاما) -وهي عاملة نظافة- “لا أفهم كثيرا في السياسة، لكن الأسعار ترتفع والدواء يختفي والوظائف نادرة، ما أشعر به هو الخوف، ليس فقط من الحرب، بل من الغلاء والمجهول”.

ويضيف الدكتور كيوان رستمي (58 عاما) -وهو سياسي سابق وأستاذ جامعي- أن “المفاوضات ليست كافية، ولا يمكن أن نراهن عليها دون إصلاح داخلي، الإيرانيون اليوم أمام خيارين: التحدي بشجاعة، أو الانزلاق نحو مزيد من القلق والعزلة”.

وتكشف المداخلات الرسمية والشهادات الميدانية معا عن صورة مركّبة لإيران بعد الاتفاق النووي، فهو مجتمع يشعر بالخذلان، وقيادة تقف أمام مفترق طرق، وشعب يبحث عن توازن بين التحدي والخوف.

فبينما يرى البعض في الحرب الأخيرة عاملا محفزا للوحدة والتماسك يحذر آخرون من أن الصراع الخارجي قد يخفي أزمة داخلية أعمق لن تعالجها مفاوضات شكلية ولا شعارات سياسية.

شاركها.
Exit mobile version