تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة وحركة طالبان تطورات لافتة تعكس تحولات إستراتيجية في السياسة الأميركية تجاه أفغانستان، وذلك منذ بدء الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2025.

تسارعت التطورات في هذا الصدد مؤخرا من زيارة وفد أميركي رفيع المستوى إلى كابل، إلى إطلاق سراح المعتقل الأميركي جورج غولزمان من قبل طالبان، ثم إلغاء المكافآت المالية عن قادة شبكة حقاني.

جاء كل ذلك في خضم تصريحات طالبان برغبتها في “فتح صفحة جديدة” مع أميركا، مما يفتح المجال لتساؤلات حول ديناميكيات السياسة الأميركية تجاه أفغانستان في المرحلة القادمة، وانعكاساتها على العلاقة بين الطرفين.

من المواجهة إلى التفاوض

خلال ولايته الأولى (2017-2021)، تبنى ترامب نهجًا مزدوجا تجاه طالبان، تصعيد عسكري في البداية، تلاه انتقال إلى التفاوض الدبلوماسي.

أعلن ترامب في أغسطس/آب 2017 عن إستراتيجية جديدة لأفغانستان تضمنت زيادة القوات الأميركية والضربات الجوية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى دعم المفاوضات مع طالبان، والتي كلّف بها المبعوث الخاص السفير زلماي خليل زاد وأثمرت عن توقيع اتفاق الدوحة في فبراير/شباط 2020.

نص الاتفاق على انسحاب القوات الأميركية مقابل التزامات من طالبان بمنع استخدام الأراضي الأفغانية ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وفتح حوار داخلي أفغاني، وقد اكتمل الانسحاب الأميركي في أغسطس/آب 2021، مما مهد لعودة طالبان إلى السلطة.

وفي ولايته الثانية، يبدو أن ترامب يسعى لاستثمار هذا الإرث الدبلوماسي، لكن مع تعديلات تتناسب مع الواقع الجديد، وهو تحوّل طالبان إلى حكومة فعلية في أفغانستان، وتحديات داخلية وخارجية تواجهها الحركة.

وتشير التطورات الأخيرة إلى أن الإدارة الأميركية تتبنى نهجًا براغماتيا يركز على المصالح المشتركة بدلاً من المواجهة.

وزير خارجية طالبان أمير خان متقي (يسار) يصافح آدم بولر في كابل (الفرنسية)

إطلاق سراح غولزمان

في 20 مارس/آذار الجاري، قام وفد أميركي رفيع المستوى، يضم زلماي خليل زاد و(المبعوث بشأن الرهائن) آدم بولر، بزيارة كابل وبدأ محادثات مع قادة طالبان، بمن فيهم وزير الخارجية أمير خان متقي.

كانت هذه الزيارة هي الأولى من نوعها منذ الانسحاب الأميركي، وأسفرت عن إطلاق سراح السجين الأميركي جورج غولزمان، الذي احتجزته طالبان منذ ديسمبر/كانون الأول 2022 أثناء زيارته البلاد سائحا. هذا التطور يعكس استعداد الطرفين لتقديم تنازلات متبادلة في إطار بناء ثقة أولية.

وقال وزير خارجية حكومة تصريف الأعمال أمير خان متقي إنهم أطلقوا سراح المواطن الأميركي “لأسباب إنسانية” و”كعلامة على حسن النية”، ووصف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو الاتفاق على إطلاق سراحه بأنه “خطوة إيجابية وبناءة”.

اختيار كابل موقعا للمحادثات، يشير إلى اعتراف ضمني بطالبان سلطة حاكمة، رغم عدم الاعتراف الرسمي بها. كما أن وجود خليل زاد مهندس اتفاق الدوحة يعزز استمرارية النهج التفاوضي الذي بدأ في ولاية ترامب الأولى.

يمكن تفسير إطلاق سراح غولزمان كبادرة من طالبان لإثبات التزامها بالتعاون مع الولايات المتحدة في قضايا محددة، مثل إطلاق سراح المعتقلين، وهي إحدى النقاط التي تضمنها اتفاق الدوحة. من جانبها، قد تكون الإدارة الأميركية قدمت ضمانات غير معلنة، مثل تخفيف العقوبات أو تسهيلات اقتصادية، مقابل ذلك.

ويشير رئيس جهاز استخبارات أفغانستان الأسبق رحمة الله نبيل، في مقال له نشر على موقع قناة “أفغانستان إنتر ناشيونال” باللغة الفارسية، إلى أبعاد أخرى لزيارة الوفد الأميركي إلى كابل، وقال إنها إشارة إلى “العودة التدريجية للدبلوماسية التفاوضية غير الرسمية بين الولايات المتحدة وكابل، تلك الدبلوماسية التي لا تركز على إضفاء الطابع الرسمي، بل على الحفاظ على خطوط الاتصال في السيناريوهات المحتملة”.

وفي هذه الأجواء نفسها، يقول المسؤول الأفغاني السابق “أدت عودة شخصيات مثل سراج الدين حقاني إلى الواجهة، واتهامات باكستان لطالبان والهند، وإمكانية التقارب بين الولايات المتحدة وروسيا، واحتمال تقديم تنازلات لروسيا في أوكرانيا، وزيادة التوتر مع إيران، وزيادة الخطاب العدواني في السياسة الخارجية الأميركية، إلى تأجيج التكهنات حول مشاورات جديدة على المستوى الإقليمي وإمكانية إعادة كتابة الأدوار وراء الكواليس لمستقبل أفغانستان”.

وفي هذا السياق، وعقب انتهاء زيارة الوفد الأميركي، وعلى الرغم من توتر العلاقات بين كابل وإسلام آباد، فإن كابل استضافت الممثل الخاص لباكستان في أفغانستان محمد صادق خان.

وأفادت إذاعة باكستان بأن “زيارة خان، التي أشرف عليها نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية محمد إسحاق دار، تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية والتعاون في مختلف القطاعات”.

مكافآت عن قادة جناح حقاني

أعلنت الولايات المتحدة يوم 22 مارس/آذار 2025 إلغاء مكافآت مالية بقيمة 10 ملايين دولار كانت مخصصة لمن يدلي بمعلومات عن سراج الدين حقاني، زعيم ما يسمى في الإعلام الغربي بشبكة حقاني ووزير الداخلية في حكومة طالبان، إلى جانب شقيقه عبد العزيز وصهره يحيى حقاني. هذا القرار جاء بعد أيام من زيارة الوفد الأميركي، مما يشير إلى أنه قد يكون جزءًا من صفقة أوسع.

جناح حقاني داخل حركة طالبان عبارة عن جبهات ومجموعات عسكرية أسسها الشيخ جلال الدين حقاني، والد سراج الدين حقاني، في الثمانينيات في مواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان، تحولت لاحقًا إلى خصم رئيسي للولايات المتحدة، حيث اتهمت بتنفيذ هجمات دامية على القوات الأميركية والحكومة الأفغانية السابقة.

إلغاء المكافآت، مع بقاء تصنيف الشبكة منظمة إرهابية، يعكس نهجًا براغماتيا يفصل بين الأفراد والتنظيم، ربما لتسهيل التعامل مع قادة مثل سراج الدين حقاني الذي يشغل منصبًا حكوميا بارزًا.

يقول مايكل كوغلمن، المسؤول عن قسم جنوب آسيا في معهد ويلسون، إن قرار الولايات المتحدة بإلغاء المكافآت المعلنة على ثلاثة من كبار قادة شبكة حقاني يعكس تغييرًا ملحوظًا في إستراتيجيتها تجاه طالبان.

وبحسب كوغلمن “يبدو أن الحكومة الأميركية، مع تجاهلها زعيم طالبان في قندهار، تسعى إلى التعاون مع القادة السياسيين لطالبان في كابل”.

وفي الوقت ذاته، وصف كوغلمن أهداف الولايات المتحدة في أفغانستان بأنها محدودة، مشيرًا إلى أن واشنطن تسعى إلى تحقيق ثلاثة مطالب رئيسية، وهي “تحرير المواطنين الأميركيين المحتجزين، واستعادة الأسلحة الأميركية المتبقية، وربما المساعدة في تحديد مواقع إرهابيي (تنظيم الدولة الإسلامية) داعش”.

ويرى بعض المراقبين أن قرار إلغاء المكافآت قد يكون محاولة لتخفيف الضغط على طالبان داخليًا، خاصة مع تصاعد الخلافات بين شبكة حقاني وجناح قندهار، مما يعزز موقف حقاني كشريك محتمل في الحوار مع واشنطن.

Head of the Taliban delegation Abdul Salam Hanafi (R), accompanied by Taliban officials (2R to L) Muttaqi, Shahabuddin Delawar and Abdul Latif Mansour, walks down a hotel lobby during the talks in Qatar's capital Doha on August 12, 2021. Afghan government negotiators in Qatar have offered the Taliban a power-sharing deal in return for an end to fighting in the country, a government negotiating source told AFP. (Photo by KARIM JAAFAR / AFP)
مسؤول أفغاني: وجود الخلافات الداخلية في حركة طالبان ليس مجرد شائعات (الفرنسية)

الخلافات الداخلية في طالبان

تشير تقارير إلى وجود خلافات متزايدة بين شبكة حقاني بقيادة سراج الدين حقاني، وجناح قندهار بقيادة زعيم طالبان المولوي هبة الله آخوند زاده، هذه الخلافات تتمحور حول قضايا مثل تعليم النساء، وتوزيع السلطة، ونهج الحركة تجاه الغرب.

وفي تصريح سابق لموقع الجزيرة نت، قالت شخصية سياسية قريبة من حركة طالبان إن “حصول انشقاق داخل حركة طالبان غير صحيح، ولكن الخلافات الداخلية في الحركة ليس مجرد شائعات، بل هي حقيقة وتمثل تنافسا أعمق بين بعض القيادات حول الرؤية السياسية، وتوزيع السلطة، وطبيعة العلاقة مع القوى الإقليمية والدولية”.

وأكد عضو بارز في حركة طالبان، طلب عدم الكشف عن اسمه، للجزيرة نت أن “قضية تعليم المرأة تشكل نقطة خلاف رئيسية داخل الحركة”.

وأضاف أن “جناح حقاني وعلى رأسه خليفة سراج الدين حقاني يميل إلى تقديم صورة أكثر اعتدالاً لكسب دعم المواطنين والمجتمع الدولي، في حين يتمسك الشيخ هبة الله آخوند زاده بموقف يتسم بالصرامة في العديد من القضايا الداخلية والخارجية”.

وبحسب مراقبين، فإن كون سراج الدين حقاني وزيرا للداخلية يمنحه سيطرة على الأجهزة الأمنية ويعزز نفوذ الشبكة داخل الحركة والحكومة، الأمر الذي يثير استياء جناح قندهار بقيادة زعيم الحركة الذي يرغب في تمركز السلطات بيده.

هذه الانقسامات قد تجعل جناح حقاني أكثر انفتاحًا على التعاون مع الولايات المتحدة، خاصة إذا شعر بأن دعمًا خارجيا قد يعزز موقعه داخليًا. وإلغاء المكافآت عن قادته قد يكون إشارة أميركية لدعم هذا التوجه.

قناة دبلوماسية جديدة

ترددت شائعات عن لقاءات بين سراج الدين حقاني ومسؤولين أميركيين، وجاء في تقرير لقناة “آمو” الأفغانية ومقرها في الولايات المتحدة، أن “مصادر موثوقة من بينها مصدر من طالبان في قندهار قالوا لنا إن سراج الدين حقاني التقى بوفد أميركي أثناء زيارته الأخيرة لدولة الإمارات”.

ويشير الباحث الأفغاني محمد مصعب إلى أن “هذه اللقاءات قد تكون جزءًا من إستراتيجية أميركية للتعامل المباشر مع جناح حقاني داخل حركة طالبان، مستغلة انفتاحه النسبي مقارنة بجناح قندهار، وربما لمناقشة قضايا مثل مكافحة تنظيم الدولة-خراسان الذي يشكل تهديدًا مشتركا”.

وتجدر الإشارة إلى تشغيل ثلاثة مطارات دولية في أفغانستان بعد توقيع الهيئة العامة للطيران المدني الإماراتي في يونيو/حزيران 2022 عقدا مع سلطات طالبان لتوفير خدمات أرضية في مطارات كابل وقندهار وهراة.

فتح صفحة جديدة

أعربت طالبان، عبر متحدثين مثل ذبيح الله مجاهد، عن رغبتها في “فتح صفحة جديدة” مع الولايات المتحدة، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والإنساني بدلاً من المواجهة.

وقال مجاهد في تصريحات جديدة “العداوة ليست دائمة، وعداوتنا مع الولايات المتحدة أيضا ليست دائمة”. وأضاف “كابل تسعى لإنشاء علاقات اقتصادية وسياسية متوازنة مع جميع الدول بما فيها الولايات المتحدة”.

وتؤكد طالبان بصورة مستمرة التزامها باتفاقية الدوحة، بما في ذلك منع استخدام أفغانستان قاعدة للإرهاب. كما تبدي اهتمامًا كبيرا بجذب استثمارات أجنبية خاصة في مجال استخراج المعادن.

تصريحات المتحدث الرسمي باسم طالبان وغيره من المسؤولين في حكومة تصريف الأعمال تعكس حاجة طالبان إلى تخفيف العزلة الدولية وتحسين الوضع الاقتصادي في أفغانستان، التي تعاني من أزمة إنسانية حادة، والتعاون مع أميركا قد يكون مفتاحًا لرفع العقوبات أو إطلاق أموال مجمدة بقيمة 7 مليارات دولار في البنوك الأميركية.

ويوفر تعزيز العلاقات مع أميركا فرص تقوية التعاون الأمني ضد تنظيم الدولة-خراسان، الذي نفذ هجمات على طالبان ومصالح غربية، وفتح قنوات اقتصادية مثل مشاريع إعادة الإعمار بمساهمة أميركية ولو بصورة غير مباشرة عبر دول قريبة من الولايات المتحدة في المنطقة.

محادثات الدوحة بين واشنطن وحركة طالبان (رويترز)

تحديات تعيق التقارب

وفي مقابل هذه الفرص، ثمة تحديات يمكن أن تعرقل تعزيز العلاقات الأميركية مع طالبان مثل الانقسامات الداخلية في طالبان، كما أن التقارب مع طالبان يمكن أن يواجه معارضة داخلية من الكونغرس أو الدوائر العسكرية، أضف إلى ذلك مزاعم استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة منع النساء من الدراسة والعمل.

ويمكن القول إن علاقات إدارة ترامب الثانية مع طالبان تشهد مرحلة جديدة من البراغماتية، مدفوعة بمصالح متبادلة تتجاوز الصراع التاريخي.

التقارب الأميركي مع طالبان في السياق الحالي قد يكون مدفوعًا، جزئيًا على الأقل، بإستراتيجيات جيوسياسية تتعلق بدور الصين وروسيا في أفغانستان وما حولها.

ولا يمكن فصل هذا التقارب عن التنافس الدولي الأوسع في آسيا الوسطى، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على نفوذها، ومواجهة التوسع الإستراتيجي لكل من بكين وموسكو.

وبالمقابل، تسعى طالبان، وجناح حقاني خاصة، إلى الحصول على الشرعية الدولية وتخفيف الضغوط الداخلية، وقد تلعب بعض الدول دورًا محوريا وسيطًا، لكن نجاح هذا التقارب يعتمد على قدرة الطرفين على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية.

وفي النهاية، يبدو أن ترامب يراهن على تحويل أفغانستان من عبء عسكري إلى ملف دبلوماسي يعزز ظهوره كـ”صانع صفقات”.

شاركها.
Exit mobile version