غزة- على فراش أرضي في غرفة تكتظ بالجرحى في مستشفى الشفاء، تستلقي طفلة شقراء لم تتجاوز الـ10 أعوام، يلتبس على الناظر إليها مكان إصابتها، فجسدها يبدو سليما وكاملا، فتحت عينيها الخضراوين، فهرولت أمّها إليها تسألها “هل ترينني يا ديما؟!”.

تجيبها ابنتها “أرى شيئا أحمر، هل ترتدين لونا أحمر يا ماما؟!”، وبكل خيبة ترد الأم التي تتشح بالسواد “نعم يا ماما أرتدي اللون الأحمر” ثم تغطي الأم وجهها بكفيها، وتبتعد عن ابنتها وتنهار باكية.

اقتربت الجزيرة نت من والدة الطفلة ديما سرور، التي اخترقت شظية رأسها واستقرت بمركز الإبصار في دماغها، عقب استهداف مدفعية الاحتلال منزلهم في جباليا، خلال حصارها شمال القطاع.

تروي أم ديما للجزيرة نت تفاصيل الاستهداف: “سمعتُ صوت انفجار، تبعه صراخ ابنتي المضرج رأسها بالدماء وهي تقول: مش شايفة، حملتُها ونزلت بها درج المنزل وفتحت الباب فوجدت زوجي ينزف وحوله عدد من الشهداء على الأرض”.

وبعد مضي أكثر من ساعة على قصف الاحتلال منطقتهم المحاصرة، وصلت عربة يجرها حيوان لنقل الشهداء والمصابين إلى مشفى كمال عدوان، فتبِعتهم أم ديما ركضا مع أطفالها الثلاثة.

عدد المصابين والجرحى وبينهم الأطفال فاقت القدرة الاستيعابية لمستشفى كمال عدوان (الجزيرة)

نظام المفاضلة

بسبب اكتظاظ المصابين، استغرقت أم ديما ساعة بعد وصولها وهي تبحث عن ابنتها في أقسام المستشفى وطوابقه، إلى أن وجدتها متكورة على نفسها في زاوية القسم تنزف وترتجف، فطفلتها لم تتلق أي فحص أو علاج خلال فترة وجودها في المشفى، التي استمرت لأيام، وذلك لأن الأطباء يتبعون نظام “المفاضلة”.

ويقتضي هذا النظام إعطاء الأولويات في التعامل مع المصابين حسب خطورة الحالات وإمكانية علاجها، بسبب قلة الكوادر الطبية، وبعد إلحاح الأم وتوسلّها من الطاقم الطبي، جاء الاعتذار “تحتاج ديما لصورة أشعة مقطعية، وهي غير متوفرة، وتحتاج لجرّاح أعصاب أو عيون، وهو غير متوفر، لن نستطيع فعل شيء لها!”.

نزل هذا الاعتذار كصاعقة على قلب الأم، التي ترى ابنتها البكر تفقد نور عينيها شيئا فشيئا، فديما تحتاج للخروج من غزة لإجراء عمليات جراحية ووقف النزيف الذي سببته الشظية، التي قد يؤدي تحركها إلى دخول الطفلة في تشنجات عصبية، ومع مرور الوقت يتناقص الأمل في تدارك فرصة الإبصار قبل فوات الأوان.

لم يسعف الوقت ديما وعائلتها لإدراك فداحة الأمر، حتى ضُرب الحصار على المستشفى الذي يوجدون فيه، وانهال سيل من القذائف الدخانية والرصاص على مباني المستشفى، تصف أم ديما لحظات الرعب التي عاشتها مع أطفالها “تهشّم الزجاج فوق جسدَي زوجي المصاب وابنتي، الغائبين عن الوعي” قبل مرور الوفد الأجنبي الذي أجلاهم وعددا من المرضى من مشفى كمال عدوان إلى مشفى الشفاء غرب المدينة.

إجلاء المرضى من مستشفى كمال عدوان إلى مستشفى الشفاء

“أسوأ يوم”

استغرق طريق الإجلاء بين المشفيين -الذي لا يستغرق 10 دقائق في العادة- أكثر من 5 ساعات، فقوات الاحتلال أقامت 3 حواجز للتفتيش، وأجبرت سيارات الإسعاف على الانتظار دون أسباب، وعلى تلك الحواجز “لم يتوقف الجنود عن التحدث بعبارات الاستهزاء والإهانة”، حسب ما تقول أم ديما.

وتضيف “طلب مني أحدهم رمي هاتفي على الأرض وتركه، وأجبر فتاة مصابة على خلع حجابها وقام بتصويرها وهي تخلعه، وهو يتبسم ساخرا”.

وبينما كانت الجزيرة نت تجري مقابلة مع أم ديما، وصل زوجها سامح الذي نجا من فكي الموت، بعد أن عاش أهوال حصار مستشفى كمال عدوان كاملة، مع 23 مريضا تم إجلاؤهم من المشفى، عقب اعتقال قوات الاحتلال معظم الكوادر الطبية فيه.

تحدث والد ديما للجزيرة نت عما رأى، وقال “عبر مكبرات الصوت، أمهل الضابط المرضى والكوادر الطبية 10 دقائق للنزول إلى الطابق الأرضي، كنا 150 مريضا بيننا أطفال، و80 من الكوادر الطبية”، وتابع “أخبر مدير المستشفى الدكتور حسام أبو صفية الضابط الإسرائيلي أن هناك مرضى على الأسرّة لا يستطيعون النزوح، فردّ عليه بكل تعنت: اللي بنلاقيه فوق حنقتلو”.

وتحت سيف المهلة، بدأ المرضى بجرّ أجسادهم، وبدأت الكوادر الطبية بإنزال العاجزين على “شيّالات الإسعاف”، وكان سامح قد خرج قبل ساعات من عملية جراحية بُترت فيها قدمه، فحمله الممرضون للأسفل، ومع مرور الوقت التهبت جروحه وتعفّنت وتجمّع عليها الذباب.

يقول سامح إن الضابط أمر طاقم التمريض بالاصطفاف وصار يسألهم: أنتم موظفون في حكومة حماس؟!، ثم انهال عليهم الجنود بالضرب والشتائم”، وبينما كان يئن المرضى عطشا وجوعا ويطلبون الماء من الجنود، كان الضابط يجيبهم “لا علاقة لنا بكم، لن نعطيكم شيئا”.

“كان أسوأ يوم في الحرب، بل في حياتي كلها” يلخص سامح ذلك اليوم الذي قضاه متكئا على الحائط، مادا ساقيه المبتورة والمصابة، ويذكر طلب الجندي منه رفع يديه وتهديده له بقوله “حنضل وراكو (سنظل وراءكم) حتى تموتوا أو تستسلموا”.

“كأن المغول مروا منه” يصف سامح المستشفى بعد انسحاب جيش الاحتلال، حيث أحرقوا الأقسام والمولدات وسيارات الإسعاف، ودمروا محتوياته والأجهزة الطبية فيه، ويقول سامح “عقب الانسحاب قدم العشرات من المتطوعين لتنظيف المستشفى، وجاء من خارجها من يمتلك خبرة في الإسعاف الأولي لعلاج مضاعفات الإصابات، لأن الاحتلال لم يبقِ أيّا من الكوادر الطبية فيه”.

الناجيان الوحيدان محمد وعمر عبد العال مع جدتهما بعد إجلائهم إلى مجمع الشفاء الطبي بسبب حصار مستشفى كمال عدوان (الجزيرة)

ألم الذكريات

تابعت الجزيرة نت جولتها في مستشفى الشفاء بمدينة غزة بين المصابين الذين نجوا من حصار مشفى كمال عدوان شمال القطاع، يضجّ القسم بصوت صراخ الطفل محمد عبد العال (12 عاما) وهو يتألم، كانت جدته الستينية تسنده، وهو الذي قد شهد مصرع عائلته كلها تحت الأنقاض وسمع احتضارهم، قبل أن ينجو مع شقيقه عمر، الذي حرقت نار الصاروخ وجهه.

كان محمد قادما من غرفة “غيار الجروح”، حيث قام فيها الأطباء -وبدون تخدير- بتغيير جرح بطن محمد المفتوق من شظية صاروخ فتكت بجزء كبير من أمعائه وبترت عددا من أصابعه، توجهّت الجزيرة نت إليه، حاولنا التحدث معه لكن لسانه ظل يردد: “أريد أمي، أريد بيتي أعيدوني للشمال”.

 يغطي وجهه لا يريد التحدث متعللا بحاجته للنوم، تفر الدموع من عينيه، يرفض استرجاع أيّ من التفاصيل ويصيح “بديش أتذكر!”، لا أحد حوله سوى جدته المكلومة بفقد عائلة ابنتها، وبالقلق على أبنائها الذين لا يزالون محاصرين في شمال القطاع.

تقول جدته “بقي محمد ينزف لساعات، ومن شدة اكتظاظ القسم لم يتعامل معه أحد، الأمر ضاعف حالة النزيف لديه”، تذكر الجدة تفاصيل الانتظار الطويل على حواجز الاحتلال في طريق إجلائهم لمستشفى الشفاء، تقول “نزلت من الإسعاف رافعة هويتي وطائرة الكواد كابتر فوق رأسي تماما، تقدمت إلى الجندي الذي حدق في وجهي وفي هويتي مرارا قبل أن يأمرني بالانصراف”.

وعلى سرير مقابل الجدة، تستلقي إيمان الفرام مع طفلها عبد الحكيم (4 أعوام) وكلاهما مصاب، دون مرافق لهما سوى ابنها الذي لا يتجاوز عامه العاشر، فزوجها أسير منذ أكثر من عام، وعائلتها لا تزال محاصرة في شمال القطاع.

خلال حصارهم في الشمال، ارتقى ولدها مؤيد الذي كان مصابا برأسه في استهداف منزلهم في مشروع بيت لاهيا، تقول إيمان “لا شعور أصعب من أن تفقد الأم ولدها بين يديها، لأنه محاصر ولا أحد يسعفه”، معتبرة خروجها من مستشفى كمال عدوان كأنه ولادة جديدة، بعد موت محقق نجت منه “نسبيا” وبقية أولادها.

الطفل عبد الحكيم الفرام ووالدته إيمان نجوا من حصار كمال عدوان (الجزيرة)

مشفى منكوب

لم يتبق في مشفى كمال عدوان سوى طبيبي أطفال اثنين فقط، أحدهما الدكتور حسام أبو صفية مدير المشفى، الذي يؤكد قائلا “ليس في المشفى الآن أي طبيب جراح، وكل ما نستطيع تقديمه للمئات من الجرحى المتوافدين على المشفى بإصابات بالغة الصعوبة هو الإسعافات الأولية فقط”، ويضيف “أمس قدمت مؤسسة صحية مساعدات، لكنها لم تكفِنا ليوم واحد”.

وعن القدرة الاستيعابية للمشفى، يجيب أبو صفية بابتسامة يائسة “المشفى منكوب، نحاول إفراغ الأسرّة من مصابين بحالات خطرة وبعضهم أطفال، لإفساح المجال أمام إصابات أحدث لكن بلا جدوى”.

ويؤكد مدير المستشفى أن “حتى نظام المفاضلة بين المرضى لم يعد يجدي نفعا، فكل الإصابات سواء في خطورتها وحاجتها العاجلة للعلاج، وكلها تحتاج إمكانيات وأطباء متخصصين غير متوفرين”، مستطردا في ذكر ما تفتقر إليه مستشفيات غزة من مقومات كالوقود وغيره.

وفي حين يكافح من تبقى من الفرق الطبية في شمال القطاع لإنقاذ ما لا يُمكن إنقاذه، يناشد مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية ضرورة السماح بإدخال وفود طبية وجراحية إلى المستشفى، والحاجة لإدخال سيارات الإسعاف والمستلزمات الطبية قبل فوات الأوان.

ويضيف “طالبنا كل المؤسسات الدولية ولكن لم يتجاوب أحد معنا”، مناشدا من تبقى من صحفيين ووسائل إعلام في شمال قطاع غزة بالضغط من خلال وسائل الإعلام الأجنبية “ليعلم كل العالم فداحة ما يحدث من إبادة جماعية بحق الأطفال والنساء في شمال قطاع غزة”، حسب قوله.

شاركها.
Exit mobile version