لندن- لا يبدو أن حكومة حزب العمال البريطاني أمام مهمة سهلة وهي تحاول إعادة ضبط علاقاتها بالصين في سياق صراع جيوسياسي بالغ الحساسية يطبع العلاقة بين كل من واشنطن حليفتها التقليدية وبكين الشريك التجاري الذي يحاول البريطانيون الاقتراب منه بحذر شديد.

لكن رغم حرص الحكومة البريطانية على النأي بنفسها عن حرب الرسوم الجمركية الدائرة بين الصين والولايات المتحدة، تتأرجح مواقف المسؤولين البريطانيين وتصريحاتهم على وقع مد وجزر لا يهدأ، يتناسب مع حدة التوتر بين واشنطن وبكين.

وسرعان ما تغيرت -قبل أيام- لهجة وزيرة المالية البريطانية راشيل ريفيز التي تعد أحد أبرز المدافعين عن تحسين العلاقات مع الصين في حكومة حزب العمال، لتهاجم من واشنطن الصين خلال قيادتها للمفاوضات التجارية مع نظرائها الأميركيين.

ستارمر: بريطانيا لن تبرم صفقة تجارية مع أمريكا دون مراعاة مصلحتنا الوطنية

كسر الجمود

وقالت ريفيز إنها تتفهم سعي واشنطن لإحقاق مزيد من الإنصاف في ميزان التجارة الدولية وتقدر مخاوفها من الخطر الصيني على تلك التوازنات التجارية، رغم تأكيدها أن “بريطانيا لا ترى أن الرسوم الجمركية الحل الأنسب لذلك”.

وفي غضون أسبوع واحد، سافر إلى بكين كل من وزير التجارة البريطاني وقائد القوات المسلحة البريطانية للقاء نظرائهم الصينيين وبحث أفق التعاون في مجالات متعددة، في وقت حث فيه وزير الخارجية الصيني وانغ يي كلا من بريطانيا والاتحاد الأوروبي على الدفاع عن نظام تجاري دولي متعدد الأطراف وعدم الاصطفاف خلف واشنطن في صراع النفوذ ضد الصين.

وفي ظل حالة عدم اليقين التي يشيعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بين حلفائه الغربيين وفي مقدمتهم بريطانيا، يحاول رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر كسر الجمود في مسار العلاقات مع الصين بزيارة مرتقبة نهاية العام الحالي للقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ.

وترى صحيفة الغارديان أن حكومة حزب العمال البريطاني تحاول أن تحجز لنفسها موقعا في المنتصف تفاديا للاصطدام بأي من الأطراف المتصارعة، إذ تحرص على إعادة ضبط علاقتها بالصين، وتحاول إرضاء الأميركيين لانتزاع اتفاق تجاري وتعيد في الوقت نفسه تأهيل الروابط الاقتصادية والعسكرية التي اضطربت مع الاتحاد الأوروبي بعد توقيع اتفاق بريكست.

ويرى أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية جون مينييش أن الحرب التجارية المشتعلة بين الصين والولايات المتحدة قد تؤدي إلى توثيق العلاقات بين الصين والأوروبيين، ومنهم البريطانيون، سعيا من هذه الأطراف للحفاظ على التوازنات التجارية العالمية ومواجهة تداعيات سياسات ترامب الحمائية.

وحذَّر مينييش -في حديثه للجزيرة نت- من أن السياسات الأميركية الأخيرة التي لا تقيم وزنا للعلاقات التاريخية بين الحلفاء الغربيين قد تشجع البريطانيين على التوجه شرقا نحو الصين، مشيرا إلى صعوبة خروج بريطانيا بسهولة عن مدار علاقتها التقليدية مع أميركا، وسط ضغوط متزايدة من الإدارة الأميركية على حكومة حزب العمال للاصطفاف إلى جانبها ضد الصين.

هاجس أمني

ولكن يبدو أنه يصعب على بريطانيا التخلي عن العقيدة العسكرية والأمنية التي تتقاطع فيها مع الولايات المتحدة وترى الصين تهديدا عسكريا واستخباراتيا محتملا.

وقادت قبل أيام أهم فرقاطة حربية بريطانية “الأمير ويلز” الحشد العسكري لقوة دولية متجهة إلى منطقتي المحيط الهندي والهادي لإجراء تدريبات ومناورات عسكرية، يتوقع أن تعبر مضيق تايوان قريبا من خطوط التماس المتنازع عليها مع الصين.

كما عاد الجدل بشأن وضع الصين على قائمة الدول التي تمارس تأثيرا على السياسات العامة البريطانية وتشكل تهديدا للأمن القومي المرتقب صدورها في يوليو/تموز المقبل، إذ قالت صحيفة الغارديان إن حكومة حزب العمال بعد إدراجها كلا من إيران وروسيا على لوائحها مترددة في وضع الصين على مستوى التهديد نفسه.

وكان قد ارتفع منسوب الخطاب العدائي ضد الصين في أواسط الطبقة السياسية البريطانية على خلفية أزمة مصنع الصلب، بعد أن اضطرت الحكومة إلى التدخل العاجل لتأميم المصنع، ويعد آخر مراكز إنتاج الصلب الخام في بريطانيا، بسبب مشاكل مالية.

ولم يوارِ برلمانيون بريطانيون شكوكهم بشأن دفع الشركة الصينية المالكة للمصنع عمدا إلى إغلاقه بهدف إرباك الأمن القومي، في حين ارتفعت أصوات داخل البرلمان مطالبة بمنع الشركات الصينية من السيطرة في القطاعات الحيوية والبنيات التحتية الإستراتيجية للبلاد ومراجعة طبيعة الاستثمارات الصينية وحجمها في بريطانيا.

وحذّرت وزارة الخارجية الصينية السياسيين البريطانيين من تسييس أزمة مصنع الصلب والتشهير بالشركات الصينية، وما يتبعه من الانعكاسات السلبية لذلك على علاقات التعاون الاقتصادي بين البلدين.

الاقتصاد أهم

وقلل الباحث في العلاقات البريطانية الصينية في المعهد الأوروبي للسياسات الخارجية جيمس كرابتري من شأن التقارب بين حكومة حزب العمال والصين.

وقال للجزيرة نت إن “الملفات الخلافية بين الجانبين متعددة ومزمنة وفي مقدمتها الدعم الصيني للحرب الروسية على أوكرانيا، والخشية من التجسس الصيني على القطاعات الحساسة البريطانية، بالإضافة إلى تهديد الصناعات التكنولوجية الصينية لنظيرتها البريطانية”.

ورغم تأكيد المسؤولين من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لرغبتهم بفصل علاقاتهم التجارية مع الصين عن المفاوضات الجارية بشأن الرسوم الجمركية، وعدم جعلها شرطا لإبرام اتفاق تجاري ينهي الحرب التجارية التي أطلقها ترامب، يرى كرابتري أن أي انفراجة في العلاقات مع واشنطن ستعني بالضرورة اصطفافا ضد الصين.

لكن في المقابل، يشدد جون مينييش، وهو خبير أيضا بالعلاقات البريطانية الصينية، على أن العائد الاقتصادي الذي تجنيه بريطانيا من سياسة التقارب مع الصين يفوق المحاذير الأمنية والاستخباراتية التي يرى أنها لا تتجاوز نطاق الظنون والتخمين ولا تستند إلى أدلة ملموسة.

وأضاف المتحدث أن بريطانيا خلال انفتاحها على الصين قادرة في الوقت نفسه على التحكم في حجم التغلغل الصيني في النظام الاقتصادي ووضع حدود واضحة له.

شاركها.
Exit mobile version