باريس- ينطلق عام 2024 بجدل جديد بشأن سياسة الهجرة في فرنسا بسبب تقرير نشره ديوان المحاسبة تحت عنوان “سياسة مكافحة الهجرة غير النظامية” الخميس الماضي كشف فيه نقص الموارد البشرية وعدم الاستقرار المعياري الذي يعقّد عمل إدارات الهجرة والمحاكم.

وقد أدى تأجيل نشر التقرير -الذي كان مقررا في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي بعد أسبوعين من التصديق على قانون الهجرة- إلى إثارة موجة من التساؤلات والاحتجاجات من قبل الأحزاب السياسية في فرنسا.

ولا تزال البلاد تعيش على وقع انتقادات شديدة اللهجة ضد رئيس السلطة القضائية المستقلة -خاصة من اليمين واليمين المتطرف- لاعتباره يعرقل النقاش الديمقراطي ويأخذ ملف الهجرة نحو بعد سياسي، في انتظار اتخاذ المجلس التنفيذي قراره النهائي بشأن نص القانون.

سياسة مكلفة وفاشلة

بعد الإصدار الأول في أبريل/نيسان 2020 -الذي ركز على إدماج المهاجرين النظاميين وممارسة حق اللجوء- يشير مجلس المحاسبة في تقريره الجديد إلى الوسائل المطبقة والنتائج التي تم التوصل إليها في ما يتعلق بالأهداف التي حددتها الدولة.

ويعتبر المجلس أن سياسة الحكومة الفرنسية الحالية في ما يتعلق بملف الهجرة “ناقصة” و”غير فعالة” رغم تعديل تشريعات الهجرة 133 مرة في غضون 10 سنوات، ويقدر التكلفة السنوية لسياسة مكافحة الهجرة غير النظامية بنحو 1.8 مليار يورو، وهي موارد تعتمد في تمويلها على 90% من ميزانية وزارة الداخلية.

وتناول التقرير المؤلف من 141 صفحة 3 جوانب أساسية لهذه السياسة، وهي مراقبة الحدود، والتنظيم الإداري للأجانب الذين هم في وضع غير قانوني على الأراضي الفرنسية، وتنظيم عودتهم إلى بلدانهم الأصلية.

كما ينتقد برمجيات وزارة الداخلية المفترضة لإدارة الأجانب في فرنسا، واصفا إياها بـ”القديمة”.

وعلى الرغم من استخدام ما لا يقل عن 12 نظاما لمراقبة الأجانب وتسجيلهم فإن المحافظات تفتقر إلى البيانات التي توضح رحلة كل شخص منذ دخوله إلى خروجه من الإقليم.

في المقابل، يدعو المجلس الحكومة إلى زيادة الموارد البشرية لإدارة أفضل لسياسة مكافحة الهجرة من خلال توظيف حوالي 16 ألف موظف مدني وعسكري بدوام كامل، بمن فيهم ضباط شرطة الحدود.

يذكر أن التقرير أُدرج في جدول نشر المحكمة قبل أشهر عدة من عرض مشروع قانون الهجرة على مجلس الوزراء ثم على البرلمان في فبراير/شباط 2023، وتم إعداده قبل إقرار القانون في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

ملف شائك

ولعل مسألة “وجوب مغادرة الأراضي الفرنسية” (أو كيو تي إف) تعتبر النقطة الأكثر قسوة على السلطة التنفيذية التي جعلت منها ورقة أساسية في حججها ونقاشاتها بشأن الهجرة لتثبيط الوافدين الجدد.

ويشير مجلس المحاسبة إلى أن المحافظين أصدروا أكثر من 447 ألف حكم بين عامي 2019 و2022، معلنا أن المحافظات “مثقلة بالأعباء وترتكب أخطاء قانونية وتواجه صعوبات في الالتزام بالمواعيد النهائية القانونية”.

كما يكشف التقرير بالأرقام الفجوة بين صرامة القواعد ووسائل تنفيذها، فعلى سبيل المثال ارتفعت حالات الالتزامات بمغادرة البلاد بنسبة 60% على مدى السنوات الخمس الماضية، لكن عدد موظفي المحافظات المسؤولين عن تطبيق التشريعات بحقوق الأجانب لم يتخط نسبة 9% فقط، مما يدل على النقص الكبير في موظفي الخدمة المدنية.

كما تُظهر المقارنات الدولية التي درسها التقرير استحالة إبعاد أكثر من 100 ألف شخص يخضعون حاليا لأمر الترحيل، خاصة أن فرنسا تعتبر متخلفة بشكل كبير عن جيرانها الأوروبيين مع تسجيل 4979 عملية عودة طوعية في عام 2022 مقارنة بأكثر من 26 ألفا في ألمانيا في العام نفسه.

ووفق المديرية العامة للمفوضية الأوروبية (يوروستات)، تعد فرنسا إحدى الدول الأكثر تنفيذا لإجراءات الإبعاد القسري في الاتحاد الأوروبي، حيث تم تنفيذ أكثر من 11 ألف إجراء في عام 2022 ونحو 19 ألفا سنة 2019.

وأصدرت السلطات الفرنسية أكثر من 153 ألف أمر بالإبعاد في عام 2022، بما في ذلك 134 التزاما بمغادرة الأراضي الفرنسية، فيما يتراوح عدد طلبات اللجوء المرفوضة بعد كل الاستئنافات بين 60 و70 ألفا سنويا منذ عام 2016، وفق المصدر ذاته.

دعوات للاستقالة

وردا على ردود الفعل الساخطة من تأجيل نشر التقرير من قبل رئيس ديوان المحاسبة بيير موسكوفيتشي، أوضح موسكوفيتشي أن السبب يتمثل في تجنب تزامنه “مع سياق نقاش برلماني ساخن”، لكن حججه لم تقنع شريحة واسعة من النواب والسياسيين الذين يطالبونه اليوم بتقديم الاستقالة.

واعتبر لوران فوكييه رئيس المجلس الإقليمي لمنطقة “أوفيرن رون ألب” -في تغريدة على منصة “إكس”- أن قرار موسكوفيتشي “انتهاك خطير لديمقراطيتنا ولأبسط الالتزامات الدستورية الأساسية المفروضة على ديوان المحاسبة”.

كما وجه إليه انتقادات لاذعة لأنه “تعمد تأخير نشر تقرير من مجلس المحاسبة حتى لا يمكن معرفة استنتاجاته خلال المناقشة البرلمانية بشأن قانون الهجرة”، على حد تعبيره.

من جانبها، ترى رشيدة داتي وزيرة العدل في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي ورئيسة بلدية الدائرة السابعة في باريس حاليا أن تأخير التقرير “عمل مناهض للديمقراطية الذي يعكس ازدراء الشعب والمسؤولين المنتخبين”.

بدوره، طالب النائب الفرنسي نيكولا دوبونت إيجنان باستقالة رئيس الديوان، قائلا “لو كان يتحمل المسؤولية حقا لكان استقال، يا للعار”.

ودخل مجلس الشيوخ الفرنسي على الخط أيضا أمس الاثنين، معتبرا أن النتائج والتوصيات التي توصل إليها الديوان تم ذكرها في تقرير سابق لرئيس لجنة القوانين فرانسوا تويل بوفيه قبل 3 سنوات، مشيرا إلى أن اللجنة القانونية في مجلس الشيوخ ستستمع إلى موسكوفيتشي في الأيام المقبلة.

وفي مقابلة على قناة “سي نيوز” وضع العضو في البرلمان الأوروبي فرانسوا غزافيه بيلامي مصداقية رئيس مجلس المحاسبة محل تشكيك، حيث أكد مشاركته هذا الهجوم على مدير المؤسسة العامة “التي تتمثل مهمتها -ضمن معنى الدستور- في تنوير النقاش العام وإبلاغ الفرنسيين بقضايا عمل الدولة”.

وأضاف أن “هذه المؤسسة يمنعها رئيسها الأول من نشر النتائج التي توصلت إليها بشأن موضوع رئيسي، وهي مسألة الهجرة، في وقت يدور فيه نقاش حاسم في البرلمان والمجتمع الفرنسي بأكمله”.

شاركها.
Exit mobile version