نابلس- حتى ساعات مساء أمس الأول، وقبيل لحظات من ثبوت رؤية هلال شهر رمضان، كان صامد الأحمد (اسم مستعار لدواع أمنية) يحاول مرة بعد أخرى الاتصال بذويه في غزة للاطمئنان عليهم وعلى أوضاعهم.

وبعد عديد المحاولات، تمكن من الوصول إلى شقيقه يوسف والتحدث إليه، وليته لم يفعل، فما كان يحذره وقع و”الشعور الصعب” بفقد الاتصال بوصف صامد، غلبه شعور أصعب وأكثرا ألما، وهو العجز أمام احتياج ذويه وبعده عنهم.

وصامد (28 عاما) واحد من آلاف الغزيين الذين قدموا قبل الحرب للعمل داخل إسرائيل، فحالت الحرب دون عودتهم لغزة، وانقطعت بهم السبل في الضفة الغربية، بين بعد عن الأهل وافتقاد للعمل، ويعيشون لأول مرة شهر رمضان بعيدا عن عوائلهم التي لا يقل وضعها سوءا بسبب ما تواجهه في غزة.

مكان سكن عائلة صامد الذي نزحوا إليه في رفح (الجزيرة)

قصف المنزل والحلم

عدنا بصامد لوهلة إلى رمضان العام الماضي، وحدثنا كيف انتقل وعائلته للعيش في منزلهم الجديد الذي اشتروه في حي الشجاعية بشمال قطاع غزة بعد 21 عاما من السكن بالأجرة، وكيف جمَّله بزينة رمضان، واصطحب طفلته لتسوق احتياجات رمضان، فضلا عن “اللمة الغزاوية” التي لا توصف باجتماع العائلة والأقارب.

لم يعد المشهد مؤلما لصامد وحده الذي يغيب قسرا عن تلك الأجواء، بل كل شيء أضحى مأساويا بعد أن قصف الاحتلال المنزل وهجَّر عائلته التي نزحت إلى رفح بـ12 نفرا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ويكتفون بما توفر من طعام وشراب.

وحين قصد صامد العمل داخل الخط الأخضر، أسوة بحوالي 20 ألف غزي أرادوا تحسين وضع عائلاتهم الاقتصادي وانتشالهم من فقر مدقع، لم يكن يعرف أن هذا سيكون حاله. وأن الحرب ربما تكون أهون من تعرضه لعملية نصب، فضلا عن وضع اقتصادي صعب يواجهه هو شخصيا في ظل مسكنه المستأجر بمدينة نابلس وانعدام أمله بأي عمل يعيل به نفسه وعائلته سيما طفليه وزوجته.

ولم يدخر صامد جهدا أو مالا إلا وأنفقه على ذويه، وتكبَّد ارتفاع الأسعار الفاحش، فابتاع لأهله أكثر من 20 كيسا من الطحين (وزن 25 كيلوغرام) بمتوسط حسابي بنحو 90 دولار للكيس الواحد، و4 عبوات من الغاز المنزلي (وزن 12 كيلوغراما للواحدة) بسعر 110 دولارات للعبوة الواحدة، والكثير الكثير من الاحتياجات الأخرى.

الاتصال المرير

وبعد محاولات كثيرة، نجح صامد بالاتصال بأكبر أشقائه يوسف (19 عاما) في رفح، ليضعنا بآخر تفاصيل تحضير عائلته لرمضان، فوجدناه يشتكي غلاء الطعام وعدم توفره. وأن رمضان هذا العام “لا بهجة ولا لون ولا رائحة” يقول يوسف الذي لم يكن يحمل في جيبه سوى 30 شيكلا (8 دولارات) ولا يعرف ماذا سيشتري بها لرمضان، بينما تحتاج عائلته لأكثر من 30 دولارا يوميا لتسد جوعها فقط وبأزهد الطعام.

ومن حوالي 19 ألفا و200 غزي يعملون داخل إسرائيل، يوجد منهم 10 آلاف فقط أثناء الحرب، وشنت إسرائيل حملة اعتقالات واسعة ضدهم طالت أكثر 4600 عامل، وأعادت نصفهم تقريبا إلى غزة، بينما أطلقت الآخرين إلى الضفة، حيث انتشروا بمختلف مراكز الإيواء.

ومثل صامد هاتف محمود جندية (32 عاما) شقيقه الأكبر ليسأله عن حاله واستعداد ذويه لشهر رمضان، فآثر ألا يكون الاتصال بوالدته خشية أن ينكأ جرح الغياب ومأساة البعد عنهم، إضافة لتشردهم إلى 5 أجزاء بين الشجاعية شمال غزة ودير البلح جنوبا.

فعالية تضامن مع غزة في نابلس بالضفة الغربية (الجزيرة)

أسئلة صعبة

أسئلة صعبة وشعور صعب وحزين عاشه محمود مع الساعات الأولى من إعلان شهر رمضان وذهابه لأداء صلاة التراويح، واستذكر حاله مع إخوته وأبناء عمومته في رمضان العام الماضي وجمعتهم معا.

وبمجرد اتصال محمود بزوجته حتى راحت تبكي وبحرقة، ولم يكن هو بحال أحسن، ولهول الموقف لم يسألها ماذا ستعدون للإفطار؟ ولم يرد على سؤالها له ماذا ستفطر أنت؟ خشية أن تشتهي طعامه رغم بساطته، ومع ذلك أخبره شقيقه أن حالهم شمال غزة يرثى له، وأنه بعد جهد عثر على نصف كيلوغرام من العدس بسعر 60 شيكلا (16 دولارا).

وزاد ذلك معاناة محمود وقهره، فهو ليس بعيدا عن ذويه فقط، بل يعجزه القيام بواجبهم، فقد أصبح مسؤولا عن أكثر من 30 شخصا من عائلته، سيما وأنه يعيش ظروفا صعبة مع عشرات آخرين من رفاقه الغزيين بأحد مراكز الإيواء في مدينة جنين شمال الضفة الغربية.

“أنا وحيد وهم مشردون”

وبينما عرف عائلات صامد وجندية بقدوم شهر رمضان، اتصل أطفال العامل إسماعيل أبو محمد به بعد العشاء ليتأكدوا إذا ما ثبتت رؤية الهلال وأنهم سيعيشون أول أيام رمضان بعيدين عنه، سحورهم الزعتر بلا زيت وبعض المعلبات القادمة من المعونات الخارجية إن توفرت.

ويقول إسماعيل إنه لا يفتقد لمة العائلة فحسب واجتماعهم فقط، بل إن الحرب حالت بينه وبين أطفاله الأربعة وزوجته، ويقول “أنا وحدي لا أنيس ولا عمل ولا مال وهم مشردون في رفح”.

ولا يشغل بال الشبان الثلاثة صامد ومحمود وإسماعيل سوى حال عوائلهم، والبعد عنهم، وتناسوا مثل غيرهم من مئات العمال الغزيين بالضفة ضيق حال أنفسهم وملاحقة الاحتلال لهم.

وتجدهم لا يتوقفون عن الاتصال بذويهم ليل نهار للاطمئنان عليهم، لدرجة أن أحدهم لم يعد يحفظ أرقام ذويه فحسب بل حتى الجيران والمحيطين بهم في السكن، وأن أحدهم يحفظ 100 رقم على الأقل ويتصل بـ20 ليصل لعائلته.

شاركها.
Exit mobile version