في 14 يونيو/حزيران 2024، انفجر صاروخ إيراني بمنزل في طمرة، البلدة العربية الواقعة في الجليل الغربي بفلسطين المحتلة، والتي يسكنها نحو 37 ألف نسمة. وعلى خلاف ما هو معمولٌ به في النظام الإسرائيلي، فلم تصل إلى سكان المنزل أي رسائل تحذيرية، ولم تُفعّل صفارات الإنذار مُنذرة باقتراب الصاروخ، وفوق ذلك لم يكن في المنزل العربي غرفة مُحصّنة!
وبينما كانت منار قاسم أبو الهيجاء خطيب (40 عامًا) وابنتاها شذى (20 عامًا) وحلا (13 عامًا)، وقريبتهم منار فخري ذياب خطيب (40 عامًا)، يلفظون أنفاسهم الأخيرة، كان الإسرائيليون الذين يراقبون سقوط الصواريخ على طمرة يحتفلون بالقول: “فلتحترق قريتكم.. فلتحترق قريتكم”.
שישרף לכם הכפר, כך צהלו בני משפחה יהודית כשראו שהטילים האיראנים נופלים על העיר טמרה. בושה וחרפה. pic.twitter.com/grhSStcU5f
— Jafar Farah (@Jafarfarah1) June 14, 2025
نتنياهو والصواريخ التي لا تُفرّق!
لم يكن الفيديو مجرد توثيقٍ لهتاف عنصريّ، بل مرآة واضحة لعمق التمييز والعنصرية التي يواجهها الفلسطينيون في الداخل المحتل عام 1948.
وفوق ذلك، لم تسلم هذه المعاناة الإنسانية من استغلال سياسي، حيث خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واعظاً: “الصواريخ لا تفرّق بين اليهود والعرب”، في محاولة لتحشيد العرب والفلسطينيين ضد إيران وجعلهم إلى جانب المشروع الإسرائيلي.
لا تحتاج إلى زعيم إبادة لكي تُدرك أن الصواريخ لا تميّز، لكن ما يُخفيه تصريح نتنياهو أن إسرائيل ضمن حدود كيانها، هي التي تفرّق بين المستعمرين اليهود والسكان العرب، إذ تحرمهم -ضمن ما تحرمهم- من منظومة الحماية والأمن ذاتها التي تُوفَّر للإسرائيليين اليهود، سواء في مدن وقرى الداخل المحتل أو في مستوطنات الضفة الغربية.
وبطبيعة الحال، لم تكن حادثة طمرة استثناء في هذه الحرب وما سبقها من حروب، بل تتويجًا لسياسات تمييزية ممنهجة تُمارس منذ عقود، تُدرَج بموجبها القرى والمدن العربية ضمن “المناطق المفتوحة”، وهي مناطق مستثناة من أنظمة الحماية حيث لا تُبنى الملاجئ ولا تُغطّى بأنظمة الدفاع ولا تتحقّق فيها استجابات الطوارئ، رغم وقوعها جغرافيًا ضمن حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي.
هذا التفاوت لا يعكس خللاً في السياسة الأمنية الإسرائيلية، بل هو في صلب المشروع الصهيوني القائم على المحو والإفناء. ووفق تقرير ديوان المراقب الإسرائيلي لعام 2018، فإن ما نسبته 46% من السكان العرب يفتقرون إلى وسائل تحصين معيارية، مقارنة بنحو 26% من عموم السكان.
وقد كشفت دراسة استقصائية أجرتها وزارة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 في البلديات العربية، أن 60% ليس لديهم ملاجئ عامة على الإطلاق. وبحسب تقرير أصدرته “عدالة” عام 2021، فإن 70% من القرى والبلدات العربية تفتقر إلى ملاجئ عامة أو غرف آمنة، في حين أن الملاجئ القليلة الموجودة تفتقر إلى الشروط الأساسية، مثل الإنارة والتهوية وخدمات الطوارئ.
في المقابل تُرصد ميزانيات ضخمة بمليارات الشواكل لبناء وتحديث “المناطق المحمية”، التي تشكّل منظومة دفاع مدني شاملة تستهدف تحصين السكان من الهجمات الصاروخية والجوّية.
وفي البلدات الحدودية تحديداً، تتعمق الفجوة أكثر وأكثر، فعلى بُعد يصل إلى 9 كلم من الحدود الشمالية، يتمتع حميع السكان اليهود بتحصين فعال، في مقابل أكثر من نصف السكان العرب -على المسافة نفسها- لا يمتلكون أي وسيلة حماية.
ماذا تعني هذه الإحصائيات على أرض الواقع؟ لنأخذ مثالاً: تخيّل أنك تقف على تلال حيفا، المدينة الساحلية المركزية في شمال فلسطين المحتلة، والتي تحتضن إحدى أكبر قواعد الجيش الإسرائيلي، إلى جانب منظومات دفاع متقدمة، وصفارات إنذار تعمل بثوانٍ. تمتد حيفا جنوبًا إلى ضواحيها، حيث تقع طمرة، التي تفتقر إلى ملجأ عام، كما أن أقل من نصف عدد منازلها فقط يحتوي على غرف آمنة تحمي الأسر خلال التصعيدات العسكرية. انزل شرقًا قليلًا نحو الجليل، وستجد عيلبون، قرية فلسطينية محاطة بمستوطنات صغيرة مثل “لونيت” و”كيبوتس بيت ريمون”، وكلها مجهزة بأنظمة دفاع كاملة، أما عيلبون نفسها، فتُترك بلا أي حماية تذكر، لا ملاجئ، ولا صفارات إنذار.
يقول رئيس بلدية طمرة، موسى أبو رومي: “لم تستثمر الحكومة الإسرائيلية، منذ قيام الدولة، في ملجأ عام واحد للجزء العربي من المجتمع”. وتُعدّ “الغرف الآمنة” المُحصّنة في المنازل الجديدة بديلاً أقل حماية، كما أظهر مصير عائلة الخطيب، وقال أبو رومي إن “40% فقط من سكان طمرة يمتلكونها”.
من قال إن التاريخ لا يعيد نفسه؟
لم يقتصر الأمر على المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة، ففي الشهر الأول من الحرب على غزة، سقطت على فلسطينيي النقب صواريخ أدت إلى مقتل 7 فلسطينيين وتدمير 50 منزلاً، نتيجة غياب الملاجئ وانعدام أنظمة الإنذار المبكر وعدم تغطية القبة الحديدية لهذه القرى مسلوبة الاعتراف، والتي تصل إلى 49 قرية، بعدد سكان يتجاوز 150 ألف نسمة، لا يتمتّعون بأدنى مستوى من الحقوق والبنى التحتية.
تُعرَّف هذه القرى بالنسبة لأنظمة الدفاع الإسرائيلية على أنها “مناطق مفتوحة” لا سكان فيها، فتسمح منظومة القبة الحديدية بسقوط الصواريخ فيها، أو تفجير الصواريخ الاعتراضية فوقها. وكبديل عن الملاجئ المتنقلة، التي ترفض السلطات الإسرائيلية بناءها كما وثّقت منظمة “بتسيلم”، يضطر أهل النقب مثلاً إلى اتخاذ الأنابيب الإسمنتية ملجأ.

لذلك، ترتفع احتمالية مقتل الفلسطيني من النقب نتيجة سقوط صاروخ بأكثر من 2200 مرة من أي شخص آخر في حدود الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1948 وتديرها وتسيطر عليها، وذلك بحسب المديرة العامة لجمعية المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها.
وللأسباب ذاتها، أصابت صواريخ حزب الله بلدة مجد الكروم العربية في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ما أسفر عن مقتل شاب (22 عامًا) وفتاة (25 عامًا)، كما أصيب 27 آخرون.
حتى لو عدنا في التاريخ قليلاً، لوجدنا الأمر نفسه. في حرب لبنان عام 2006، تكرّرت المأساة في الناصرة، فقُتل الطفلان ربيع ومحمود طلوزي إثر سقوط صاروخ أطلقه حزب الله. لم تُطلق صفارات الإنذار في المدينة، على الرغم من أنها أكبر المدن العربية في الداخل، ولم تُفعل صفارات التحذير إلا بعد سقوط الضحايا، في حين بقيت عشرات القرى العربية الأخرى بلا أي تغطية إنذارية طيلة فترة الحرب.
وقد بررت السلطات الإسرائيلية حينها هذا الإهمال بحجج سياسية واهية، فقد زعم مسؤولون في الدفاع المدني أن “تجنب تركيب صفارات إنذار في البلدات العربية يعود إلى حساسية مواطنيها تجاه المناسبات القومية الإسرائيلية”، في إشارة إلى أيام ذكرى “المحرقة” (الهولوكوست) أو قتلى الجيش الإسرائيلي.
كذلك، لم تُوزع الإرشادات الأمنية على العائلات الفلسطينية إلا باللغة العبرية، متجاهلةً شريحةً واسعة من النساء وكبار السن في المجتمع العربي لا تجيدها، رغم كون اللغة العربية لغة رسمية في إسرائيل.
في المحصلة، يتكشّف من كل ما سبق وجود نظام تمييزي عرقي متجذر، يُفرّغ مفهوم الحماية الأمنية من مضمونه المدني، ليحوّله إلى امتياز قومي انتقائي، يُمنح وفق اعتبارات العِرق والانتماء، لا الحاجة أو الخطر. فحين تُصنَّف البلدات والقرى العربية كمناطق “مفتوحة”، فإن ذلك لا يُشير إلى فراغ جغرافي، بل إلى فراغ في الحقوق. دولة تدّعي الديمقراطية، لكنها تُقصي مواطنيها الفلسطينيين من حق أساسي كالأمان، لا تعاني من خلل إداري، بل تمارس تمييزًا منظّمًا يجعل الفلسطيني، رغم حمله للجنسية، خارج معادلة المواطنة الفعلية.
الفلسطيني غير المرئي
منذ عقود، تُصنّف إسرائيل المناطق غير المأهولة، أو ذات الكثافة السكانية المنخفضة، أو القرى التي تفتقر إلى بنى تحتية “رسمية” -لا سيما في النقب والجليل- ضمن “المناطق المفتوحة”. ووفقًا للتعريف الإسرائيلي الرسمي، تُعدّ هذه المناطق خارج نطاق الأولوية الدفاعية، ما يسمح باستخدامها كمواقع محتملة لسقوط الصواريخ الاعتراضية التي تطلقها منظومة القبة الحديدية، وذلك بهدف تقليل احتمال وقوع إصابات بشرية أو أضرار مادية في المناطق المصنفة على أنها “حيوية” في الاعتبارات الأمنية للدولة.
غير أن التطبيق الفعلي على أرض الواقع جاء انتقائيًا وعنصريًا؛ إذ أُدرجت القرى والمدن العربية في الداخل -من طمرة وسخنين وحتى رهط وعرعرة- ضمن هذه الفئة، ما يعني عمليًا حرمانها من وسائل الحماية الأساسية كالملاجئ، وصفارات الإنذار، ومنظومة “القبة الحديدية”.
ومع تصاعد التهديدات خلال الحرب الإسرائيلية الإيرانية في يونيو/حزيران 2025، أعلنت وزارة الجيش الإسرائيلي عن خطة لنشر ملاجئ وقائية في منطقة “غوش دان” ذات الغالبية اليهودية، لكنها استثنت المجتمعات العربية، رغم تعرضها للخطر ذاته. وبحسب المحامية عبير جبران من جمعية حقوق المواطن في إسرائيل (ACRI)، فإن هذا الإهمال نتيجة “سياسات تخطيط تمييزية مزمنة”، مشددة على أن المسؤولية تقع على وزارات الدولة، لا على السلطات المحلية وحدها. ووصفت استمرار تجاهل المجتمعات العربية بأنه “انتهاك دستوري وغير أخلاقي لحق المواطنين العرب في الحياة والأمان”.
فالتمييز في الحماية، وفقًا للمعماري والباحث الإسرائيلي إيال وايزمان، هو شكل من أشكال الهيمنة والسيطرة على الفلسطينيين. ففي كتابه “
” (Hollow Land)، يصف وايزمان ما يحدث بأنه “فوضى منظمة” تُستخدم فيها الجغرافيا كأداة قمع، ويقول: “إن غياب التدخل الحكومي -المتعمد في كثير من الأحيان- يروّج لعملية نزع ملكية عنيفة وغير منظّمة. بكلمات أخرى، ليس العرب “خارج الحماية” لأنهم نُسوا، بل لأن هذا التغييب جزء من سياسة تهدف إلى إنتاج شعور دائم بالخطر وانعدام الأمان. حين يُدرك العربي -سواء في الداخل أو الضفة- أنه خارج معادلة الأمن القومي، يصبح التهديد جزءًا من يومياته.. إنها حرب أخرى، تُشن عليه دون إعلان”.
في البدء كان الحكم العسكري
لفهم الصورة بشكل أعمق وأوسع، لا بد من العودة إلى البنية السياسية والأيديولوجية التي صاغت العلاقة بين إسرائيل كدولة والعرب الفلسطينيين كمجتمع يعامل داخل هذه الدولة على أنه درجة ثانية.
فمنذ تأسيسها، تعاملت إسرائيل مع المواطنين الفلسطينيين في الداخل كجماعة غريبة بقيت في الجغرافيا الجديدة “عن طريق الخطأ”، وأُخضِعت لنظام إداري وأمني صاغ هويتها بشكل منفصل عن امتدادها الفلسطيني التاريخي والوطني.
لم يكن الهدف دمجهم، بل تفكيك علاقتهم بالمجتمع الفلسطيني الأوسع، وإعادة إنتاجهم داخل منظومة تخدم التصور الصهيوني للدولة، وتُفرض فيها “الأسرلة” بوصفها هوية ثقافية، منزوعة الدسم السياسي.
وبالتالي، مارست إسرائيل سلسلة من السياسات والآليات المنظّمة لتهميش الفلسطينيين في الداخل، كان أبرزها فرض نظام الحكم العسكري بين عامي 1948 و1966، والذي كان يهدف إلى الهيمنة والسيطرة على تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، في العمل والتعليم والصحة والتنظيم السياسي وغيرها، تحت ذرائع أمنية، إذ مُنحت الأجهزة الأمنية -وعلى رأسها جهاز “الشاباك”- سلطة الوصاية على حياة الفلسطيني اليومية، حتى في تفاصيلها الدقيقة.
وقد حوّل هذا النظام حياة الفلسطينيين إلى ما يشبه “حالة استثناء دائمة”، بحسب تعبير الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين: “إن حالة الاستثناء ليست الفوضى التي تسبق النظام، بل الوضع الذي ينشأ عن تعليقه”.
بهذا المعنى، لم يكن الفلسطيني خارج إطار القانون، بل محكومًا بمنطق قانوني لا يحميه وإنما يستثنيه. يعيش تحت سيطرة أمنية لا تعترف به كمواطن، بل كخطر محتمل.
كانت إسرائيل تستخدم مزيجًا من تشريعات الانتداب البريطاني والتشريعات الصهيونية، ولم يكن “الأمن” سوى الذريعة الظاهرة لفرض سيطرتها. فعبر قوانين مثل “أنظمة الطوارئ” وقانون “المناطق الأمنية”، جرى تسويغ مصادرة الأراضي الفلسطينية بحجج واهية، من بينها أن الأراضي “مهملة” إذا تعذر على أصحابها الوصول إليها بفعل قيود الحركة، ما يتيح لإسرائيل الاستيلاء عليها. هكذا، تحوّلت الأداة القانونية إلى وسيلة “ناعمة” للإزاحة والتجريد من الملكية.
امتد التهميش إلى المجال العام، فقد فُرضت سياسات تخطيط عمراني حالت دون تطوير البلدات العربية، التي لم يُسمح لها أصلاً بالتوسع الطبيعي، ولم تُبْنَ أي بلدة عربية جديدة لعقود طويلة. هذا الوضع خلق أزمة إسكان خانقة، وكرّس التمييز في البنى التحتية والخدمات.
أما في الحقل التعليمي، فقد غُيّبت النكبة من المناهج بشكل مقصود، إذ ركزت على تدريس تاريخ الشعب اليهودي القديم والحديث عنه بصورة موسعة، بما يشمل تاريخ الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين، في حين أُفرغت موضوعات التاريخ والأدب العربي من كل العناصر والرموز التي تعطي الطالب العربي شعور الاعتزاز بتراثه وتاريخه.
ولا تنكر وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية أن السبب في ذلك هو خشيتها من أن تثير هذه الموضوعات والعناصر والرموز الشعور القومي لدى المواطنين العرب. كما خضع الإعلام العربي في الداخل إلى رقابة صارمة حتى أواخر الثمانينيات، ولم يُسمح بقيام منصات مستقلة تُعبّر عن صوت فلسطيني مغاير.
مواطنة للإقصاء!
في السياق ذاته، استُخدمت موارد الفلسطينيين في الداخل، بشكل مباشر أو غير مباشر، في خدمة المشروع الصهيوني. فالأراضي المصادرة أقيمت عليها مستوطنات ومدن “تطوير” لليهود فقط. والعمالة الفلسطينية أُدمجت في الاقتصاد الإسرائيلي في أعمال هامشية ومنخفضة الأجر، دون أي تمثيل سياسي أو اعتراف جماعي بحقوقهم. وحتى وجودهم الديموغرافي، كان يُستثمر خارجيًا لإبراز وجه “الدولة الديمقراطي”، في الوقت الذي كانت تُمارَس فيه ضدهم سياسات تمييز ممنهج.
“الاستعمار الاستيطاني ليس حدثًا يقع مرة واحدة، بل بنية دائمة تُنتج نفسها باستمرار”.
– باتريك وولف المؤرخ البريطاني
لا تعبّر هذه السياسات عن انحراف عابر في الديمقراطية، بل عن عنصرية بنيوية مؤسسية تستند إلى رؤية استعمارية استيطانية مستمرة، هذه البنية تُسخّر مؤسسات الدولة كافة -من القانون إلى الأمن، ومن التخطيط إلى التعليم- لإعادة إنتاج علاقات السيطرة، وتعميق التراتبية العرقية بين اليهود والفلسطينيين.
في هذا الإطار، لا تُمارَس المواطنة على الفلسطينيين باعتبارها حقاً متساوياً، بل تُحوَّل إلى أداة للهيمنة. توضح لانا طاطور في تحليلها أن المواطنة في إسرائيل ليست وضعاً قانونياً محايداً، بل هي شكل من أشكال الإخضاع السياسي، تعمل على ترسيخ السيطرة من خلال منح الفلسطينيين وضعاً قانونياً هشّاً. فهي مواطنة مشروطة، لا تُمنح للاعتراف بالحقوق، بل لتثبيت الإقصاء: فهي تحرم الفلسطينيين من حق العودة، وتُصوّر المستوطنين اليهود على أنهم السكان الأصليون، بينما يُعاد تشكيل الفلسطيني كغريب مقيم بفضل “منّة” قانونية.
يَظهر التناقض البنيوي في السياسات الإسرائيلية بوضوح عند تعاطيها مع أمن المواطنين الفلسطينيين في الداخل. فبينما بُررت أنظمة الحكم العسكري سابقًا بالحفاظ على “الأمن”، تتخلى إسرائيل اليوم عن هذا الادعاء لمّا تترك الفلسطيني في مواجهة الخطر لوحده، كما في المواجهة الأخيرة مع إيران.
لقد شرعت إسرائيل في بناء واحدة من أضخم شبكات الملاجئ المدنية في العالم، مدفوعة بشعور عميق ودائم بالتهديد الخارجي، ناتج عن نشأتها وسط إقليم عربي معادٍ في معظمه. فمنذ قيامها، تخوض إسرائيل حروباً ومواجهات وانتفاضات: حرب 1948، العدوان الثلاثي عام 1956، حرب يونيو 1967، حرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر 1973. كما شهدت مواجهات كبرى لاحقة مثل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وحرب 2006، والانتفاضتين الأولى والثانية، والحروب والجولات المتكررة على قطاع غزة، وقصفها لسوريا واليمن والعراق، وأخيراً الحرب مع إيران.
هذا الإحساس المستمر بتهديد الكيان من الخارج، أدى إلى بناء عقيدة أمنية ترتكز على حماية الجبهة الداخلية الإسرائيلية كأولوية قومية. ولذلك، وبشكل مبكّر، أقرّت إسرائيل قانون الدفاع المدني عام 1951، الذي ألزم ببناء ملاجئ في كافة المباني العامة والسكنية في الأراضي المحتلة عام 1948. أما فلسطينيو الداخل، فقد استثنوا من مثل هذه القوانين، إذ اعتُبروا مواطنين من الدرجة الثانية، وهو ما يعني “حقوقا” أقل، وقبضة أمنية أعلى.
فالقرى والبلدات العربية، رغم كثافتها السكانية، ما زالت تُصنّف كمناطق “مفتوحة”، وتُستثنى من التحصينات وصفارات الإنذار، على خلاف المستوطنات اليهودية التي تُزوّد ببنية حماية متكاملة. هذه المفارقة لا تُفهم بمعزل عن السياق الاستعماري الذي يصوغ مفهوم “الأمن” نفسه؛ ليس كحق مدني، بل كأداة تصنيف تُحدّد من هو المواطن الجدير بالحماية، ومن هو الاستثناء الأمني الذي يمكن إقصاؤه أو تجاهله دون كلفة سياسية.
الجغرافيا المنحازة
تتعمّد إسرائيل، بحسب محللين، توجيه الاعتراضات إلى خارج مراكزها الحضرية، نحو “المناطق المفتوحة” في الضفة الغربية أو داخل القرى العربية في الداخل. الهدف هنا مزدوج: حماية ما تُسميه “نواة الدولة” (من القدس إلى حيفا)، وترك الأطراف التي غالبًا ما تكون فلسطينية في مواجهة مصيرها.
والأسباب في ذلك واضحة: تقليل التكاليف الدفاعية، والاقتصاد في أعداد الصواريخ القليلة نسبياً، والتمركز حول الهوية اليهودية التي تهجس بالتهديد الوجودي، ولكن قبل كل شيء، لأن “الفلسطينيين ليسوا بشراً”، كما صرّح غير مسؤول إسرائيلي، وكما تُدلّل على ذلك حرب الإبادة المستمرة على غزة.
هكذا يُستخدم تصنيف “المنطقة المفتوحة” كأداة لتبرير غياب الحماية، وليس كإجراء عسكري محايد، وهو ما يُحوّل الجغرافيا إلى وسيلة أمنية عنصرية تُرسّخ التمييز الهيكلي، وتجعل من موت الفلسطيني ضرورة في ترسيخ معادلة “الأمن الإسرائيلي”.
الاحتفال بوصفه ملجأ
ولكن، وبينما يهرع سكان المستوطنة في تل أبيب إلى الملاجئ فور تفعيل صفارات الإنذار، يخرج الفلسطيني إلى الشوارع وعلى أسطح المنازل، ليس فقط لتتبع مسارات الصواريخ، بل -بشكل ساخر- للاحتفال بها أحيانًا، ومتابعة مكان سقوطها أحيانًا أخرى، حيث انتشرت مقاطع مصورة على منصات التواصل الاجتماع لأشخاص في قرى ومدن الضفة الغربية وهم يلتقطون صورًا مع الشظايا الاعتراضية، أو حتى يحملونها في زفات استعراضية، وسط ضحكات احتفالية ونكات ساخرة.
وعلى الرغم من تحذير الدفاع المدني الفلسطيني مرارًا من الاقتراب من الصواريخ أو لمس الشظايا، فإن ممارسات التجمهر وتصويرها ظلت تتكرّر، مما يعكس فقدان الثقة في وجود استجابة رسمية أو حماية فعلية. ومما يزيد من حدة هذا الشعور، الفراغُ السياسي المؤلم؛ فبينما تسقط الشظايا في قلب رام الله وبيت لحم والخليل، تلتزم السلطة الفلسطينية صمتًا مطبقًا، فلا بيانات رسمية، ولا تصريحات من وزراء أو مسؤولين، ولا حتى خطة طوارئ واضحة، كأن ما يحدث خارج مسؤوليتها أو خارج إدراكها، رغم أن الخطر يُحدق بمئات الآلاف من السكان الخاضعين لسلطتها.
هذا المشهد، رغم ما فيه من مفارقة ساخرة، يعكس شكلًا من أشكال المقاومة النفسية للفلسطيني والتكيف الجماعي مع الخوف والتهميش. ففي مجتمع يُدرك بأنه خارج “معادلة الحماية” تمامًا، تتحول السخرية والفرجة الجماعية إلى أداة لترويض الرعب، وكسر رمزية “الرعب الصامت” الذي تريده إسرائيل. وكما قال صاحب كتاب “معذبو الأرض” فرانز فانون: “إن السخرية تصبح في أيدي المضطَهدين أداة لتفكيك السلطة الظالمة، وهي ليست مجرد تهكّم، بل هي تعبير عن الوعي بالقهر ومحاولة لاستعادة شيء من الكرامة في مواجهة العنف والإقصاء”.