لا تعرف البشرية – في عالم الكتابة – رسولًا ولا شخصًا نال قسطًا وافرًا من الكتابة، كما نال النبي- محمد صلى الله عليه وسلم – فقد كان الاهتمام بتدوين سيرته وسُنته، منذ صحابته الكرام- رضي الله عنهم- والأجيال التي تلتهم، وتنوعت خدمة سيرته حسب اهتمام كل عالم أو كاتب تناولَها.

ولا يخلو عصر من كتابات تتناول سيرته – صلى الله عليه وسلم – سواء مجملة بتفاصيلها، والتحقيق والسبر لها، أو من خلال مواقف معينة فيها، صدر ذلك عن محبين له – صلى الله عليه وسلم – ومبغضين شانئين كذلك، فقد كانت سيرته موضع اهتمام الجميعِ: المحبين، والكارهين، والمنصفين المحايدين.

خطّان في دراسة السيرة النبوية

وما اشتهر من التناول لسيرته، جرى في خطَّين رئيسين: الخط الأول: خط يعنى بالسرد التاريخي، حيث يتناول السيرة منذ ميلاده – صلى الله عليه وسلم – أو ما قبل ميلاده، ودراسة الأجواء السابقة له، وما صحب هذا الميلاد، وحتى الوفاة، وما تبعها من أحداث.

وهذا الخط بداخله خطوط علمية أيضًا، بين من يجمع كل ما يرد، وإن لم يدقق في الأسانيد، أو من يجمع ويمحّص الإسناد، ويثبت ما صحّ، وينبه لما لم يصح أو ضعف، وهناك خط آخر داخله، وهو تناول هذه السيرة، ثم الخروج منها بدروس وعظات وعِبر، سواء كانت التركيز على دروس عامة، أو خاصة منها.

أما الخط الثاني لدراسة السيرة النبوية، فقد بدأ منذ القدم كذلك، وهو خط يعنى بدراسة جانب معين في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم- يركز عليه، وقد بدأ في التراث بكتب شمائل النبي – صلى الله عليه وسلم – أو خصائصه، ككتب القاضي عياض، والمقريزي، وغيرهما.

وفي العصر الحديث ازدهر هذا الجانب في دراسة سيرته، فخصصت كتب لموضوعات محددة في السيرة، كما رأينا “عبقرية محمد” للعقاد، و”إنسانيات محمد” لخالد محمد خالد، و”نبي البِر” للإبياري، و”نبي الإنسانية” لأحمد حسين، و”محمد رحمة الله للعالمين” ليوسف القرضاوي، و”محمد في حياته الخاصة” لنظمي لوقا، و”الرسول القائد” لمحمود شيت خطاب، و”رحمة للعالمين” للمنصوري الهندي، وكذلك وجدنا عند الغربيين عدة كتابات، ما بين المنصف والمتحامل.

خط ثالث جديد لدراسة السيرة

بقي خط لم يطرق كثيرًا في تناول السيرة النبوية، بل أزعم أنه لم يتم تناوله إلا قليلًا لدى بعض الكتّاب، وهو تناول لا يتعلّق بالسيرة ذاتها فقط، بل يتعلق بها من حيث من تناولوها ككتّاب ومؤلفين في سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم.

وهي ما يمكن أن نطلق عليها: السيرة النبوية المقارنة، أي: يتم المقارنة بين تناول كل مؤلف لحدث معين في السيرة، حيث إن كل مؤلف يتناولها من حيث ثقافته، ولغته الأدبية، واستعداده النفسي والعقلي للسيرة، فيخرج بإبداعات وإشراقات عظيمة، تغيب هذه النظرات والتأملات، عندما تقرأ منفردة في ثنايا سطور كتاب كبير عن سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان الفقهاء لديهم فقه مقارن، يتم فيه مقارنة الأقوال والاستنباطات الفقهية، والدوافع والأسباب، والفلسفة الفقهية وراء هذا القول، وما يبنى عليه، وكذلك في علم التفسير هناك مقارنات بين أقوال المفسرين في تأملاتهم وإبداعاتهم للقرآن الكريم، في نصّ واحد ثابت، وهو القرآن الكريم، فإن مثل هذه الدراسات أيضًا إذا تمت على مستوى كتّاب السيرة النبوية، فسنخرج بلون جديد يخدم سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم.

 الكتّاب والشعراء يركّزون على الأحداث الكبرى في السيرة، كالمولد، والبعثة، والهجرة، والغزوات الكبرى، بينما يغفل الكثيرون عن تفاصيل يسيرة في السيرة، لكنها تحمل دلالات ومعاني في غاية الأهمية والجدوى العلمية والإيمانية

نموذج البيومي

لا أعلم أحدًا قام بهذا الجهد، سوى الدكتور محمد رجب البيومي – رحمه الله – في مقال وحيد له، ولم يكتبه من باب الدعوة لهذا اللون، بل كمقال لفت فيه النظر لزاوية مهمة في كتابة السيرة، فقد كتب مقالًا بعنوان: من روائع السيرة النبوية: الرسول يبكي ولده إبراهيم، ووضعه في كتابه: (في ميزان الإسلام)، فهو يتحدث عن وفاة إبراهيم ابن النبي- صلى الله عليه وسلم- وقد أنجبه من مارية القبطية، وتوفي صغيرًا.

فرصد البيومي هذا الموقف في كتابات بعض الأدباء والمفكرين ممن عنوا بكتابة السيرة النبوية من المعاصرين، فاختار أربعة من كبارهم، وهم: عباس العقاد، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، ومحمد حسين هيكل.

ورغم أن الحادث لا يستغرق في كتب السير أكثر من نصف صفحة، وعلى الأكثر صفحة، إلا أن قريحة هؤلاء الأدباء جادت بكتابات في غاية النفاسة، تنوعت في التناول بناء على تنوع الكاتب، فالعقاد يميل في أسلوبه إلى خطاب العقل أولًا، ثم الوجدان، وطه حسين يميل إلى خطاب الوجدان أولًا، ثم العقل، أما الزيات فقد استلهم من الحدث عظة وعِبرة له، لفقده أحد أبنائه، فاستلهم من موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يعينه، وما يعين كل فاقد لأحد من أبنائه، أما هيكل فقد كان يميل في أسلوبه إلى السرد والتحليل في لغة أدبية دافقة.

دليل صدق ونبوة

ولو أن البيومي – رحمه الله – وسّع دائرة النظر والمقارنة بين أدباء عصره، في تناولهم هذا الحدث كنموذج، لوجد عند كاتب مصري قبطي هو الدكتور نظمي لوقا، تناولًا مختلفًا عن الأربعة الذين استشهد بهم، يضاف إلى ما طرحوه بلا شك، ولكنها نظرة رجل غير مسلم لمحمد – صلى الله عليه وسلم – فقد استلهم لوقا من حادث وفاة ابن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد حدثت حادثة كونية في ذلك، حين كسفت الشمس، فقال أناس: كسفت لوفاة إبراهيم، فقال – صلى الله عليم وسلم – : “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، ولا يخسفان أو يكسفان لموت أحد”، التقط لوقا هذه الجملة، ليقول: إن هذه العبارة هي دليل صدق نبوة محمد، فلو كان مدعيًا للنبوة، لاغتنم فرصة تقديس أسرته وأبنائه، وصمت عن هذا الكلام، وهو سلوك الأدعياء، لكنه نبي، فرفض ذلك، وصوب، ورد الأمر كله لله – سبحانه وتعالى -في إطار ظاهرته الكونية.

نماذج أخرى مؤيدة للطرح

وإذا تركنا النموذج الذي ساقه البيومي، وذهبنا لنماذج أخرى، فسنجد نماذج فوق الحصر، تبين أن كل فقيه أو أديب نظر للحدث النبوي من زاوية غير ما نظر إليها الآخر، والمقارنة والجمع بين هذه النظرات يعطي صورة واضحة كاملة عن النبوة.

ومن ذلك ما رأيناه من تأمل فقيه أديب، ومفكر أديب، الأول: يوسف القرضاوي، والثاني: خالد محمد خالد، عندما نظر كل منهما لحديث قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ونصه: “من ‌قتل ‌وزغًا في أول ضربة، كتبت له مئة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك”، فلماذا كانت الضربة الأولى بمئة حسنة، وما دونها، دونها، يعلل ذلك القرضاوي بنظرة الفقيه فيقول: إن الحسنات في درجاتها من المئة لما دونها، هي مكافأة على حسن التصويب؛ لأنه مطلوب للمسلم، حتى إذا ما واجه أعداءه كانت لديه المهارة.

بينما خالد محمد خالد يقول: إن المكافأة بالحسنات هنا، هي دعوة للرحمة، فإن كان لا بد من قتل الوزغ، فخلّصه من الحياة سريعًا، فإن تعدد الضربات يشعره بالألم.

وإذا نظرنا – مثلًا – لخطبة الوداع التي ألقاها النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع، ورحنا ننظر لما قاله كتّاب السيرة النبوية، فسنجد كل واحد منهم، قد عنون لها بعنوان مختلف، بحسب ما رآه قضية مركزية فيها، أو موضوعًا جوهريًا يتعلق بها، وفي تناول كل منهم لنصوصها، وما حوته من تعاليم.

فإذا ذهبنا للغزالي في (فقه السيرة) أو البوطي في (فقه السيرة)، أو الكتب التي تناولت حقوق الإنسان في الإسلام، واتخذت من خطبة الوداع متّكَأ ومنطلقًا، فسنقف على تأملات وإبداعات عند وضعها جنبًا إلى جنب، ستكون أشبه بحبات عقد من اللؤلؤ، كانت متناثرة، رغم أهميتها في سياقها العلمي، لكن جمعها في كل حدث منفرد، يجمع إبداعات وتجليات هذه العقول والأقلام في الموضوع أو الموضع الواحد.

هذا اللون الجديد في تناول السيرة النبوية، بما أسميناه: السيرة النبوية المقارنة، إن جازت وصحّت التسمية، يخدم السيرة في التقاط الدرر التي في بطون الكتب، وبخاصة في الأحداث الفرعية أو غير المشهورة في السيرة.

فالكتّاب والشعراء يركّزون على الأحداث الكبرى في السيرة، كالمولد، والبعثة، والهجرة، والغزوات الكبرى، بينما يغفل الكثيرون عن تفاصيل يسيرة في السيرة، لكنها تحمل دلالات ومعاني في غاية الأهمية والجدوى العلمية والإيمانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version