منذ بداية معركة طوفان الأقصى اتجهت الأعين إلى الجبهات التي يمكن أن تؤثر في مسارها، والتي ناشدها القائد العام لكتائب القسام -الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- محمد الضيف للإسهام في المعركة خلال كلمته صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ولعل مناشدة كتلك تشير إلى تعويل القسام على تدخّل فاعل من هذه الجبهات، بما يفرض على الاحتلال تراجعا سياسيا وميدانيا ويغيّر في ميزان القوى الذي كان يدفع حينها باتجاه تصفية القضية الفلسطينية.

وتعويل كهذا قد يكون مرتبطا بتجربة التفاعل والمساهمة الواسعة النطاق في انتفاضة ومعركة سيف القدس عام 2021، في الضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948 وعبر حدود لبنان والحدود الأردنية التي عبرها المتظاهرون منذ الأيام الاولى للحرب.

إلا أنه رغم مرور ما يزيد عن 100 يوم من الحرب فلم ترتق مشاركة هذه الجبهات إلى مستوى إثارة مخاوف كافية لردع الاحتلال عن مستوى جرائمه غير المسبوق ضد سكان القطاع، مما يدعو إلى استقراء خلفيات هذا المستوى من التفاعل، وأسبابه، وآفاق تطوره في المستقبل القريب.

أهمية الموقف الأردني

تنبع أهمية الموقف الأردني بفعل أبعاد سياسية وجغرافية وديمغرافية، إذ لديه أطول حدود مع فلسطين المحتلة، كما يرتبط الأردنيون بروابط وثيقة بفلسطين، بحكم التاريخ والجوار وتداخل العائلات، ولكون ملايين منهم لاجئين من فلسطين بفعل عدوان الاحتلال الإسرائيلي عامي 1948 و1967.

كما أن احتلال الضفة الغربية عام 1967، حصل في ظل اندماجها دستوريا مع الأردن، وهو ما رتّب مسؤولية تاريخية لاستعادتها يستشعرها الأردنيون عموما، ويعبّر عنها ملوك الأردن المتعاقبون، وخصوصا فيما يتعلق بوجود دور خاص لهم في الوصاية على المسجد الأقصى، والذي يعد أحد روافع الشرعية السياسية لهم.

وفي المقابل، يرتبط الأردن بمعاهدة سلام مع الاحتلال، وباتفاقات اقتصادية إستراتيجية، كاتفاقية استيراد الغاز، واتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة التي تضم مصانع مملوكة لإسرائيليين في الأردن، واتفاقية مبدئية لتبادل المياه من الاحتلال بالكهرباء من الأردن.

وفي اعتبار لا يقل تأثيرا على سير الأحداث، يراهن الحكم في الأردن منذ نشأته، وفق مراقبين، على العلاقة الوثيقة مع الدولة المهيمنة غربيا، بدءا من التحالف مع بريطانيا ثم الولايات المتحدة، ويندر أن يخرج السلوك الرسمي عن مقتضيات هذا التحالف، إذ يتمحور الأردن سياسيا ضمن “محور الاعتدال” العربي رفقة الأقرب إلى الولايات المتحدة في الإقليم كمصر والسعودية والإمارات.

ويرتبط باتفاقية التعاون الدّفاعي مع واشنطن، التي بدء العمل بها في مارس/آذار 2021، التي تتيح للجيش الأميركي وحلفائه استخدام الأراضي الأردنية بحريّة واسعة، ويتلقى دعما عسكريا واقتصاديا وسياسيا من الإدارات الأميركية المتعاقبة مقابل هذا التحالف. والحال شبيهة بعلاقاته مع الدول الأوروبية المؤثرة والكبيرة كبريطانيا وألمانيا وفرنسا.

تناقض مواقف

وبفعل هذه الاعتبارات المتعارضة يشكل تصاعد الصراع بين الاحتلال وأي طرف في الإقليم تحديا للحكم في الأردن، بفعل تناقض موقف الشعب من جهة، وموقف الحليف الخارجي الأهم وهو الولايات المتحدة، مما يدفعه إلى العمل على تهدئة وتيرة الصراعات ما وجد إلى ذلك سبيلا، وإلى امتصاص غضب الشارع بخطوات سياسية وإعلامية لا تخرج عن اعتبارات التحالف مع الولايات المتحدة وحدود المقبول لديها في تعامله مع دولة الاحتلال.

إلا أن تزايد التطرف في حكومات الاحتلال خلال السنوات الأخيرة ومساعيها لتصفية القضية الفلسطينية بمختلف ملفاتها، مثل القدس واللاجئين والاستيطان، زاد من كلفة الإستراتيجية الرسمية تجاه القضية الفلسطينية ورفع مخاطرها على شرعية الحكم وآفاق الاستقرار، إذ يتعاظم الرفض الشعبي للحفاظ على حالة السلام والتعاون الاقتصادي مع احتلال يوظف مكتسبات هذا السلام الاقتصادية والسياسية والأمنية للبطش بالفلسطينيين وابتلاع أرضهم وخلق ظروف طاردة تهدف إلى تهجيرهم.

تحدي طوفان الأقصى

جاء طوفان الأقصى ليرفع مستوى التحدي للتموضع السياسي للحكم، بفعل حالة الغليان الشعبي تجاه المجازر الإسرائيلية غير المسبوقة في قطاع غزة، مقابل القيود السياسية والاقتصادية المرتبطة بالخيارات التي اتخذها الحُكم تجاه الصراع مع دولة الاحتلال منذ عقود.

كما كان لاتضاح مساعي حكومة الاحتلال لتهجير أهل قطاع غزة إلى مصر، ونوايا أطراف فيها لتهجير أهل الضفة الغربية إلى الأردن دور في تعاظم المخاوف الرسمية الأردنية من مآلات السلوك الإسرائيلي على الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي للأردن.

إذ يشكل سيناريو دفع مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى حدود الأردن كابوسا لمؤسسة حكم راهنت على التحالف مع دولة الاحتلال ورعاتها، وربطت اقتصادها وأمنها وسياستها بهذا التحالف، مما يجعل خياراتها الفعلية محدودة لمواجهة تهديد كهذا.

ومما يشير إلى مدى حساسية الأمر تصريح رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة بأن “أي جهود لدفع الفلسطينيين إلى المملكة ستشكل تهديدا وجوديا”.

فمن ناحية، منع هؤلاء اللاجئين بالقوة من دخول الأردن سيخلق مشهدا بالغ الاستفزاز للشعب الأردني، ويعد مخالفة لالتزامات الدولة بموجب القانون الدولي الإنساني، ومن ناحية أخرى إن السماح بدخولهم يرتب أعباء اقتصادية وسياسية ثقيلة، في ظل وضع سياسي واقتصادي هش.

ويعدّ التوازن الديمغرافي بين مكونات المجتمع الأردني أمرا ذا حساسية بالغة، ويسهم في إعاقة الإصلاح السياسي والاقتصادي في الأردن. وتلاقي الطروحات الإسرائيلية والغربية بشأن توطين اللاجئين وإقامة وطن بديل لهم في الأردن رفضا شعبيا واسعا، بما يشمل مكونات مدنية وعسكرية مؤثرة في الدولة.

وفي ظل “حقل ألغام” كهذا، أصدر الأردن إشارات إعلامية حادّة تجاه مستوى الجرائم الإسرائيلية، خصوصا في ظل تزايد انعكاسات الحرب في غزة على الضفة الغربية، إذ استدعى سفيره لدى تل أبيب وطالبها بعدم إعادة سفيرها إلى عمان.

وتم إلغاء لقاء قمة كان يفترض أن يجمع الرئيس الأميركي جو بايدن بملك الأردن ورئيسي مصر والسلطة الفلسطينية في عمان في اليوم التالي لمجزرة المستشفى المعمداني التي راح ضحيتها مئات الشهداء في قطاع غزة.

إعلان حرب

كما صرح رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة بأن أي محاولات أو خلق ظروف لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو الضفة الغربية المحتلة، سيعده الأردن إعلان حرب. وهو تعبير غير مسبوق منذ عقود من العلاقة بين الطرفين.

وأعلن وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي أن الأردن لن يوقع اتفاقية لتبادل الطاقة مقابل المياه مع تل أبيب في ظل الحرب على قطاع غزة.

وعلى الصعيد الإغاثي، أبقى الأردن على مستشفى ميداني له في شمال القطاع، وأرسل مستشفى آخر إلى جنوبه ومستشفى ثالثا إلى الضفة الغربية تحسّبا لتصعيد متوقع هناك. كما أرسل مساعدات إنسانية إلى غزة عبر معبر رفح ومن أراضيه مباشرة.

وفي المقابل، لم تُعِد الحكومة النظر في أي من اتفاقاتها مع الاحتلال، رغم صدور قرار من مجلس النواب بهذا الشأن، واقتصر القرار بشأن اتفاقية تبادل المياه والطاقة على إرجاء توقيعها، من دون إلغائها أو إبداء نية لفعل لذلك.

وعلى العكس من ذلك، تزايد تصدير الخضروات من الأردن إلى إسرائيل في ضوء النقص الناشئ عن تراجع قطاع الزراعة الإسرائيلي بفعل الحرب، إضافة إلى تسيير خط إمداد بري من الإمارات إلى إسرائيل عبر أراضي السعودية والأردن في ضوء منع جماعة أنصار الله الحوثيين السفن الإسرائيلية من عبور مضيق باب المندب. وهما أمران أخلت الحكومة مسؤوليتها تجاههما، وربطت أولهما بقرارات للقطاع الخاص، وثانيهما باتفاقات المرور الحرّ للبضائع.

وعلى المستوى الأمني، تكثفت جهود مكافحة التهريب عبر الحدود مع سوريا، الذي أصبح في العام الأخير أكثر اشتمالا على أسلحة متجهة إلى الضفة الغربية، كما كشفت عن عديد من المحاولات التي أحبطها الاحتلال.

تأييد المقاومة

ومن الواضح أن مواقف كهذه لا ترضي الجمهور الأردني الذي أظهر استطلاع للرأي في الأردن -أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية- أنه أكثر الشعوب العربية تأييدا للمقاومة ولعملية طوفان الأقصى.

فمنذ بداية الحرب، لم يهدأ الحراك الشعبي الرافض للعدوان والمطالِب برفع سقف مستوى الرد الرسمي إلى إلغاء معاهدة السلام ودعم المقاومة الفلسطينية، وإخراج القوات الأميركية التي توجد بصفة غير دستورية على الأرض الأردنية؛ إذ إن الاتفاقية التي توجد بموجبها لم تُعرض على مجلس النواب لإقرارها خلافا لما ينص عليه الدستور.

وبدورها، بذلت الأجهزة الأمنية جهودا كبيرة لاحتواء هذه التحركات الشعبية، من خلال محاولة توجيهها إلى مناطق ذات حساسية سياسية منخفضة كمراكز المدن، وإبعادها عن الحدود وسفارتي الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، إضافة إلى اعتقال المئات من الناشطين الذين لا يلتزمون بهذه السياسات.

وبالفعل نجحت هذه المساعي في تحجيم تأثير التحركات الشعبية وتقليل القناعة بجدواها، خصوصا في ضوء ضعف وتفكك القوى الشعبية وإحجامها عن كل ما من شأنه حصول احتكاك مع الموقف الرسمي.

إلا أن الجمهور وجد لنفسه فرصة للتعبير عن نفسه في التجاوب الواسع مع دعوات الإضراب الشامل الذي شهده الأردن يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 2023.

تعبيرات إعلامية

وفي ظل هذا الوضع الحرج للأردن الرسمي، تتفهم الولايات المتحدة ودولة الاحتلال التعبيرات الإعلامية والسياسية الصادرة عنه، باعتبارها ضرورة لتهدئة الشارع، ولا تأثير يذكر لها على مسار الحرب عسكريا وسياسيا، إذ لا تصدر ردود فعل رسمية إسرائيلية توازي مستوى التصريحات الأردنية العالية السقف.

ويشير هذا الوضع إلى أنّ تركيز الاحتلال وأولويته منصبة على استمرار ضبط الأردن للأمن عبر الحدود وعدم حصول تغير في الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والأمنية معه إلى حين انتهاء حربه على القطاع. وفي هذا السياق، يمكن تفسير السماح للأردن بإنزال مساعدات جوية للمستشفى العسكري التابع له في شمال القطاع.

إلا أن الموقف الأردني والمخاوف الجدية بشأن استقرار الأردن تعد دافعا هاما لتحفظ الولايات المتحدة على ارتفاع مستوى التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية، ومساعي نتنياهو وشركاء حكومته لسحب حل الدولتين من على طاولة البحث، وهو ما يزيد من الانقسام السياسي داخل حكومة الاحتلال ويضيق المجال على مناورات نتنياهو الساعية إلى إطالة أمد الحرب وتوسيعها حماية لبقائه السياسي.

وختاما، رغم صعوبة تداعيات الحرب في غزة على الأردن، فإن التحديات الكبرى ترتبط بتوسّع المواجهة بين الاحتلال والفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو ما يشير إليه مسار الأحداث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وهذا ما يضع صانع القرار أمام وضع تزداد فيه صعوبة اتخاذ مواقف يمكن أن يتحملها الشعب الأردني من جهة، وتقبل بها دولة الاحتلال والولايات الأميركية من جهة أخرى.

شاركها.
Exit mobile version