مدينة روهتاك، الهند – في صباح يوم شديد البرودة من شهر يناير/كانون الثاني، والشمس لم تكن قد أشرقت بعد، اصطف برامود شارما وهو يرتعش خارج المدخل الرئيس لحرم جامعة مهارشي داياناند في روهتاك البلدة الصغيرة في ولاية هاريانا شمالي الهند، التي تقع على بعد 84 كيلومترا (52 ميلا) عن مدينة نيودلهي.

انضم إلى شارما، 43 عاما، مئات آخرون من الرجال للخضوع لاختبار مهارة للعمل بوظيفة نجار في إسرائيل، وهي المرة الأولى التي ينفتح فيها قطاع البناء على الهنود الذين سبق أن وجدوا عملا هناك كمقدمي رعاية أساسا.

بعد أكثر من 100 يوم من حرب إسرائيل على غزة، برزت أزمة نقص عمالة في البلاد كرَّسها قرارها بمنع عشرات الآلاف من الفلسطينيين من العمل في إسرائيل.

وأفادت تقارير في أكتوبر/تشرين الأول أن شركات الإنشاءات الإسرائيلية طلبت من حكومتها في تل أبيب السماح لها باستخدام نحو 100 ألف عامل هندي ليحلوا محل الفلسطينيين الذين أُوقفت تراخيص عملهم عقب بدء العدوان على غزة.

وفي الهند، كشف بحث إسرائيل المحموم، بدوره، عن عمالة تباينا بين ادعاءات النجاح الاقتصادي لحكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي –التي تصر على أن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي أسهم في أن تصبح الدولة قوة عالمية- وبين التجارب الحية لملايين الناس. وفيما الهند مقبلة على انتخابات عامة، يقدر معدل البطالة بحوالي 8%.

وفي ديسمبر/كانون الأول، أعلنت حكومة ولاية هاريانا عن 10 آلاف وظيفة لعمال البناء في إسرائيل، من بينها 3 آلاف وظيفة لنجارين وحدادين، وألفين لمبلطي أرضيات، وألفين لعمال الجبس. وجاء في الإعلان أيضا أن راتب هذه الوظائف سيكون نحو 6100 شيكل (حوالي 1625 دولارا أميركيا في الشهر)، في بلد يبلغ متوسط دخل الفرد فيه حوالي 300 دولار شهريا.

وفي نفس الشهر، أصدرت أوتار براديش -أكثر ولايات الهند اكتظاظا بالسكان- إعلانا مشابها عن 10 آلاف وظيفة لعمال. وأفادت تقارير أن حملة التوظيف بدأت في عاصمة الولاية، لوكناو، يوم الخميس، ووجدت إقبالا من مئات مقدمي الطلبات.

وفي وقت سابق من هذا الشهر، وصل إلى الهند مسؤولو التوظيف من إسرائيل لإجراء المعاينات.

وأبلغ مسؤول من شركة هاريانا كوشال روزغار نيغام المحدودة –وهي إحدى وكالات حكومة الولاية التي تشرف على حملة التوظيف- موقع قناة الجزيرة الإنجليزية الإلكتروني أن ما بين 500 و600 من المتقدمين يوميا في المتوسط خضعوا لمعاينات خلال حملة التوظيف التي انتهت يوم الأحد واستمرت أسبوعا في بلدة روهتاك.

فرصة العمر

جاء شارما إلى روهتاك مع مجموعة من حوالي 40 عاملا من بيهار، التي تعد واحدة من أفقر الولايات في الهند، وتقع على بعد أكثر من ألف كيلومتر (620 ميلا) شرق روهتاك.

وقال شارما للجزيرة إنه خضع في البداية لاختبار شفهي أجرته معه وكالة توظيف في بيهار حول مواضيع تتعلق بأعمال البناء.

وتابع: “أخبروني أنني اجتزت الجولة الأولى، وأن موكَّلا إسرائيليا سيأتي الآن إلى روهتاك في جولة ثانية من المقابلات، وأن عليَّ الحضور إلى هنا.

“كنا ننام داخل الحافلة في هذا الزمهرير طوال الأيام الـ3 الماضية ونستخدم حمام مطعم على قارعة أحد الطرق في انتظار معايناتنا”.

ووفقا لشارما -الذي فقد وظيفته في مجال الإنشاءات في نيودلهي إبان جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) في عام 2020- فإن العمل في إسرائيل يبدو أنه “فرصة العمر” للانعتاق من ربقة الفقر.

ومنذ ذلك الحين، ظل يعمل بموجب نظام توظيف حكومي براتب يقل عن 3 دولارات في اليوم نظير 5 ساعات عمل في أحد الحقول. لكنه لا يزال يكافح لتوفير 3 وجبات مُشبِعة لزوجته وطفلين وأخت يعولها.

وقال: “لو تمكنت من الحصول على هذه الوظيفة في إسرائيل، فسوف أكون قادرا على إعالة أطفالي وتوفير ما يكفي لتزويج أختي”.

وقال شيف براكاش –وهو عامل بناء آخر من بيهار- إن الراتب الذي تقدمه الشركات الإسرائيلية يزيد 3 أضعاف عما كان يتقاضاه في السابق. وتساءل ابن 39عاما: “من يريد أن يفوِّت فرصة كهذه؟”.

فيكاس كومار،32 عاما، من منطقة بانيبات في هاريانا، خضع هو الآخر لاختبار المهارات. قال إن مسؤولين إسرائيليين أعدوا نماذج تحاكي أعمال إنشاءات متعددة، ويُطلب من المتقدم للوظيفة تقديم عرض حي في الجولة الختامية من الاختبارات.

ويشتغل كومار 12 ساعة في اليوم كعامل جبس ويتقاضى 120 دولارا (10 آلاف روبية هندية) في الشهر. ويأمل في تأمين وظيفة له في إسرائيل لدعم عائلته المكونة من 6 أفراد.

الإسرائيليون والعمال الأجانب يفرون من الحرب

تعرض الاقتصاد الإسرائيلي لضربة قوية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عندما شنت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” هجوما غير مسبوق على أراضيها، أسفر عن مقتل 1200 شخص. ومنذ ذلك الوقت، قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 24620 فلسطينيا، من بينهم 16 ألف امرأة وطفل في غزة.

كما أجبرت الحرب ما يقارب 500 ألف إسرائيلي وأكثر من 17 ألف عامل أجنبي على مغادرة البلاد، وفقا لبيانات هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، أصبح حوالي 764 ألف إسرائيلي –أي ما يقارب خمس القوى العاملة في إسرائيل- دون عمل بسبب عمليات الإجلاء أو إغلاق المدارس أو استدعاء جنود الاحتايط للانخراط في الحرب.

ويعتمد قطاع البناء الإسرائيلي أساسا على العمالة الأجنبية، وأغلبيتها من الفلسطينيين. غير أن الحكومة الإسرائيلية أقدمت على إيقاف تصاريح العمل الخاصة بما يزيد على 100ألف عامل فلسطيني قد عُلِّقت عقب بدء العدوان على غزة.

وفيما تعزو إسرائيل السبب في بحثها عن عمال في الهند إلى نقص العمالة بسبب الحرب، كانت حكومتها تعمل على خطة لاستجلابهم قبل أكثر من 8 شهور. ففي مايو/أيار 2023 وقع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين اتفاقية مع نظيره الهندي سوبرامانيام جايشانكار، تسمح لنحو 42 ألف من عمال البناء الهنود بالهجرة إلى إسرائيل للعمل.

على أن فئة العمال ليست وحدها التي ترغب في السفر إلى إسرائيل للعمل. فهناك شبان هنود متعلمون يتقدمون أيضا بطلبات للحصول على هذه الوظائف بحثا عن دخل مستقر.

فقد مثُل ساشين –وهو طالب هندسة في السنة النهائية يبلغ من العمر 25 عاما في إحدى جامعات هاريانا الحكومية- أيضا أمام لجنة المعاينة. ويقول عن ذلك للجزيرة: “لا أحد يريد الذهاب إلى مكان تطير فيه الصواريخ في سماء المنطقة ولكن هناك القليل من الفرص في الهند”.

وفي تقرير أجرته جامعة خاصة رائدة، بلغ معدل البطالة في الهند بين خريجي الجامعات الذين تقل أعمارهم عن 25عاما، 42% بعد جائحة كورونا، وهي نسبة كبيرة.

معارضة هندية لإبعاد العمال الفلسطينيين

لكن خطة الهند لإرسال عمال إلى إسرائيل المتورطة فعلا في عمليات إبادة جماعية للفلسطينيين، تعرضت لانتقادات من مجموعات عمالية ومن المعارضة.

فقد أصدرت 10 من أكبر نقابات العمال في الهند بيانا شديد اللهجة في نوفمبر/تشرين الثاني، حثت فيه الحكومة على عدم إرسال عمال هنود إلى إسرائيل. وجاء في البيان: “ليس هناك ما هو منافٍ للأخلاق وأشد فداحة من “تصدير” الهند لعمال إلى إسرائيل. إن مجرد تفكير الهند بتصدير عمال يظهر أسلوبا ينم عن نزعة إلى تجريد العمال الهنود من إنسانيتهم وتحويلهم إلى سلعة”.

وعارض اتحاد عمال البناء في الهند “أي محاولة لإرسال عمال البناء الفقراء في بلادنا إلى إسرائيل للتغلب على نقص العمال ودعم عمليات الإبادة الجماعية بأي شكل من الأشكال”.

وقال تابان كومار سين -البرلماني الهندي السابق والأمين العام لمركز النقابات الهندية- إنهم لا يعارضون تنقل العمل عبر الحدود، لكن لا ينبغي أن يأتي ذلك على حساب العمال الفلسطينيين.

وتابع “نريد أن يجد جميع العمال عملا. لا نريد فصل أي شخص عن عمله ومنح وظيفته لشخص آخر”. وأضاف البرلماني السابق: “يجب على كل عامل هندي أن يعارض استبعاد العمال الفلسطينيين واستبدالهم بعمال هنود”.

وقال كليفتون دي روزاريو -السكرتير الوطني للمجلس المركزي لنقابات عمال عموم الهند- إن الحكومة الهندية كانت تتصرف وكأنها “مقاول” لإسرائيل، وإن “فكرة إرسال عمال إلى إسرائيل تذكرني بالعبودية المُلزمة للعمل لمدة زمنية خلال الاستعمار البريطاني في القرن الـ19.

وأضاف “إن الدولة التي تتفاوض على إرسال قسم من العمال إلى دولة معينة ذات سجل من قمع مجتمع آخر، ليحلوا بديلا (عن آخرين) تحت أي ظرف من الظروف أمر غير مقبول. وحتى لو لم يكن هناك صراع، فإني أقول إن هذا غير مقبول”.

ومع تزايد الانتقادات، قال المتحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية في الهند راندهير جايسوال للصحفيين الأسبوع الماضي، إن الحكومة كانت تعي مسؤوليتها عن توفير السلامة والأمن للمواطنين الهنود في الخارج. وأردف قائلا إن قوانين العمل في إسرائيل كانت “قوية وصارمة ، وتوفر حماية لحقوق العمال والمهاجرين”.

وقد تواصلت الجزيرة مع المسؤولين الإسرائيليين الذين يجرون المعاينات، لكنهم رفضوا التحدث أو تقديم معلومات عن حملة التوظيف.

وفي هذه الأثناء، يقول الخبراء إن على الهند إجراء تقييم دقيق للشروط التي سيخضع لها العمال في إسرائيل، حتى لو كانت مفيدة ماليا.

لقد اتُّهمت إسرائيل بانتهاك حقوق العمال. وبحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش عام 2015 ، تقاضى العمال التايلنديون في القطاع الزراعي الإسرائيلي رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور. كما واجهوا ظروف عمل غير آمنة وأجبروا على العمل لساعات طويلة.

وكانت هناك أيضا أمثلة لعمال هنود حوصروا في نزاعات الشرق الأوسط.

واعترفت الحكومة الهندية في مارس/آذار 2018 بأن 39 عاملا هنديا قُتلوا بعد اختطافهم على يد تنظيم الدولة في العراق. وأفرج التنظيم المسلح عن مجموعة من 46 ممرضة هندية في يوليو/تموز 2014 بعد بقائهن في الأسر لأكثر من أسبوع.

موقف هند مودي المؤيدة لإسرائيل

لطالما دعمت السياسة الخارجية للهند عبر التاريخ القضية الفلسطينية. بيد أن تحولا قد طرأ على هذه السياسة في العقد الماضي.

في عام 2017، أصبح ناريندرا مودي أول رئيس وزراء هندي يزور إسرائيل. كما أنه يصف نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أنه “صديق مقرب” على وسائل التواصل الاجتماعي.

وبعد فترة وجيزة من بدء حرب غزة، امتنعت الهند في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي إلى وقف إطلاق النار. وبعد شهرين، أيدت نيودلهي قرارا آخر للأمم المتحدة يطالب بوقف إطلاق النار.

وفي الهند، حظرت السلطات في العديد من ولايات البلاد التجمعات المؤيدة للفلسطينيين واعتقلوا الناس بسبب احتجاجهم أو حتى نشر رسائل تضامن مع فلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقال الوزير والدبلوماسي السابق، ماني شانكار آيار، إن سياسة الهند خلال الـ50عاما الماضية على الأقل كانت تشجع الهنود على الذهاب كعمال مهاجرين إلى الشرق الأوسط وأجزاء أخرى من العالم.

وزاد قائلا إن تحويلات هؤلاء العمال المالية إلى بلدهم تعد “جزءًا مهما للغاية من اقتصادنا. لذلك، ولأسباب اقتصادية، سأدعم بالتأكيد فكرة ذهاب العمال الهنود إلى إسرائيل. ولكن، بالنظر إلى سياق الإبادة الجماعية الحالية لإسرائيل في قطاع غزة، فهذه هي أسوأ طريقة للهنود لكسب القليل من المال من إسرائيل”.

وطبقا لتقرير الأمم المتحدة عن الهجرة الدولية، بلغت التحويلات المرسلة من دول الشرق الأوسط إلى الهند 38 مليار دولار في عام 2017.

وقال العديد من الهنود الطامحين للعمل في إسرائيل إن الحرب في غزة لن تقيدهم، حتى إن بعض العمال يدعمون إسرائيل في عملها ضد الفلسطينيين.

وقال ياش شارما -وهو من منطقة جيند في هاريانا، ويطمع في العمل بإسرائيل، لموقع الجزيرة الإنجليزي “إذا أُتيحت لي الفرصة، فأنا على استعداد للعمل لدى الجيش الإسرائيلي”.

وهناك العديد من أمثال شارما لديهم مبرر أقوى. يقول شارما:” سوف أغتنم فرصتي. فالموت هناك أفضل من التضور جوعا”.

شاركها.
Exit mobile version