إلى آخر قطرة من دم، وآخر نفس يتردد في جسد أنهكته المصابرة طيلة أشهر، يحمل مقاوم قسامي روحه على راحته وعلى منكبه رشاشه، كان رفقة صديقه في السلاح والفكرة والوطن، يتصديان لقصف عنيف من وحدة من الجيش الإسرائيلي، ينطلق الرصاص في خطين متعارضين، ليسقط المقاوم شهيدا، ويتولى زميله بقية المهمة، قبل أن يلتحق برفيقه، وتبقى دماؤهما وسلاحهما شاهدين على أسطورية المقاومة، التي لا تفل لها شباة إلا لتسن أخرى أكثر مضاء.

لم يكن مشهد الشهيدين إلا واحدا من عشرات إن لم تكن مئات الوقائع والأحداث التي مرت بها الأيام العشرة المستعرة من حرب جباليا الثانية، التي وصفتها الصحف الإسرائيلية بأنها الأشرس والأنكى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

كتائب القوات الإسرائيلية يغص بها الفضاء وألويته تملأ الفجاج، ولهب نيرانه يفتح بطوفان من الدم الطريق أمام المحاولات المنكسرة واحدة تلو الأخرى، في مواجهة مقاومة تعزف المستحيل نغما من رصاص ولهب، وتنسج من الأرض والدم نعوش أعدائها.

رائحة الموت تحل اليوم محل نفحات البخور والورس المسافر عبر القرون، فمنذ مبتسم الخليقة الأول، وجباليا إحدى وجنات الشمس المتوردة، وريف فلسطين، وإحدى مشارق أنوار الحضارة والعمران.

محاولات فاشلة

ومنذ التاسع من أكتوبر، وبعد يومين من الطوفان، بدأت جباليا في استلام حصتها من الانتقام الإسرائيلي العنيف بقصف السوق الشعبي في المدينة، ليرتقي 50 شهيدا في دقائق.

وفي مدرسة الفاخورة حيث كانت الفصول والسبورات ترسم قصة كفاح علمي، كان سكان جباليا على موعد مع مجزرة أخرى راح ضحيتها 200 شخص تحت موجة من القذائف المدمرة، قبل أن يتوالى عداد المجازر في المدينة الصامدة.

وخلال الأشهر الماضية حاولت إسرائيل أكثر من مرة التوغل في مخيم جباليا، لكن الفشل كان لها بالمرصاد في كل مرة، ولكنها عادت قبل أيام تحاول أن تحقق ما فشلت فيه في مرات سابقة.

وفي الأيام العشرة الماضية، بدا للقوات الإسرائيلية وهي تحاول فرض سيطرتها الكاملة على مخيم جباليا أن طريقها مفروش بكثير من الألغام، فقد بدأت دباباتها تسقط واحدة تلو الأخرى تحت نيران “الياسين” ولهب الكمائن التي تنصبها كتائب عز الدين القسام بين الحين والآخر.

وكما تحترق الدبابات، وتغوص الآليات في وحل جباليا، يتساقط الجنود الإسرائيليون قتلى وجرحى بوتيرة عداد ينتقل بشكل متصاعد بين الآحاد إلى العشرات، رغم شح ما تعترف به تل أبيب من ضحايا جنودها كما تؤكد المقاومة.

أيام من النار واللهب والدمار، والمباني التي أصبح عاليها سافلها، تواصل الآلة الإسرائيلية السحق، وتواصل المقاومة التصدي، وتحت الركام لا تزال جثامين العشرات من الشهداء تحت الأنقاض، تكتب هي الأخرى قصة لا متناهية من جرائم الاحتلال ضد الأرض والناس في جباليا وما جاورها، وفي جميع أنحاء القطاع.

ووفق ما أعلنه الدفاع المدني الفلسطيني في شمال غزة، فإن مئات الشهداء قد استشهدوا إثر تدمير أكثر من 300 منزل، ولعل ما بقي تحت الأنقاض مما لم يكن انتشاله، قريبا أو أكثر ممن أخرج من تحت الركام.

أما على صعيد الخسائر في جيش الاحتلال، فقد تمكنت المقاومة من تدمير عشرات الآليات العسكرية الإسرائيلية بين دبابة وجرافة وناقلة جند، وواصل قناصوها مد لائحة القتلى الإسرائيليين بأرقام جديدة، وضحايا يزيدون حجم الغضب والحنق في تل أبيب.

ولشراسة المعركة بات الطرفان على يقين بأنها معركة حياة أو موت، وخصوصا بالنسبة للفلسطينيين الذين لا تعني لهم الحياة شيئا أكثر من الموت بشرف وصمود.

أعنف معارك الطوفان

بدأت الحرب العَوان في جباليا بتقدم الفرقة 98 معززة باللواء السابع واللواء 460 المدرعين نحو المخيم، تسنده فرق من الكتائب الهندسية لإقامة بعض الحفر، وفتح ثغرات في الطريق، والعمل على اكتشاف وتخريب الأنفاق، كان الهدف واضحا ومحددا، لكن الطريق إليه كانت عسيرة جدا، وتفرقت أوصال اللواءين بمواجهة الرصاص الفلسطيني، ليعزز لاحقا بلواء المظليين، الذي بدأ قصف جباليا في أول مهمة له في هذا المخيم منذ بداية الطوفان.

ورغم أن الألوية المذكورة تمكنت من دخول المخيم والتوغل فيه عمقا بعد أن فشلت في ذلك سابقا -وربما كان لتكتيكات المقاومة دور في ذلك- فإن تلك القوات كانت تضطر للتراجع كل حين تحت قصف القنابل الرعدية التي تطلقها المقاومة، وتحت رشقات القناصين المحترفين في كتائب القسام وغيرها من فصائل جباليا.

ومع حجم الدمار الذي نشره الجيش الإسرائيلي في جباليا، بالتوازي مع حجم الإخفاق، بات جليا -وفق صحيفة هآرتس الإسرائيلية- أن غالبية الجنود يعتقدون أن قادتهم يدفعون بهم إلى عملية عبثية لا أمل في انتصار من خلفها.

وتزداد ضراوة المعارك في جباليا مع تحول عدد كبير من المنازل إلى مقانص مفخخة، تنفجر بمن فيها حينما يلجها الجنود الإسرائيليون بحثا عن فتحة نفق أو محاولة لانتشال جثة، أو إسعاف مصاب، أو احتماء من لهب قناص، وهو ما يضفي من جديد صعوبة على الحرب التي يخوضها جنود مدربون على الحروب التقليدية، خصوصا أن مقاتلي حماس باتوا أكثر احترافية وخبرة، وفق ما ينقل إعلام عدوهم الإسرائيلي.

فقد نقلت صحيفة هآرتس عن ضباط الاحتلال، أنه بعد 7 أشهر من الحرب، و4 أشهر على إعلان الجيش عن تفكيكه كتائب حماس في شمال قطاع غزة، فإن مقاتلي حماس أصبحوا أكثر خبرة.

وقال أحد الضباط “نرى أنهم غيروا تكتيكاتهم، ويركزون أكثر على تفخيخ المباني، في حين يشكو العديد من جنود الاحتياط من استدعائهم بموجب أمر تجنيد غير محدد من الناحية الزمنية”.

لماذا وكيف تصمد جباليا؟

تتعاضد في صمود جباليا عوامل متعددة، أقواها صبر المقاومة، وخبرتها المتصاعدة، واعتبارها جباليا معركة موت أو حياة، وإلى جانب هذا العامل الأسطوري، تنضاف عوامل أخرى بالغة الأهمية من أبرزها:

  • التشكيل الجغرافي في جباليا، ذات الأنفاق الطويلة والمتشعبة، والحارات المتقاربة جدا، والكثافة السكانية العالية، وهو ما يجعل التحرك الإسرائيلي فيها بطيئا ومتعثرا، خصوصا بالنسبة للجيش الإسرائيلي الذي يتحرك في قطع عسكرية متجاورة يحاول بعضها شد بعض، قبل أن تقطع المقاومة باللهب حبل تعاضدها.
  • ضيق مسافة المواجهة: بفعل طبيعة الأرض التي تفرض على الطرفين مستوى عاليا من الالتحام، وهو ما يضيق أيضا خيارات التموقع بالنسبة للجيش الإسرائيلي الذي يجد نفسه في مواجهة رشق ينهال من أكثر من بيت وشارع، وهو ما يترجم حجم الدمار الذي أحدثه الاحتلال في جباليا.
  • تباين الخطط العسكرية: ففي الحين الذي تملك فيه المقاومة بعض أطراف المبادرة، وتملك قدرة على توظيف الأرض ومعطياتها، يواجه الكيان عمى استخباراتيا وفق تعبير الباحث السياسي سعيد زياد، فيما تمكنت المقاومة من كسب أكثر من فرصة عبر الالتفاف على الوحدات الإسرائيلية من أكثر من جهة، والتمكن من رصد حركات الدبابات والآليات، وتفخيخ المباني في طريقها، وقنص جنودها وحتى قطع الإمداد عنها كما حدث يوم الجمعة الماضي.
  • مستوى الإسناد الجوي: أو كما يسميه الباحث سعيد زياد “ضعف التمهيد الناري” حيث كان الجنود الإسرائيليون يعتمدون على سياسة الأرض المحروقة، وينفذون سياسة “إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها” وهي سياسة ما زال الجيش الإسرائيلي يتمسك بها، ولكنه كما يشير زياد “فقد هذا الزخم الناري لعدة أسباب بعضها سياسي وبعضها فني وبعضها عملياتي، وهو ما جعله أمام مشكلة كبيرة، فالجندي تعود أن تسوي الأرض أمامه قبل أن يتقدم، تعود أن لا ينزل من دبابته قبل تطهير الأرض بالكامل”.

وتلك الوضعية جعلت الأولوية الإسرائيلية تجد نفسها في مواجهة نيران “صديقة” أحيانا وغير صديقة، في معظم الأحيان تأتيهم من فوقهم، ومن بين أيديهم ومن أسفل منهم.

وبين تلك المؤشرات المتعددة، تصنع جباليا واحدة من قصصها التاريخية التي لا تنتهي منذ أن صافحت جبالها وجنات الشمس، لتكون مبتدأ التاريخ وأروع أخبار الصمود.

مدينة اللجوء والتاريخ

كانت “أزاليا” الرومانية أول مدن ذلك المقطع الجبلي القريب من غزة، ثم استقرت بعد التسمية والتاريخ، وأطلقت الأيام عنان العمران في سفوح وقمم المدينة التي تستضيف اليوم واحدة من أبشع جرائم الاحتلال وأبسل ما تكون المقاومة.

تحولت تلك المدينة منذ عقود إلى أحد عناوين النضال الفلسطيني، وتاريخ مقاومته للاحتلال، وهي منذ أسابيع تكتب حاضرا من الدم ومستقبلا من التحرير كما يرى أبناؤها.

عبثت الجرافات والرصاص بالمزارع وحقول الحمضيات، وتحطمت أشجار الجميز المعمرة، أما الإنسان فأصعب وأقوى حصن، وأول هدف لنيران الاحتلال.

ولأن كل طفل في جباليا ثورة، فقد شهدت جباليا معارك ضارية وموجات من الموت المنبعث من الأرض أو النازل من السماء، وارتبطت جباليا بالموت والصمود والأشجار المعمرة التي لا تصهرها الشمس ولا اللهيب.

وقد تحولت جباليا منذ نكبة 1948 إلى مخيم ضخم، وشهدت أحداثا حفرتها الشهادة والدم في ذاكرة الأيام، ومنها حادثة شتاء 1950 الذي شهد بردا قارصا وعاصفا أدى إلى اقتلاع جميع الخيام وتشريد العائلات النازحة، لتبدأ من ذلك الزمهرير الشديد بداية العمران العشوائي، عبر بيوت من طابق واحد، ومساكن أقرب إلى الأعشاش منها إلى البيوت التي تليق بالبشر.

ومع عداد الزمن ارتفع عدد سكان المخيم من 35 ألف نازح نهاية الأربعينيات إلى نحو 116 ألفا في 2023، يتوزعون على مساحة لا تتجاوز 1.4 كيلومتر مربع.

وخلال العقود الخمسة المنصرمة، كان المخيم على موعد دائم مع التهجير القسري، وتدمير المساكن والعمارات والغرف، تحت أكثر من مسمى، وبأكثر من وسيلة عنف.

مهد الانتقاصات ومصيدة الجنود

من حارات مخيم جباليا انطلقت شرارة انتفاضة الحجارة في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، كانت الحجارة سجيلا من الغضب الفلسطيني الذي بلغ مداه، عندما دعس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين، فأردى منهم 4 وجرح آخرين.

توشح الزمن في جباليا دما ولهبا، واستمرت ثورة الحجارة 6 سنوات انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

واستمرت هذه الانتفاضة إلى حين توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، دون أن يجلب ذلك أي سلام للمخيم الذي ظل قبلة لزوار الظلام من صواريخ مفعمة بالموت، وسجل تاريخه المجيد عددا كبيرا من الاغتيالات والمجازر التي استهدفت بشكل دائم ومتكرر قادة الفصائل المقاومة، التي اتخذ عدد منها من جباليا مستقرا ومقاما وميدان جهاد، ومرتقى شهادة.

ومن أشهر شهدائها الذين تركوا بصماتهم الخالدة في ذاكرتها الحمراء:

  • محمود جودة أحد القادة البارزين في حركة الجهاد الإسلامي، وقد اغتاله قصف إسرائيلي في عام 2004.
  • الشهيدان شادي سهيل مهنا، ومحمد أحمد قنديل من قيادة سرايا القدس في عام 2005.
  • مجزرة في بيت العالم الفلسطيني الشيخ نزار ريان، وقد راح ضحيتها 16 شخصا من بينهم الشيخ نزار وزوجاته وعدد من أبنائه، وذلك في عام 2009.

وإلى جانب هؤلاء نال المخيم مواسم عاتية من العدوان، منها ما يعرف بأيام الندم التي راح ضحيتها قرابة 100 شهيد فلسطيني، وتشريد أكثر من 600 آخرين خلال 17 يوما من سنة 2004.

وتكرر الأمر مجددا سنة 2005 بمجزرة أخرى راح ضحيتها 19 شهيدا خلال عرض عسكري لحركة حماس. وفي 2014، راح 20 فلسطينيا ضحيتها إثر قصف إسرائيلي على مدرسة للأونروا.

وبين المجازر والدماء وبين القمم المفعمة بالشموخ والسفوح المرتوية من الدماء واللهب، تواصل جباليا كتابة تاريخها الذي حفرته سنابك خيل الغزاة والفاتحين ثم الغزاة والمقاومين، وما زال في جعبتها بقية، مما ينبغي أن يكتبه التاريخ في رقعة جغرافية لا تضيق بغير الاستسلام.

شاركها.
Exit mobile version