فجر الاثنين الموافق 12 فبراير/شباط الجاري، شهدت مدينة رفح (جنوب قطاع غزة) سلسلة من الغارات العنيفة أوقعت ما يزيد على مئة شهيد وعشرات الجرحى، في عملية أطلق عليها الجيش الإسرائيلي “اليد الذهبية” زعم أنه تمكن خلالها من تحرير اثنين من أسراه في قطاع غزة.

ورغم علامات الاستفهام الكثيرة المحيطة بتفاصيل وظروف هذه العملية، فإنها شكلت دافعًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لدعم نواياه بتعميق العملية العسكرية نحو هذه المدينة المكتظة بالنازحين جنوب القطاع، رغم كل التحذيرات الدولية من مذبحة مؤجلة في رفح.

ماذا يجري في رفح؟

 تقع رفح جنوب قطاع غزة، وتشكل مع مخيماتها المحافظة الخامسة وفق التقسيم الإداري لقطاع غزة، وتمتد مساحة المدينة على 55 كيلومترا مربعا، من أصل 151 كيلومترا مربعا هي كامل مساحة المحافظة.

وتقع جنوب قطاع غزة على الحدود مع مصر، ويبلغ عدد سكانها 296 ألفا و661 نسمة وفق إحصائيات عام 2022، وتشكل بوابة القطاع إلى العالم الخارجي، ويقع فيها معبر رفح المخصص لسفر المواطنين عبر مصر، ومعبر كرم أبو سالم المخصص لإدخال البضائع عبر “إسرائيل” إلى القطاع، وبقايا مطار غزة الدولي الذي دمره الاحتلال مطلع الانتفاضة.

بعد 130 يومًا من العدوان، تحولت رفح إلى خزان للنازحين من عموم مناطق القطاع، حيث قدرت الأمم المتحدة عدد اللاجئين إلى المدينة بـ 1.4 مليون من أصل 2.3 مليون إجمالي عدد سكان القطاع المحاصر.

ومع إطباق الحصار عليها من جهاتها الأربع، تحولت رفح اليوم إلى مخيم كبير للاجئين، إذ يزيد عدد المقيمين فيها الآن على 6 أضعاف عدد سكانها الأصلي قبل بدء العدوان.

وتنتشر في شوارع المدينة، وحتى الجدار الحدودي مع مصر، عشرات آلاف الخيام من النايلون والقماش، بعد اكتظاظ المدينة تمامًا واستحالة العثور على أي مأوى داخلها، حيث لجأت الأفواج الأولى من النازحين إلى استئجار أي مكان للإقامة سواء كان حواصل أو بيوتا قيد الإنشاء.

كثبان المواجهة والاشتباك

 تستلزم محاولة تفكيك معنى بدء الهجوم على رفح تحليل مشهد الجهد العسكري وواقعه بالمحافظة، للوصول إلى فهم ما يبحث عنه الجيش الإسرائيلي وحكومته في المنطقة الأخيرة التي لم تتعرض لعملية برية واسعة على الأرض حتى الآن.

وتضم رفح وجودا عسكريًا لمختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، وتشكل كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس العمود الفقري له.

ويُعتبر لواء رفح أحد الألوية الخمسة التي تشكل قوام الجهد العسكري للقسام بالقطاع، ويضم 4 كتائب عسكرية هي “يبنا، الشرقية، الشابورة، الغربية” والتي تغطي أحياء ومناطق محافظة رفح، ويُقدر عدد مقاتليه بقرابة 10 آلاف مقاتل.

 وشكلت رفح نقطة مواجهة متقدمة مع جيش الاحتلال في القطاع، وانطلقت منها عشرات العمليات النوعية خلال سنوات الاحتلال ثم انتفاضة الأقصى، ومنها تفجير دبابة ميركافا عام 2004 تبنته سرايا القدس وأوقعت في حينه 6 قتلى من جنود الاحتلال.

وعقب انسحاب الاحتلال من القطاع عام 2005، انطلقت من رفح عملية “الوهم المتبدد” التي أسفرت عن أسر الجندي جلعاد شاليط من داخل موقع كرم أبو سالم العسكري، كما شهد عام 2014 عملية أسر الضابط هدار غولدن.

وساهمت رفح في رفد المقاومة الفلسطينية بعدد من أبرز قادتها العسكريين، منهم رائد العطار قائد لواء رفح في كتائب القسام، ومحمد أبو شمالة مسؤول دائرة الإمداد والتجهيز في الكتائب. وكذلك جمال أبو سمهدانة قائد ومؤسس ألوية الناصر صلاح الدين، وخالد منصور ومحمد الشيخ خليل من قادة سرايا القدس، ومجدي الخطيب أحد قادة كتائب شهداء الأقصى.

ميزة الأنفاق

واكتسبت المنطقة ميزة إضافية بكونها نقطة الإمداد الرئيسية لفصائل المقاومة بالعتاد والسلاح، عبر الأنفاق الحدودية، والتي يعود تاريخها إلى ثمانينيات القرن الماضي.

وتطورت عملية بناء الأنفاق عبر السنوات لتشكل شريان السلاح الرئيسي للمقاومة حتى عام 2014 الذي شهد قيام الجيش المصري بشن حملة ضد الأنفاق الحدودية، وتشكيل منطقة عازلة في سيناء.

وكانت الأنفاق -وما زالت- كلمة السر وعنوان المواجهة في رفح، والتي وضعتها على رأس قائمة الأهداف العسكرية الإسرائيلية منذ بدء انتفاضة الأقصى حيث تعرضت لعشرات الاجتياحات والعمليات العسكرية قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة، ولاحقًا في عدوان 2008.

وظل محور فيلادلفيا “صلاح الدين” عنوانًا للاتهامات الإسرائيلية بكونه شريان الإمداد العسكري لقطاع غزة.

ماذا تريد إسرائيل من رفح؟

تسارعت -منذ مطلع فبراير/شباط الجاري- وتيرة التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي حول عزمه تعميق العدوان على غزة باتجاه مدينة رفح، حيث أكد أنه أوعز للجيش بإعداد الخطط العسكرية اللازمة لتوسيع الهجوم ضد رفح وإعداد خطط ميدانية لنقل مئات آلاف النازحين من رفح.

ورغم البيانات الرسمية السياسية التي حذرت تباعًا من تطوير العدوان نحو رفح، سواءً من دول عربية أو أوروبية، والموقف المصري المتحفظ، لا يبدو أن نتنياهو يبالي بحجم الإدانات الدولية، يمضي قدمًا في الترويج للهجوم المرتقب على رفح، متسلحًا بالموقف الأميركي الذي لا يعارض العملية لكنه يشترط “سلامة المدنيين” وفقًا لتصريحات الرئيس جو بايدن.

والمتابع للتصريحات الإسرائيلية الرسمية يلاحظ استنادها إلى 3 معطيات رئيسية لتبرير الهجوم المرتقب على رفح، وهي:

  • استكمال مهمة “القضاء على القوة العسكرية لحماس”

يشكل لواء رفح خُمس القوة القتالية لحركة حماس، وما زال بعد 130 يومًا من العدوان يحتفظ بجزء كبير من قدراته العسكرية البشرية والمادية.

ولم يدخل اللواء بكتائبه الأربع أي مواجهات مباشرة مع جيش الاحتلال على الأرض من بعد “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

  • السيطرة على محور صلاح الدين

رغم عدم توثيق أي أدلة على وجود أنفاق لتهريب السلاح نحو قطاع غزة في رفح، فقد استهدفت العمليات العسكرية المصرية منطقة الحدود لتدمير الأنفاق وفرض منطقة عازلة على الحدود مع غزة، والتي شاركت بها حركة حماس في بعض المراحل تحت عنوان “ضبط الحدود”.

وتعتقد إسرائيل إلى درجة اليقين بوجود أنفاق لتهريب السلاح، وذلك رغم فشلها في تقدير حجم ونوعية شبكات الأنفاق في غزة، والفجوة الواضحة في المعلومات والوقائع على الأرض الذي كشفه التوغل البري في غزة.

وذهب المستوى السياسي على لسان وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى اتهام مصر بالتورط في عملية طوفان الأقصى، وقال في اجتماع لكتلة حزبه البرلمانية “المصريون يتحملون مسؤولية كبيرة عما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، تسليح حماس مر إلى حد كبير عبر مصر”.

  • فرض وقائع سيطرة وحصار على قطاع غزة

يسيطر جيش الاحتلال ناريًا على شمال قطاع غزة، حيث قام بفصل الشمال عن المنطقة الوسطى والجنوب بالتمركز جنوب محافظة غزة، واتخذ من أحيائها الجنوبية وموقع مستوطنة “نتساريم” سابقًا نقاط تمركز قواته التي تشن بين الحين والآخر عمليات توغل بري في عمق الأحياء الغربية من مدينة غزة، إضافة لوجوده شمال شرق وغرب القطاع.

ومع بدء الاجتياح البري نحو مدينة خان يونس، قطع الاحتلال جزئيًا الطريق الواصل بين المحافظة الوسطى ومحافظة خان يونس التي توغل في الجزء الشرقي والجنوبي والشمالي والغربي منها، وقطع ناريًا الطريق الواصل إلى مدينة رفح عبر شارع صلاح الدين شرق المحافظة.

وبالسيطرة على محور فيلادلفيا، يكون الجيش الإسرائيلي قد قسّم قطاع غزة إلى 4 أجزاء منفصلة، وحاصره تمامًا من جهاته الأربع، ويصبح بذلك المتحكم بشكل مباشر في حركة الأفراد والمساعدات الإنسانية من وإلى قطاع غزة، وداخل محافظات القطاع في الشمال والجنوب والوسطى.

  • ضغط ميداني لفرض الشروط في مباحثات التهدئة

قد يُنظر لفكرة تطوير الاحتلال هجومه على قطاع غزة باتجاه مدينة رفح، بعد ما يزيد على 130 يومًا من العدوان، كخطوة تكتيكية سياسية بالدرجة الأولى، سعيًا لفرض حالة ضغط مباشرة على المقاومة الفلسطينية، وجرها إلى خانة التنازل عن مطالبها التي سبق وتقدمت بها خلال جولات مباحثات التهدئة التي تجري برعاية مصرية وقطرية واطلاع أميركي في القاهرة.

الهجوم على رفح

باستحضار جملة المفاجآت التي شكلتها معركة “طوفان الأقصى” منذ بدايتها، لا يبدو خيار اجتياح مدينة رفح مستبعدًا، رغم كلفته السياسية والعسكرية العالية على الاحتلال أمام العالم.

ويأتي ذلك في ظل الإجماع الواضح على التهديد الذي يشكله هذا الهجوم على أرواح مئات آلاف النازحين، وفي ظل موقف مصري متوجس رسميًا من فكرة توجيه هذه الكتلة البشرية نحو الحدود، أو فكرة اختراق معاهدة كامب ديفيد بشن عملية عسكرية في المنطقة التي نصت الاتفاقية على كونها منزوعة السلاح من الجانبين.

ولكن السقف المرتفع الذي وصل إليه الاحتلال في عدوانه، وهزالة أي ردود أفعال دولية، لا تشكل إلا تشجيعًا له على مواصلة عدوانه.

وبين كفتي التفاؤل والتشاؤم، ترجح فكرة شن الاحتلال عملية موضعية في رفح، قد تكون عبر السعي لاختراق المدينة من جنوبها الشرقي والتمركز على أنقاض مطار غزة الدولي، والانطلاق منه للتوغل على الحد الفاصل والسعي لعزل قطاع غزة عن مصر، أو شن عمليات سريعة موضعية لضرب ما يعتقد أنها أهداف عسكرية لحركة حماس وفصائل المقاومة.

سيناريوهات في مواجهة الاجتياح 

  • موقف مصري من معاهدة كامب ديفيد

مع التلويح الإسرائيلي بشن عملية عسكرية في رفح، تواترت تصريحات مسؤولين مصريين تهدد بتعليق معاهدة السلام مع “إسرائيل” وفقًا لما نقلت وكالة أسوشيتد برس، وتزامنت هذه التصريحات مع تحريك الجيش المصري 40 دبابة وناقلة جنود باتجاه شمال سيناء، وتسريعها عمليات تحصين الجدار الحدودي الفاصل مع قطاع غزة.

الموقف المصري وسيناريو إلغاء معاهدة كامب ديفيد، قد لا يبدو خيارا مطروحا بجدية في الوقت الراهن، خصوصًا إذا اتصل بتاريخ طويل من الخروقات الإسرائيلية للمعاهدة، ولكنه ورغم تبعاته على مصر أيضا بحرمانها من المعونة الأميركية السنوية التي فرضتها المعاهدة، يشكل ورقة ضغط لناحية تعجيل التوصل لوقف النار، أو تحجيم العملية العسكرية المزمعة في رفح.

  • توسيع نطاق المواجهة الإقليمية

تشكل عملية اجتياح رفح، حال انطلاقها، معضلة عسكرية وإنسانية لقطاع غزة، وتفتح الأبواب على مصاريعها لسيناريوهات التهجير القسري والنكبة الجديدة لسكان القطاع، وهو ما تدركه حركة حماس جيدًا وحلفاؤها بالإقليم، والذي قد يتطلب منهم تصعيد سقف المواجهة مع الاحتلال على جبهات لبنان واليمن لتلافي النتائج الكارثية للهجوم.

وبالنظر إلى المعطيات الحالية، ومع عدم مقدرتنا على التنبؤ بسقف الاتصالات والتنسيق بين حماس وأركان “محور المقاومة” يبدو هذا السيناريو لتوسيع رقعة المواجهة واردًا وقادرًا على خلط الأوراق بالمنطقة، وكبح جماح نوايا إسرائيل باجتياح رفح، وإلزام حلفاءها بالتدخل لمنع انجرار المنطقة لحرب إقليمية واسعة.

  • انقلاب الموقف الأميركي أو حراك دولي

رغم التصريحات الإعلامية الأميركية، والأحاديث الصحفية عن انزعاج إدارة بايدن من الموقف الإسرائيلي المتصلب، تبدو واشنطن حتى اللحظة بعيدة عن اتخاذ موقف فارق تجاه الاحتلال، وأما الموقف العربي والأوروبي فيواظب على توجيه بيانات رسمية تحذر من تبعات الهجوم على رفح.

كما أن تصاعد المظاهرات والفعاليات الشعبية في دول العالم، والتبعات السياسية والقانونية لقرار محكمة العدل الدولية، والذي كان آخره قرار محكمة هولندية بوقف تصدير قطع طائرات “إف 35” لـ “إسرائيل” يصب بشكل متراكم في إيجاد حالة ضغط قد تصل إلى نقطة اللاعودة، وتتسبب بقرارات دولية ضد إسرائيل ترغمها على وقف العدوان.

شاركها.
Exit mobile version