عقب فوز الفيلم الإيراني «حادث بسيط» بسعفة مهرجان «كان» الذهبية في الشهر الماضي، طرح بعض النقاد العرب والغربيين مسألة ما إذا كان فيلم جعفر بناهي قد استحق الفوز بالسعفة الذهبية أم لا.
هذه المسألة أُثيرت هنا قبل ذلك في رسالة من «كان» تلت إعلان الجوائز، حيث ورد، ضمن ما ورد، أن الجائزة سياسية أكثر منها فنية، وأن «صراط» و«صوت السقوط» (الأول إسباني والثاني ألماني) كانا أكثر استحقاقاً.
لكن الموضوع يستأهل بالطبع بعض التفسير. ليس أن «حادث بسيط» خلا من الإيجابيات؛ فهناك معالجة المخرج التي تُحسن الحفاظ على البُعد النقدي المطروح، وحُسن إدارته للممثلين. لكن كلا هذين العنصرين ليس كافياً لجائزة بوزن السعفة، خصوصاً أن الناتج مبسّط، يعتمد الحوار لشرح الحكاية والانتقال بين مرافقها. مما يؤكّد أن أحد المبرّرات الرئيسية لمنح الفيلم تلك الجائزة كان سياسياً، يخدم الرغبة في إثارة الموضوع المطروح، بناءً على ذلك الخلاف القائم بين إيران والغرب.
صحيح أن الفيلم ينتقد الرقابة وصنوف الترهيب والسجن في إيران، لكن هذا يرد إيحاءً وحواراً، وليس عبر أسلوب فني يتجاوز المباشرة.
«صراط» لأوليفر لاكس لديه رسالة أشمل وأعمّ، وفيه قبس روحاني مدعوم بأسلوب بصري مبهر. كونه خرج بجائزة لجنة التحكيم (مناصفة مع الفيلم الألماني) يعني أنه كان مرشّحاً للسعفة.
روح شبابية
هذه ليست المرّة الأولى التي يمنح فيها «كان» جائزته الكبرى هذه لفيلم لا يستحقها.
في عام 1989، ضُحي بأربعة أفلام رائعة لقاء منح الجائزة لفيلم ستيفن سودربيرغ «جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو» (Sex, Lies and Videotape) (أميركي). تلك الأفلام هي: «افعل الشيء الصحيح» (Do the Right Thing) للأميركي سبايك لي، و«وقت الغجر» (Time of the Gypsies) لأمير كوستاريتزا (بوسني)، و«مطر أسود» (Black Rain) لشوهاي إيمامورا (اليابان)، و«سينما باراديسو» (Cinema Paradiso) لجيسيبّي تورناتوري.
وكان «التضحية» (The Sacrifice) للروسي أندريه تاركوڤسكي قد أذهل مشاهديه في «كان» سنة 1986، لكن لجنة التحكيم فضّلت عليه فيلماً أقل منه قيمة، هو «المهمّة» (The Mission) لرولاند جوفي (إنتاج بريطاني، فرنسي، أميركي).
خسر سبايك لي مجدداً عندما شارك في فيلمه الرائع «حمّى الغابة» (Jungle Fever)، إذ ذهبت السعفة في سنة 1991 إلى «بارتون فينك» للأخوين جويل وإيثان كوين. كلاهما جيّد، لكن فيلم سبايك احتوى كل ما يريده المهرجان من تجديد وروح شبابية ممزوجين بسرد جيّد.
واحد من أكبر الأخطاء المرتكبة كان حرمان «ميستيك ريڤر» (Mystic River) لكلينت إيستوود من السعفة، ومنحها إلى واحد من أسوأ أفلام عام 2003، وهو «فيل» (Elephant) لغاس ڤان سانت، على اعتبار أن فيلم إيستوود لا يحتاج إلى تشجيع، بخلاف «فيل» المستقل. عذر واهٍ، لأن على الحُكم أن يكون فنياً.
الغاية ليست القول إن لجان التحكيم فشلت طوال الوقت؛ فهناك سنوات عديدة أصابت في اختياراتها بلا ريب، لكن تلك الأعوام التي ذهبت فيها السعفة إلى أفلام ليست الأفضل تبقى عالقة في البال كذلك.
سنوات ضوئية
المسألة تتعدّى المهرجان الفرنسي إلى مهرجانات عديدة، وبل إلى أكاديمية العلوم والفنون السينمائية التي توزّع الأوسكار. مثلاً في 1950 مُنح أوسكار أفضل فيلم لعمل هش اسمه «كل شيء عن إيڤ» (All About Eve) لجوزيف مانكوڤيتز. والفيلم هو عالم الفن والممثلين. في العام نفسه كان هناك فيلم أفضل منه هو «صنست بوليڤارد» لبيلي وايلدر الذي دار كذلك عن عالم الفن والممثلين. المقارنة بين هذين الفيلمين برهان على أن فيلم وايلدر الممتاز تمّ التضحية به لصالح فيلم نصف رديء.
في 1980 منحت الأكاديمية جائزتها الأولى لفيلم «كرامر ضد كرامر» لروبرت بينتون. هذا مخرج جيد لكن الفيلم الذي كان يستحق الفوز بسنوات ضوئية هو «القيامة الآن» (Apocalypse Now) لفرنسيس فورد كوبولا. إذا كان الأمر يتعلق برسالة عائلية في الفيلم الفائز فإنه يتعلّق برسالة كونية ضد الحروب ممتزجة بعناصر بصرية ومشهدية لم تقع قبل أو بعد «القيامة الآن».
في عام 2012 ترشح للأوسكار فيلمان تداولا تاريخ السينما هما «الفنان» لميشيل هازاناڤيشوس و«هوغو» لمارتن سكورسيزي، والثاني هو أفضل صنعاً من الأول الذي خطف الأوسكار حينها. تعامل «الفنان» مع حكاية موضّبة على نحو مثير حول بدايات السينما. دار «هوغو» حول المرحلة نفسها إنما بتفاعل يبتعد عن الإبهار ويتميّز بصدق حبه لها. فيلم آخر كان أجدى من «الفنان» في ذلك العام هو «شجرة الحياة»، تحفة من ترنس مالك.
خيارات
ازداد تكرار الخيارات السيئة في السنوات القليلة الماضية. في 2021 فاز شيء يشبه الفيلم، عنوانه Nomadland، بالأوسكار عنوةً على فيلم كامل عنوانه «الأب». وفي 2022 فاز فيلم «كودا» المسلي، وفي 2023 تأكد خروج مانحي الأوسكار عن تبعات التمييز بين ما هو فني وبين ما هو فوضى باسم الفن عندما فاز فيلم «كل شيء في كل مكان في وقت واحد» (Everything Everywhere All at Once). وفي هذا العام خطف فيلم «أنورا» (Anora) الأوسكار من يدي فيلم أفضل هو «ذا بروتاليست» (The Brutalist).
الغالب في كل هذه الأمثلة هو تفضيل المبسط على المركّب، والسهل على الصعب، والمضمون على الفن.
“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}