تحدثت في مقالة سابقة عن خطأ يتكرر في تدوين تاريخ الفلسفة، حين يتصور كثيرون أن الفكر الشكوكي كان محصوراً في الخطباء السفسطائيين الذين رد عليهم أفلاطون في بعض محاوراته التي سماها بأسمائهم. رد عليهم باسم سقراط الذي لم يكتب شيئاً، بينما يزعم السفسطائيون أن سقراط واحد منهم، وأن أفلاطون قد شوّه صورته وقوّله ما لم يقل، جاء هذا على لسان أرسطبوس السفسطائي الذي أسس مذهب اللذة الذي نسب لأبيقور في خطأ آخر سنصححه فيما بعد. يتصور كثير من المشغولين بالفلسفة أن أفلاطون قد قضى على السفسطائيين، ومال إلى هذا القول كل رجال الدين في المسيحية والإسلام، وبقوا يكررون حجج أفلاطون الرادعة للشكوكيين، كل بلغته. فعندما تدقق قليلاً ستجد أن حجج ابن حزم الأندلسي التي ساقها للرد عليهم في كتاب «الفِصل» هي ذاتها حجج أفلاطون وأرسطو، بعد أن عرّبها وأسلمها عليّ بن أحمد. طائفة أخرى مالت لهذا الرأي هم العلماء الطبيعيون الذين يرغبون في المضي ببحوثهم العلمية دون تعكير من إزعاج الشكوكي. هذه من القضايا التي لم تشتهر، أن ثمة خصومة قديمة بين العلماء وطائفة من الشكوكيين تشككوا في صحة العلم، وقدحوا في الرياضيات واسترابوا في صحة الطب كعلم.

هذه الميول التي تكاتفت أخفتت صوت الشكوكي بعض الشيء، لكنه بقي موجوداً، ومن هنا أجد في تسليط الضوء على جهودهم المعرفية مصلحة كبرى، فلولا تلك الجهود لما تطور العلم والفلسفة وفهم الدين والحياة الاجتماعية والأخلاق. الشك ضرورة لحركة الفكر وشرط للتطور، ولولا الشكوكيون لما ارتقى شيء فكري. الشك قوة حيوية لعبت دوراً كبيراً في هذا المجال.

يقولون إن أفلاطون قد قضى على السفسطائيين (الاسم القديم للشكوكيين) لكن التفتيش في بطون الكتب القديمة يدل على نقيض ما تدعيه الكتب الحديثة. أسس أفلاطون أكاديمية لطلاب الفلسفة بالقرب من أثينا في سنة 387 قبل الميلاد، وبعد موت المعلّم مرت الأكاديمية بثلاث مراحل؛ فالأولى هي الممثل الحقيقي لفلسفة أفلاطون وتلاميذه وشركائه الذين حافظوا على إرث الأستاذ كما هو على صورته منذ تأسيسها. في هذه المرحلة امتزجت الأفلاطونية بالفيثاغورية وبالنظرية الصوفية للأعداد، وكان لها دور كبير في تطوير علمي الرياضيات والفلك. ثم آلت الأكاديمية إلى مرحلة وسيطة شكوكية حين ترأس أرقاسيلاوس الأكاديمية في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان أول شكوكي يرأسها. هذا يبدو من سخرية القدر، فالسفسطائيون الذين حاربهم أفلاطون بكل شراسة، استولوا على أكاديميته وصارت تعرف باسم «الأكاديمية الشكوكية»، خلافاً لمن يتصور أن أفلاطون قد قضى عليهم في زمانه.

وصلت إلينا حجج الشكوكيين الأكاديميين هذه في خلال كتابات شيشرون وديوجين اللايرتي والقديس أوغسطين، والمادة التي تفلسف عليها هي فلسفات ما قبل سقراط، ونسبية بروتاغوراس، ودعوى جورجياس باستحالة المعرفة وتناقلها، وأعمال أفلاطون وأرسطو. أما خصومهم الفكريون فقد كانوا الرواقيين والأبيقوريين والمناطقة الميغاريين، فهم من بقي على الساحة في تلك الحقبة التي تعرف باسم الفترة الهيلينستية، وهي الفترة التي تؤرخ بدايتها بموت الإسكندر أو موت أرسطو، وتنتهي بسنة 200 في اليونان، وسنة 300 في الشرق الأوسط.

هناك بعض الاختلافات المهمة بين الأكاديميين خلال فترة الشكوكية الأكاديمية التي استمرت إلى القرن الأول قبل الميلاد، ولكن هناك أيضاً سمة توحدهم، ألا وهي تبنيهم لمبدأ التفنيد. تلك الكلمة التي حظيت بالاهتمام من قبل كثير من الفلاسفة. بإلهام من سقراط، سعوا إلى محاربة الموقف الواثق الدوغمائي، ونظراً لأن الرواقيين كانوا أكثر الوثوقيين تأثيراً في زمانهم، فقد كرس الأكاديميون الشكوكيون طاقتهم للتصدي لهم على وجه الخصوص. لقد بدأ الشك الأكاديمي استجابة لتطوير الرواقية لنظريتها في المعرفة، نظرية تغيرت هي نفسها استجابة لنقد الشكوكيين الأكاديميين.

ولكي يدحضوا خصومهم، استخدم الأكاديميون الجدل القديم القائم على إظهار العوار في أفكار الخصم والتناقض، وبدلاً من تبني موقف ما، يكتفون بأن يكشفوا للمحاور أن اعتقاداته غير متسقة بشكل متبادل، وبالتالي فهو غير قادر على تبرير ادعائه للمعرفة. على سبيل المثال، لو أنني ادعيت أن السعادة هي اللذة الحسيّة، فسيتقدم إليّ أحد الشكوكيين من هذه المدرسة ليرشدني بناءً على المقدمات المنطقية التي أعتمدُها أن السعادة قد توجد بلا لذة حسيّة، ويترتب على ذلك أنني لم أكن أعرف حقاً ما زعمت أنني أعرفه. الافتراض العملي هو أنني لو كنت أعرف ما هي السعادة لكنت قادراً على تقديم سبب لصحة اعتقادي. وإذا تناقضت مع نفسي أو عجزت عن تقديم الأسباب المعقولة، فهذا معناه أنني لا أعرف ما هي السعادة، وحتى لو تبين أن إيماني صحيح، فأنا لا أعرف سبب صحته.

لا يملك أرقاسيلاوس شهرة كشهرة أفلاطون وأرسطو، لكن المتخصصين يعرفونه ويعرفون أنه عاش ما بين (316 – 241) قبل الميلاد على وجه التقريب لا اليقين، وأنه ترأس الأكاديمية منذ عام 268 ق. م. حتى سنة وفاته، وتُعرف أكاديميته بالأكاديمية الوسطى. وصفه المؤرخون بأنه كان يستغل أي فرصة للنقاش لإبراز مواهبه الجدلية ولكي يبز الخصوم، في كل قضية يقع النزاع حولها. منهجه في ذلك أن يأخذ بالقولين المتناقضين، لا ليبرز كذب الدعوى، وإنما لاستفزاز المزيد من التقصي والدراسة والبحث.

فترة الرئاسة هذه محورية؛ لأنه حوّل الأكاديمية فيها عن نهج أفلاطون مؤسسها بحيث أصبحت أكاديمية شكوكية، لأول مرة. وكان لديه ولدى زملائه في الأكاديمية موقف مخاصم لكل فيلسوف إثباتي يدعي معرفة بعض الحقيقة عن الطبيعة الحقيقية للأشياء. لا بد للشكوكي من خصم، وكان الخصم الأول في زمنه المدرسة الرواقية الإغريقية ورئيسها زينون، وقد تجلى الخلاف بصورة أوضح في طريقة التعليم. صاغ أرقاسيلاوس سلسلة من الحجج الموجهة خصيصاً ضد دعاوى الرواقيين المعرفية، وزعم أن مثل هذا الفيلسوف يدعي اليقين، لكنه ليس على يقين من دعواه، فكل المعلومات والمعارف التي نكتسبها عن طريق حواسنا يحتمل أن تكون غير موثوقة؛ لأنه لا يمكن أن نكون على ثقة تامة بالعقل، ولأننا لا نملك معياراً مضموناً لتمييز أحكامنا الصحيحة عن الخاطئة. وقد رفع أرقاسيلاوس شعار «لست على يقين من شيء، ولا حتى واقعة أني لست على يقين من شيء». واعتمد موقفاً يقوم على تعليق الحكم. العالم هو تمثلاتي، ولا شيء من إدراكاتنا الحسية أو تصوراتنا يضمن مشروعيتها الموضوعية.

فيما بعد، أثار الأكاديميون جدلاً حول ما أسموه «استعراض كلا الجانبين» في كل قضية، أي جانبي التأييد والاعتراض، وإظهار قوة كل جانب، وبالتالي لا يوجد سبب مقنع لقبول أي موقف. واستخدم آخرون الطريقة نفسها لاكتشاف أي جانب من القضية يمكن الدفاع عنه بشكل معقول. لكن جميع الأكاديميين اتفقوا على أن الرواقيين فشلوا في الدفاع بشكل كافٍ عن نظريتهم المعرفية، أي أنهم لم يظهروا أن المعرفة ممكنة.

ثم جاءت الأكاديمية الثالثة، ويسمونها أيضاً الجديدة، في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، وهي شكوكية أيضاً، وإن كانت قد تجاوزت موقف الوسطى. رئيسها هو قرنيادس، وهو أهم الأكاديميين، بالإضافة إلى أرقاسيلاوس، وقد عاش ما بين (214 – 126) قبل الميلاد، ويُعرف مذهبه باسم «الاحتمالية»، وهي في النهاية شكية ونسبية. ورغم كونه ممثلاً رسمياً للأفلاطونية فإنه كان ينفر أشد النفور من الوثوقية، وقد دخل في خصومة فكرية حامية مع الرواقيين مرة أخرى، تدور في الغالب حول مفهوم الحقيقة، والرغبة في هدم نظرية المعرفة الرواقية. ونفى قرنيادس وجود معيار للحقيقة، مؤكداً أن أي إدراك حسي يمكن أن نضع له تمثلاً مزيّفاً لا يمكن التفريق بينه والتمثل الصحيح، فنحن نرى تمثلاتنا للأحلام والهلوسة، وكذا تمثلنا لعالمنا الحسي، وكلاهما لا يمكن أن يوصف بالعصمة. واعترضوا على قول الرواقية بأن اللجوء إلى العقل هو الحل، بأنه لا يسلّم لهم، فالرواقية تعترف بأن تصوراتنا العقلية قامت على التجربة، والتجربة تردنا إلى الحس، والحس مشكوك في معطياته. كيف يمكن أن نصل إلى أي شيء إذا كان كل برهان يقوم على فرضية تحتاج إلى برهان؟! هنا سقط الاحتجاج بالمعيار.

ولأن الدليل على أي فرضية سوف يستند إلى معطيات الحس أو منطق العقل، وكلا هذين المصدرين غير موثوق، فلا يوجد معيار مضمون أو نهائي للمعرفة الحقيقية. هناك شك دائم في أي فرضية، وبالتالي في وجود المعرفة الحقيقية. نتيجة لذلك، قال الأكاديميون الشكوكيون إنه لا يوجد شيء مؤكد. أفضل المعلومات التي يمكننا الحصول عليها هي معلومات محتملة فقط، وسيتم الحكم عليها وفقاً للاحتمالات. ومن ثم أسس قرنيادس لنوع من نظرية التحقق ولنوع من الاحتمالية التي تشبه إلى حد ما نظرية المعرفة العلمية عند البراغماتيين والوضعيين في عصرنا.

وهاجم قرنيادس التصورات الدينية عند الرواقيين، وزعم أن تصورهم لطبيعة الله متناقض، وأن قولهم بأن الكون عاقل، لا يملك حجة حقيقية. وتشكك في دعواهم بأن عقل الإنسان مستمد من عقل كوني يحكم العالم، وقال إنهم بحاجة أولاً إلى أن يثبتوا أن عقل الإنسان لم ينتج عن الطبيعة، رغم أنه لا يتبنى أياً من الرأيين.

حكايات قرنيادس مع الرواقيين تحتوي على تفاصيل طويلة ومعارك لا تنتهي، لكن في هذه الإشارة ما يكفي. وسنختم الحديث عن قرنيادس بالقول إنه لم يكتب شيئاً لكنه كان يُدرّس تلاميذه قضاياه الثلاث: اليقين، ووجود الآلهة، والخير الأعظم. ويعترف له الحكماء بالفضل في أنه عالج مشكلة التسرع في إصدار الأحكام، والحق أنه كان مفيداً حتى للرواقيين الذين ردموا فجوات مذهبهم بسبب نقده اللاذع. رحل قرنيادس الذي قيل لا أحد بين أرسطو وأفلوطين أعظم منه، بعد أن ترك «نظرية في التحقق» ونوعاً من «الاحتمالية» يشبه إلى حد ما نظرية المعرفة العلمية للبراغماتيين والوضعيين في زماننا الحاضر.

أما الأكاديمية الجديدة فقد جنحت بالكامل في نهاية تطوافها صوب الانتقاء من الأفلاطونية والرواقية والأرسطية وبقية المذاهب الفلسفية السابقة، وفي القرنين الرابع والخامس اندفعت الأكاديمية نحو الأفلاطونية الجديدة. ثم أغلقت بأمر الإمبراطور جستنيان عام 529، وأعيد تأسيسها من جديد في عصر النهضة (1459 – 1521) بحيث أصبحت أرسطية مدرسية.

تحول الأكاديمية عن الدوغمائية الأفلاطونية إلى الشكوكية المطلقة، ثم تحولها في المرحلة الثالثة إلى الانتقائية كان النتيجة الطبيعية لصراع الأضداد، فالحاجة العملية لا بد أن تدفع الشكوكي مهما كان إيمانه بنظرية الشكوك إلى أن يختار، وإلا فلن يستطيع أن يعيش. الشكوكية الانتقائية هي مرحلة اكتمال ونضج كل مدرسة شكوكية.

* باحث سعودي

شاركها.
Exit mobile version