قطر وأمريكا

الدوحة – قنا

طوال أكثر من خمسين عاما، أرست دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية دعائم علاقة استراتيجية شاملة اتسمت بالثبات والتطور التدريجي، وباتت اليوم من أبرز نماذج التحالفات الثنائية في منطقة الشرق الأوسط والعالم، بارتكازها على أسس متينة من التعاون الوثيق متعدد الأوجه والمصالح المشتركة في مختلف الصعد، خاصة الدبلوماسية والدفاع والطاقة والاقتصاد.

ومنذ الإعلان عن تأسيسها رسميا في عام 1972، لم تنحصر العلاقات بين الدوحة وواشنطن في الأطر التقليدية للتعاون الدبلوماسي، بل غدت نموذجا متقدما لشراكة متكاملة تعكس حضورا فاعلا في الملفات الدولية التي تهم البلدين، بدءا بالدبلوماسية والسياسة الخارجية والوساطات السياسية ودعم الجهود الإنسانية الدولية، مرورا بالتعاون العسكري والدفاعي، ووصولا إلى مجالات حيوية كالطاقة والاقتصاد والاستثمار.

وقد بلغ هذا المسار أوجه بتصنيف دولة قطر حليفا رئيسيا للولايات المتحدة من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مطلع فبراير عام 2022، في خطوة تعكس عمق الثقة الاستراتيجية المتبادلة وتفتح آفاقا جديدة للشراكة الدفاعية الثنائية في مواجهة التحديات العالمية والإقليمية المتزايدة.

كما يعد “الحوار الاستراتيجي القطري – الأمريكي” آلية مؤسسية بالغة الأهمية في إدارة وتوجيه هذه الشراكة المتنامية. فمنذ انطلاقه في عام 2018، شكل هذا الحوار منصة منتظمة لبحث القضايا ذات الاهتمام المشترك وتعزيز التنسيق بين البلدين.

تناولت الدورة السادسة للحوار، التي عقدت في واشنطن في مارس عام 2024، طيفا واسعا من الملفات الحيوية التي تؤثر على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، إلى جانب توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، من بينها تعديل اتفاقية التعاون الدفاعي الثنائية، ومذكرة تعاون لتبادل البيانات البيومترية لتعزيز التعاون في مجالات إنفاذ القانون ومكافحة الإرهاب، فضلا عن بحث سبل توسيع الشراكة الاقتصادية والتجارية وتعزيز التبادل الثقافي.

وشملت المباحثات أيضا التحديات الإقليمية والدولية كالأوضاع في غزة، وأفغانستان، واليمن، وأوكرانيا، وسبل إيجاد حلول لها، فضلا عن قضايا استراتيجية أخرى كالأمن الغذائي العالمي، وتطوير التعليم، والتكنولوجيا الناشئة، وتغير المناخ، والتحول إلى الطاقة النظيفة.

وعكس البيان المشترك الصادر عن الدورة الأخيرة من الحوار التقاء الرؤى حيال العديد من القضايا العالمية الشائكة، كما تضمن إشادة أمريكية صريحة بدور قطر في دعم جهود الاستقرار الإقليمي والدولي، وضمان تدفق إمدادات الطاقة العالمية، وتقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين في مناطق مختلفة حول العالم، لا سيما في غزة وأفغانستان والسودان. فيما أكد الجانبان التزامهما بتعميق الشراكة الاستراتيجية القائمة، على أن تعقد الجولة المقبلة من الحوار في الدوحة.

على صعيد الجهود الدبلوماسية لحل القضايا الإقليمية والدولية العالقة، أضحت جهود الوساطة القطرية علامة فارقة في الساحة الدولية بشكل عام، وفي العلاقات الثنائية بين الدوحة وواشنطن بشكل خاص، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى قطر بوصفها شريكا لا غنى عنه في حل ملفات إقليمية تتطلب حساسية عالية وفهما عميقا لتعقيدات المنطقة، نظرا لشبكة علاقاتها الواسعة والمتوازنة في المنطقة، ونهجها الحكيم في التعامل مع القضايا المعقدة.

وظهر ذلك جليا في الدور الذي اضطلعت به الدوحة في محادثات السلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، والتي توجت بـ”اتفاق الدوحة” التاريخي في فبراير عام 2020، ممهدا الطريق لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، إذ لم يكن هذا الاتفاق مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل تجسيدا فعليا لثقة واشنطن في الدبلوماسية القطرية الرصينة والفعالة في دعم جهود تحقيق الأمن والسلم الدوليين.

ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر عام 2023، لعبت قطر دورا دبلوماسيا محوريا في جهود وقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، عبر تنسيق ثلاثي مع مصر والولايات المتحدة، توج أكثر من مرة بوقف مؤقت لإطلاق النار، كان آخره في يناير 2025 قبل أن يتم خرقه من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

ولم يقتصر الدور الدبلوماسي القطري على الساحتين الفلسطينية والأفغانية فحسب، بل امتد ليشمل ملفات إقليمية ودولية أخرى بالغة الحساسية، مثل العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران. ففي أغسطس عام 2023، نجحت دولة قطر في القيام بدور الوسيط بين واشنطن وطهران لإتمام صفقة تبادل للمحتجزين بين البلدين، وهو ما يعكس حجم الثقة التي توليها الولايات المتحدة للجهود القطرية في إدارة حتى أكثر الملفات الدولية تعقيدا.

وقد حظي هذا الإنجاز بإشادات واسعة من طهران وواشنطن وعلى الصعيدين الدولي والإقليمي، مما يؤكد فاعلية الدبلوماسية القطرية وقدرتها على تحقيق نتائج ملموسة في أصعب الظروف.

هذه الأدوار المتعددة والمتوازنة التي تضطلع بها قطر عززت مكانتها كعاصمة دبلوماسية إقليمية مهمة ومركز ثقل في الجهود الدولية الرامية إلى الوساطة وتسوية النزاعات بالطرق السلمية، وهو ما يترجم بوضوح في طبيعة العلاقة الوثيقة التي تربطها بالولايات المتحدة، التي تنظر إلى شراكتها مع الدوحة من منظور استراتيجي بعيد المدى.

في الجانب الاقتصادي، تتمتع دولة قطر والولايات المتحدة بعلاقات تجارية واستثمارية قوية ومتنوعة، إذ تعد الولايات المتحدة أكبر مستثمر أجنبي مباشر في دولة قطر، ومصدرا رئيسيا لإمدادها بالمعدات الصناعية الحيوية، لا سيما في قطاعي النفط والغاز اللذين يمثلان عصب الاقتصاد القطري.

وتلعب الشركات الأمريكية دورا حيويا في تطوير البنية التحتية لقطاع الطاقة القطري، وخاصة في مجال صناعة الغاز الطبيعي المسال، الذي تحتل فيه قطر مكانة رائدة على مستوى العالم بفضل استثماراتها الاستراتيجية وتوسعاتها النوعية في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة.

ويقدر حجم الشراكة الاقتصادية بين البلدين بأكثر من 200 مليار دولار، وهو رقم يعكس حجم الاستثمارات القطرية الكبيرة في الولايات المتحدة والتي تساهم في توفير عشرات الآلاف من فرص العمل في مختلف الولايات الأمريكية، وفقا لبيانات صادرة عن الجهات الرسمية في كلا البلدين.

وفي المقابل، تستضيف السوق القطرية أكثر من 120 شركة أمريكية مملوكة بالكامل للجانب الأمريكي، بالإضافة إلى ما يقارب 640 شركة مشتركة بين مستثمرين قطريين وأمريكيين، مما يجعل الولايات المتحدة خامس أكبر شريك تجاري لدولة قطر من حيث حجم التبادل التجاري الكلي.

وتتوزع هذه الاستثمارات المتبادلة على قطاعات استراتيجية متنوعة تشمل الطاقة، والتكنولوجيا المتقدمة، وتطوير البنية التحتية، وهو ما يعزز جهود دولة قطر الرامية إلى تنويع قاعدتها الاقتصادية بما يتماشى مع الأهداف الطموحة لرؤية قطر الوطنية 2030. وتؤكد هذه المؤشرات الاقتصادية القوية على عمق الثقة المتبادلة والفرص الاستثمارية الواعدة التي تمثل ركيزة أساسية في مسار الشراكة الاقتصادية المتينة بين البلدين.

وفي ميدان التعليم والثقافة، تتبوأ دولة قطر مكانة مرموقة كمركز إقليمي للعلم والمعرفة، حيث تستضيف المدينة التعليمية في الدوحة فروعا لعدد من أعرق الجامعات الأمريكية، مثل جامعة جورجتاون في قطر، وجامعة كارنيجي ميلون في قطر.

هذا التعاون الأكاديمي يساهم بشكل فعال في تعزيز التبادل العلمي والثقافي بين الشعبين، ويلعب دورا هاما في إعداد جيل جديد من الكفاءات القطرية الشابة وتزويدهم بالمهارات والمعارف اللازمة وفقا لأعلى المعايير الدولية، وهو ما يخدم أهداف بناء اقتصاد قائم على المعرفة الذي تعتبره قطر حجر الزاوية في تحقيق رؤيتها الوطنية 2030.

وفي سياق الجهود المستمرة لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية، تكتسب زيارة فخامة الرئيس دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الصديقة إلى الدوحة أهمية خاصة كخطوة محورية نحو ترسيخ أطر التعاون المشترك في مختلف المجالات الحيوية.

وتأتي هذه الزيارة في توقيت دقيق تشهد فيه المنطقة والعالم العديد من التحديات والتحولات، وتسعى فيه الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم تحالفاتها الإقليمية وتعزيز علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص في مجالات التعاون الدفاعي، وتوسيع نطاق الشراكة الاقتصادية، وتبادل وجهات النظر حول القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.

تحمل هذه الزيارة في طياتها دلالات استراتيجية عميقة، حيث تعكس التزام الولايات المتحدة بتعميق علاقاتها مع دولة قطر، التي تعتبرها شريكا موثوقا به وفاعلا في المنطقة. كما تشكل محطة هامة لتعميق الحوار الاستراتيجي بين الدوحة وواشنطن، وتأكيد الالتزام المشترك بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية القائمة بين البلدين.

ومن المتوقع أن تسهم هذه الزيارة في تعزيز آليات التنسيق المشترك بين البلدين في مواجهة التحديات الإقليمية المتزايدة، وتوسيع آفاق التعاون الثنائي في قطاعات حيوية كالطاقة، والتعليم، والتكنولوجيا المتقدمة. كما ينظر إلى هذه الزيارة كفرصة لفتح قنوات جديدة لزيادة حجم الاستثمارات المتبادلة، وتعزيز التبادل الثقافي والعلمي بين شعبي البلدين، وتعزيز مكانة دولة قطر كوسيط إقليمي فاعل، وفي دعم جهود تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة ككل.

وفي المحصلة، تظهر العلاقات القطرية الأمريكية تطورا لافتا يعكس نضجا استراتيجيا قائما على الثقة، وتعدد المصالح، والقدرة على التعاون لمعالجة التحديات الإقليمية والدولية المعقدة. ومع استمرار التحديات العالمية وتزايد الحاجة إلى وجود شركاء موثوقين وقادرين على العمل المشترك، تواصل الدوحة وواشنطن العمل بكل جد وإخلاص لترسيخ هذه العلاقة المتميزة كنموذج للتحالف القائم على الاحترام المتبادل والسعي المشترك لتحقيق المصالح المشتركة.

شاركها.
Exit mobile version