مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع… في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في مصر تراوحت قراءات المثقفين والأدباء ما بين الرواية والشعر؛ خصوصاً الشعر الأميركي بآفاقه الكثيرة التي لا تزال في حاجة إلى مزيد من الاكتشاف، كما شملت القراءات الجوانب المنسية والمهمشة من التاريخ، فضلاً عن كتب السيرة الذاتية وعلاقتها بالفلسفة، وكذلك الكتب التي تتناول الأدوار المتعددة للنخبة المثقفة وأقنعتها التي تراوح دائماً ما بين الخفاء والتجلي.

أحمد الخميسي: مكتبة متنقلة لبيع الأرض والسماء

في البداية، يشير الكاتب أحمد الخميسي إلى تنوع قراءاته ما بين اللغة والأدب والسياسة، ففي عالم الأدب استمتع برواية «المكتبة المتنقلة» للروائي الأميركي كريستوفر مورلي الذي توفي عام 1958، وفيها نقرأ بروح الفكاهة العذبة حكاية «ميفلين» العجوز الذي عشق الكتب وأُغرم بتقديمها للآخرين فراح يجوب القرى بعربة خشبية محملة بمكتبة كاملة يجذب الناس إلى متعة القراءة. يقول الكاتب على لسان ميفلين: «إننا عندما نبيع كتاباً لرجل فنحن نبيعه حياة جديدة بأكملها، الحب، والصداقة، والفكاهة… السماء والأرض بأكملهما موجودان في الكتاب».

ويشير الخميسي كذلك إلى كتاب «اختلاق إسرائيل» للكاتب البريطاني كيث وايتلام الذي يفنّد فيه الكثير من المعلومات التاريخية التي تربط الماضي بالحاضر فيما يتعلق بالأسس التي قامت عليها دولة إسرائيل، مؤكداً أنه «إذا نظرنا من منظور أطول زمناً، فان تاريـخ إسرائيل الـقـديم يبدو مثل لحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل». وتبقى في ذاكرة الخميسي كتاب يصفه بـ«ممتع» يحمل عنوان «أين ذهب المثقفون؟» للأكاديمي المجري فرانك فوريدي المختص في علم الاجتماع، وفيه يعالج برشاقة ويسر قضية عزوف الناس عن القراءة في عصرنا حتى في بلدان مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا، مركّزاً من خلاله على موضوع اختفاء المثقفين. ويقول المؤلف إن من أسباب ذلك حصر دور التعليم والثقافة في حدود الأدوات التي تخدم أغراضاً عملية لا أكثر؛ مما أدى إلى التسطيح الثقافي، وإلى ما أطلق عليه الأكاديمي المجري «تهميش الشغف الفكري»، فلم يعد للمثقف دور في مجتمعاتنا المعاصرة. ويضرب مثالاً على ذلك من فرنسا قائلاً: «إن المثقفين الفرنسيين الآن، مقارنة بسارتر، يبدون مجرد تكنوقراطيين هزيلين». ويطرح كتابه بقوة سؤالاً أساسياً: أين اختفى المثقفون بالفعل؟ ولماذا؟

سارة حواس: «شاعرة في الأندلس» تبحث عن هوية فلسطينية

وتركزت قراءات المترجمة والأكاديمية الدكتور سارة حامد حواس على الشعر الأميركي الحديث، لا سيما أرشيبالد ماكليش، وتيد كوزر، وتشارلز رايت، ودابليو إس مروين، وكونراد أيكن، وچيمس رايت ويوسف كومنياكا، وغيرهم ممن كتبت عنهم في كتاب جديد سوف يصدر لي قريباً بعنوان «ولاؤهم للروح: عشرون شاعراً أميركيا حازوا حائزة بوليتزر» بالتزامن معرض القاهرة الدولي للكتاب.

وفي النصف الثاني من العام، شملت قراءات حواس الكثير من الروايات التي توقفت عندها بشغف، مثل رواية «صاحب الظل الطويل» لچون ويبستر وهي من ترجمة بثينة الإبراهيم والصادرة عن «منشورات تكوين» ورواية «النباتية» لهان كانغ التي حازت جائزة نوبل في الآداب لعام 2024، ورواية «رحلات في غرفة الكتابة» لبول أوستر الصادرة عن دار «التنوير». أما عن الكتب التي تتناول موضوع الكتابة بصفة عامة، فأحببت كتاب «كيف كانوا يكتبون» الصادر عن دار «المكتبة العلمية»، وهو كتاب ألَّفه مجموعة من الكتَّاب لم يذكرهم الكتاب، وقام بترجمته عادل العامل، ويتناول تجارب الكتَّاب في كتاباتهم من شكسبير إلى هوراكامي، وهو عمل ثري وملهم وأرشحه لأي كاتب مهتم بتجارب الآخرين.

أما عن الكتاب الذي توقفت عنده كثيراً لسارة حواس وخلق حالة لا تُنسى من الجمال والبهاء، فهو «شاعرة في الأندلس» للشاعرة الأميركية – الفلسطينية ناتالي حنظل، ترجمة الشاعر السوري الدكتور عابد إسماعيل وصادر عن دار «التكوين» وهو كتاب يمزج الشرق بالغرب، والحب بالفقد، والضياع باستكشاف الذات، والبحث عن الهوية التي ضاعت في سبر أحداث تحدّها جغرافيات مختلفة، حيث جاءت الشاعرة من فلسطين إلى نيويورك، ثم تذهب إلى الأندلس، التي أقامت فيها نحو عام.

وتضيف حواس: «هو من أكثر الدواوين التي أثَّرت فيَّ ومست قلبي؛ شعور بالاغتراب ممزوج بالألم والحب، شعور بالقوة والانتصار برغم الفقد والتيه، مشاعر إنسانية حقيقية كتبتها ناتالي حنظل كما لو كانت تكتب نوتة موسيقية».

خالد عزب: التاريخ المنسي لأهل الجنوب

ويتوقف المؤرخ والباحث في الدراسات الأثرية الدكتور خالد عزب عند كتاب مثير يكشف جوانب مهملة في البحث التاريخي في مصر ألَّفه الباحث النابغة أمير الصراف يحمل عنوان «منقريوس بن إبراهيم… وزير ومباشر همام الهواري أمير صعيد مصر»، وصدر عن دار «المرايا» بالقاهرة. ويتساءل الدكتور محمد أبو الفضل بدران في مقدمة الكتاب: «هل يطوي التاريخ صفحات عمداً ويُظهر أخرى؟ لماذا يغفل التأريخ صانعي الأحداث الفعليين وأدوارهم المؤثرة، ويمضي في تمجيد المنتصر وينسي المهزومين؟».

يتابع عزب: يسلط الكتاب الضوء على التاريخ المنسي لصعيد مصر وإقليم الجنوب من خلال أحد أهم أفراد رجال الإدارة القبطية في صعيد مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو منقريوس بن إبراهيم المكنى في بعض وثائق وحجج المحاكم الشرعية، بـ«بولس منقريوس» وكان وزير الأمير همام بن يوسف بن محمد وذراعه اليمنى في الإدارة. ويذكر المؤلف أن التحاق منقريوس بإدارة همام، زعيم قبيلة هوارة، تزامن مع تولد فكرة الدولة المستقلة في صعيد مصر، والموازية للسلطة المركزية في القاهرة، ذات الجناحين المتمثلين في الوالي العثماني وشيخ البلد الذي كان منصبه في حوزة المماليك.

حسين محمود: مشاهد سيرة ذاتية من ذاكرة مثقوبة

ومن أبرز ما قرأه الدكتور حسين محمود، أستاذ الأدب الإيطالي، عبر 2024 كتاب لمارتا نوسباوم بعنوان «ليس للربح»، ترجمة فاطمة الشملان، لافتاً إلى أنه يناقش أهمية الدراسات الإنسانية للديمقراطيات. قرأت أيضاً كتاب «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» لإيتالو كالفينو، ترجمة دلال نصر الله، وفيه يقدم الكاتب الإيطالي الأشهر رؤيته حول ضرورة إعادة قراءة أمهات الكتب في مرحلة النضج، وإعادة اكتشافها من جديد وهناك كذلك، كتاب «العلم الجديد» لجان باتيستا فيكو، ترجمة أحمد الصمعي، في فلسفة التاريخ، والذي يقسم فيه التاريخ إلى ثلاث مراحل، مرحلة الأرباب، ثم مرحلة الأبطال، وأخيراً مرحلة البشر.

ويتوقف الدكتور محمود عند كتابين لأحمد جمال الدين موسى، هما «شطحات منسية» وهي مجموعة قصصية، و«مشاهد تنبض من ذاكرة مثقوبة» وهي سيرته الذاتية، مشيراً إلى أن موسى أديب نبغ في سن متأخرة في فن الرواية، وهو غزير الإنتاج رغم هذا، فقد قضى معظم حياته في عمله الأكاديمي والوزاري، ولم يتفرغ للأدب إلا بعد تقاعده الذي وفَّر له الوقت والاسترخاء الكافي لكي يستعيد هوايته في الكتابة ويصدر العمل تلو الآخر.

ويشير الدكتور محمود إلى أن بعض إنتاج هذا المؤلف ليس وليد اللحظة، وإنما يعود إلى فترات مبكرة من حياته، خصوصاً المجموعة القصصية «شطحات منسية» التي جمع فيها نصوصاً كتبها في شبابه، رغم أنها تتميز بتحقيق الشروط الفنية لفن القصة القصيرة من حيث التقاط الحدث وتكثيفه والتعبير عنه بلغة سهلة التوصيل والتواصل. وتأتي السيرة الذاتية لأحمد جمال الدين موسى عبر مشاهد تتوالى من ذاكرة مثقوبة لكي يقدم لنا فيها نموذجاً حديثاً لأدب السيرة الذاتية في تنوع أحداثها وتقسيمها إلى موضوعات، تنقسم داخلياً بترتيبها الزمني، في تدفق جيد الإيقاع وسلس لغوياً، لكنه ليس تدفقاً حراً، بقدر ما هو تحت سيطرة المؤلف، المنضبط في بنيته السردية انضباطاً هندسياً.

مروة نبيل: الغموض الساحر في علم البيولوجي

وتوضح الشاعرة مروة نبيل أنه مثلما تحمل القراءات الجديدة فائدة، فإن إعادة القراءة تمنح المزيد من التأمل والتفكير واستشراف رؤى وآفاق متنوعة للكتابة. من هنا استرجعت هذا العام ديوان «المثنوي» لـجلال الدين الرومي، وأزعم أنه من الكُتب التي لا تمنح ما فيها في قراءة أولى أو ثانية، ولا تُؤخَذ إلا بقوة ما، فهو كتاب متعدد الطبقات، ومفتوح على نوافذ شتى للقراءة والتأويل، وهو ما يمنحه حيوية وامتداداً في الزمان والمكان. وشغفاً بالأدب اليوناني وبكازانتزاكيس، كان «تقرير إلى جريكو» تَتمة لقراءة مجمُوعتِه المُترجَمة.

وتعتبر مروة أن كتاب «الخاطرات – سيرة ذاتية فلسفية» للدكتور سعيد توفيق جاء مثل مكافأة بالنسبة إليها، فالكتاب في الواقع مصفوفة فائقة الأبعاد من حيث الأساليب والموضوعات. كما كانت قراءة كتاب «المفكرون الأساسيون – من النظرية النقدية إلى ما بعد الماركسية» لسايمون تُورمي إنجازاً مهماً بالنسبة لي، لا يكمُن في الموضوع فقط؛ بل في تصدير المُترجم أيضاً، والتعرُّف من جديد إلى الدكتور محمد عناني، والتساؤل بإعجاب شديد عن حقيقة العمر العقلي لهذا المُترجم الفَذ الذي أثرى المكتبة العربية بزاد أدبي متنوع له مذاقه الخاص.

توجَّه نظر مروة نبيل إلى أعمال «هان كانج» في الرُّبع الأخير من العام… قرأت «النباتية»، وهي رواية جيدة في سياق الأدب الكوري الراهن، لكن بالنسبة للكتابة عن الصدمات التاريخية، والكشف عن هشاشة الحياة البشرية؛ تحفظ الشاعرة مروة نبيل للروائيين الشرق أوسطيين قدرهم، وترى أنهم يمتلكون القدرة على كتابة أكثر تجريداً لما يدور حولهم، حيث نضجت التجربة الإنسانية في الشرق الأوسط إلى حد التعايش مع الصدمات والعنف.

وتضيف الشاعرة المصرية: «منحتني قراءة (الكتاب الأبيض) للمؤلفة نفسها تكهُّناً باختلاف بين فضاءي الشعر والرواية، وأنه سيظل اختلافاً جوهريّاً، مهما امتدت العلاقات بينهما، فالشاعر والروائيّ لا يتشابهان إلا في القدرة على كتابة العبارات المؤثرة، لكنهما يختلفان في كل شيء بعد ذلك».

وتتابع: «أما الفوز الأكبر في قراءات هذا العام فكان كتاب (البحث عن الوعي – مقاربة بيولوجية عصبية) لكريستوف كوتش، ترجمة د. عبد المقصود عبد الكريم، ذلك الكتاب الذي أظهر لي غموضاً ساحراً في علم البيولوجيا، وإمكانية لاستمرار بصيص من التأمل الروحي في هذا العالم».

هبة عبد العليم: كتابات تداوي جراح الحروب والديكتاتورية

من جهتها، تشير الكاتبة الروائية الشابة هبة عبد العليم إلى أنها أعادت قراءة الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ ضمن مشروع إحدى دور النشر لإعادة نشر أعماله، حيث تعقد عبد العليم ندوة شهرية تستضيف فيها أحد الكتاب المتميزين لمناقشة أحد أعمال محفوظ في لقاء مفتوح للجمهور، تتخلله نقاشات غالباً ما تكون شيقة، شديدة الموضوعية.، حتى يخيل لي أحياناً أننا بصد اكتشاف نجيب محفوظ من جديد.

كما قرأت كذلك للمرة الأولى ثلاثة أعمال للكاتب البريطاني من أصل ليبي هشام مطر. بدأت برواية «اختفاء»، ثم «شهر في سيينا» والتي تعدّ جزءاً من سيرته الذاتية ويحكي فيها وقائع شهر سافر فيه لبلدة سيينا الإيطالية لمشاهدة لوحاتها الفنية التي تنتمي إلى مدرسة فنية قائمة بذاتها، وذلك بعد أن أنهى كتابه السيري «العودة» الذي قرأته هبة باللغة الإنجليزية وترجمت بعض فصوله لشدة حماسها له.

وترى هبة عبد العليم أن كتابة مطر تتميز عموماً بصدق وأمانة لافتين للنظر، لا سيما على مستوى رصد تداعيات مأساة فترة حكم معمر القذافي الديكتاتوري لليبيا التي استمرت على مدار نحو أربعين عاماً، ومحاولة اللجوء للفن لمداواة آثار الجروح النفسية والتعافي منها.

كما استوقفها أيضاً رواية «لا شيء أسود بالكامل» لعزة طويل، والتي ترصد فيها آثار الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي بلبنان، كذلك أثر الثورة السورية الذي امتد إلى العمق اللبناني.

وتوقفت كذلك أمام بعض التجارب السردية المختلفة ككتاب «تلات ستات» والذي يرصد فيه الصحفيان محمد العريان وعمر سعيد سيرة ثلاث سيدات من العاملات في الجنس التجاري، وأيضاً كتاب «كرنفال القاهرة» للشاعر علاء خالد الذي يرصد فيه الملامح الشخصية لخريطة الوسط الأدبي بقاهرة التسعينات.

محمد البرمي: أسرار «الثورة الثقافية» روائياً

وتركزت قراءات القاص المصري محمد البرمي على رواية «الزمن المفقود» للكاتب الصيني وانغ شياوبو، بترجمة عن الصينية مباشرة للمترجم والباحث أحمد السعيد، ويرى أنها رواية تنتمي إلى الأعمال الإبداعية القصيرة؛ إذ تقع في 150 صفحة من القطع المتوسط وتتسم بالإيقاع السريع والأسلوب الساخر لشخصيات عدة تنتمي إلى البسطاء والطبقة المتوسطة في المجتمع الصيني في حقبتَي الستينات والسبعينات إبان ما عُرف آنذاك باسم «الثورة الثقافية».

وشملت قائمة البرمي في قراءات العام كذلك روايات «لا شيء نحسد العالم عليه» وهي عن الحياة في كوريا الشمالية للكاتبة باربرا ديميك والتي جاءت بمثابة وثيقة إبداعية تنقل بدقة وذكاء واقع دولة لا زلنا لا نعرف عنها الكثير، وقام بترجمتها الدكتور محمد نجيب. وأيضاً رواية «الشعب الدموي» لبول أوستر، حيث يسرد فيها بذكاء إبداعي لافت كيف تغلغل السلاح في البيوت الأميركية.

“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}

شاركها.
Exit mobile version