الريادة رحلة طويلة.. والبوصلة هي الفارق بين الوصول والتيه
في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير وتتعدد فيه فرص الريادة يبقى السؤال الأهم: كيف نحول الفكرة إلى مشروع يصمد ويزدهر؟
خلال عشرين عاما من العمل في الاستشارات والكوتشنق مع آلاف الرياديين ورجال الأعمال والشركات في لندن والخليج ودول أخرى استخلصت عشر خطوات أساسية رتبتها حسب أهميتها مع التأكيد على التعلم المنهجي وإدارة المخاطر والاستفادة من الشبكة الداعمة والحفاظ على الصحة الشخصية.
أولا: الجذر قبل الثمرة (الريادي)
كل مشروع ناجح يبدأ بريادي واع بذاته يعرف نقاط قوته وضعفه ولا يخدعه الحماس عن رؤية الواقع، فالريادي الناجح يملك القدرة على التعلم من كل تجربة كما فعل هوارد شولتز مؤسس ستاربكس الذي كان يعمل مديرا لمبيعات معدات المطابخ ولم يكن يعرف شيئا عن القهوة، لكن فضوله قاده لزيارة متجر صغير في سياتل وتعلم صناعة القهوة من أصحابه ثم سافر لإيطاليا ليتعمق أكثر، وهذا الوعي والفضول حوله من مدير مبيعات إلى بناء إمبراطورية بمليارات الدولارات.
المرونة النفسية ضرورة وليست رفاهية، ووفقا لدراسة الأستاذ شيخار غوش من هارفارد فإن 75% من الشركات الناشئة الممولة من رأس المال المخاطر تفشل بسبب استسلام المؤسس أمام الصعوبات وليس بسبب سوء الفكرة.
ثانيا: البوصلة الصحيحة (المشكلة)
المشكلة الواضحة هي بوصلتك الأولى، فكثير من الرياديين يقعون في حب أفكارهم دون أن يسألوا: هل يعاني أحد من هذه المشكلة فعلا وهل مستعد للدفع لحلها؟
برايان تشيسكي وجو جيبيا مؤسسا Airbnb بدآ بمشكلة بسيطة وهي عدم قدرتهما على دفع الإيجار، فاستضافا زوارا على ثلاث مراتب هوائية مقابل 80 دولار للشخص خلال مؤتمر في سان فرانسيسكو عام 2007، وهذه المشكلة البسيطة قادتهما لاكتشاف سوق تقدر قيمته اليوم بأكثر من 73 مليار دولار.
السوق الذي يستحق الجهد ليس الأكبر بل الأوضح، وهذا ما تؤكده استراتيجية بيتر ثيل: ابدأ باحتكار سوق صغير ثم توسع.
ثالثا: النافذة الزمنية (التوقيت)
التوقيت يتفوق على كل شيء في معادلة النجاح، فقد أثبت بيل جروس مؤسس Idealab بعد تحليل 200 شركة ناشئة أن التوقيت مسؤول عن 42% من الفرق بين النجاح والفشل متجاوزا الفريق والفكرة والتمويل.
يوتيوب لم يكن أول منصة لمشاركة الفيديو لكنه جاء في اللحظة المناسبة، بينما أفلست Webvan عام 2001 رغم فكرتها الجيدة لأنها جاءت مبكرا قبل نضج البنية التحتية، ونجحت نفس الفكرة بعد عقدين مع Instacart وAmazon Fresh.
رابعا: المحرك الفعلي (الفريق)
الفريق المكمل هو من يحول الخطة إلى واقع، ووجدت دراسة CB Insights بعد تحليل أكثر من 100 شركة فاشلة أن 23% منها فشلت بسبب الفريق الخاطئ، ولهذا يركز المستثمرون على الفريق قبل الفكرة.
خامسا: الحل الأصغر (المنتج الأولي)
المنتج الأصغر القابل للنمو فلسفة تعتمد على البدء بأبسط نسخة تحل جوهر المشكلة واختبارها بسرعة.
درو هيوستن مؤسس Dropbox صنع فيديو 3 دقائق ونشره على منتدى تقني فحصل على 75 ألف تسجيل في ليلة واحدة قبل أن يكتمل المنتج، وهذا الاختبار البسيط أثبت الطلب وجذب المستثمرين.
سادسا: إثبات الجدوى (السوق)
العملاء الذين يدفعون هم البرهان الوحيد على صحة فرضياتك، فالميدان ياحميدان والسوق وحاجته لفكرتك هو الدليل على إمكانية نجاحها.
معدلات الاستمرارية أهم من معدلات النمو، فشركة تكسب ألف عميل وتخسر 800 نتيجتها الصافية 200 فقط بينما شركة تكسب 300 وتحتفظ بـ 295 نموها أقوى، ويجب أن تعمل اقتصاديات الوحدة من البداية فإذا كانت تكلفة اكتساب العميل 100 ريال وهو ينفق 80 فقط فالنموذج معطوب.
سابعا: الوقود الذكي (التمويل)
التمويل سلاح ذو حدين فالكثير منه يفسد الانضباط والقليل يخنق النمو، واحصل على شريك يضيف لك مع المال الخبرة فهو الأفضل.
الشركاء الاستراتيجيون أهم من المال نفسه لأن المستثمر الجيد يفتح أبوابا ويعرفك بعملاء ويشاركك خبرته وهنا تأتي أهمية الشبكة الداعمة، بينما القاعدة الذهبية تنص على أنه إذا كان مدرجك المالي أقل من 12 شهرا فأنت في منطقة الخطر.
ثامنا: بناء النظام (العمليات)
العمليات القابلة للتكرار تحول المشروع من موهبة فردية إلى مؤسسة، وهذا ما فعله راي كروك عندما بنى نظاما يمكن تكراره في 40 ألف فرع فلم تصبح ماكدونالدز الأكبر لأن برجرها الأفضل بل لهذا السبب تحديدا.
الأتمتة ليست للشركات الكبيرة فقط فحتى المشاريع الصغيرة تستطيع أتمتة الفواتير والمتابعة وإدارة المخزون، بينما بناء ثقافة مؤسسية واضحة استثمار طويل المدى.
تاسعا: التكيف الدائم (المرونة الاستراتيجية)
المراجعة الدورية للخطط الاستراتيجية تمنع العمى الاستراتيجي وتساعد على إدارة المخاطر، ولهذا قال آندي جروف: البارانويا فقط تنجو.
نوكيا رفضت التحول للهواتف الذكية فانتهت بينما تحولت مايكروسوفت إلى قائدة في الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وهنا يظهر دور التعلم المنهجي فكل قرار فرضية تختبر وكل فشل معرفة تستثمرها.
عاشرا: الاستدامة (الربحية)
الربحية هي البقاء الفعلي، فقد كانت WeWork تقدر بـ 47 مليار دولار قبل أن ينكشف أنها تحرق المال بلا ربح فانهار التقييم إلى 3 مليارات.
التأثير الاجتماعي أصبح ميزة تنافسية والميزة التي يصعب نسخها هي الخندق الأقوى، وهنا تبرز أهمية الصحة الشخصية فقد اعترف إيلون ماسك أن أصعب سنواته كانت 2008 عندما كادت Tesla وSpaceX تفلسان معا وكاد ينهار نفسيا.
وأخيرا
النجاح الريادي منظومة متكاملة من القرارات الصحيحة في التوقيت الصحيح، والفرق بين من ينجح ومن يفشل في الالتزام بهذه الخطوات حتى عندما تصبح الأمور صعبة مع تنويع مصادر الإيرادات والاحتياطيات النقدية، فالريادة رحلة طويلة لا يكملها إلا من يملك الإصرار والبوصلة الواضحة.
