بنى الملك عبد العزيز مجداً لأمته بتوحيد أراضي جزيرة العرب وحماية محيطها، وتأسيس دولته الحديثة امتداداً لدولة أسلافه التي أعادت للعرب مكانتهم وهيبتهم بعد قرون من التفرق والشتات. كانت مهمته شاقة وعسيرة استلزمت تضحيات وواجهت تحديات، إلا أن المهمة الأصعب التي ورثها أبناء عبد العزيز حين توفي عام 1953 (1373هـ)، هي الحفاظ على استقرار البلاد.

كانت السنوات التي تلت وفاة الملك المؤسس مليئة بالتحديات والأزمات ومحاولات زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من ذلك كانت أعوام بناء لكثير من مؤسسات الدولة ومرافقها، وتوسعات للحرمين الشريفين وعمران للمدن، وتطور للتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، والطرق والمواصلات، وبناء الإنسان. كان الشغل الشاغل لقادة المملكة المحافظة على الأمن والاستقرار مع تنمية البلاد وتلبية حاجات إنسانها ونقلها إلى مصافِّ الدول المتقدمة، وكان لهم ذلك.

محاولات زعزعت الاستقرار خطَّطت لها حركات تحمل الآيديولوجيات اليسارية من ماركسية وشيوعية وبعثية وناصرية وقومية، لكنها تصف نفسها بالوطنية. كانت هناك عدة محاولات تستهدف نظام الحكم السعودي، جرى معظمها في الفترة ما بين 1954 و1969، ولنا أن نتخيل لو نجحت أي منها: كيف سيكون العالم اليوم من دون المملكة العربية السعودية؟ وكيف سيكون وضع الحرمين الشريفين؟ وما حال أسواق الطاقة وتأثير ذلك على الأمن والسلم العالميين؟ وماذا عن الأمن والاستقرار في الجزيرة العربية والخليج؟ خصوصاً عندما نرى ما حلَّ ويحلّ بدول محيطة، وتتوالى الأسئلة: ماذا لو لم يوحِّد عبد العزيز (الكيان الكبير)، كما يحلو للمؤرخ الأستاذ محمد حسين زيدان أن يسميه؟ وماذا لو لم يحافظ على هذه الوحدة أبناء عبد العزيز؟

لقد كانت هذه التوطئة ضرورية لإدراك دور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في خدمة الكيان الكبير لما يربو على سبعين عاماً، ومعاصرته ما مرَّت به البلاد من تحديات وتطورات، ومع ذلك لا يمكن لصفحات كهذه الإحاطة بسيرة ومسيرة الملك سلمان بن عبد العزيز، لكن التوقف عند بعض المحطات والمواقف قد يُلقي الضوء على جوانب من شخصيته ورؤيته، ويفسر ما وصلت إليه المملكة العربية السعودية تحت قيادته:شرف الخدمة.

خادم الحرمين الشريفين يرأس أعمال القمة الافتراضية لقادة دول مجموعة العشرين

لم تشر المصادر إلى تولي سلمان بن عبد العزيز أي منصب رسمي في عهد والده، وهو ينظر إلى الخدمة العامة على أنها واجب مَن تُسند إليه المسؤولية، «لأن الوطن أعطانا الكثير والكثير، لذا يجب ألا ننسى واجبه علينا». في حفل افتتاح مركز (الأمير) سلمان الاجتماعي في الرياض الذي أُقيم تحت رعاية الأمير سلطان بن عبد العزيز عام 1997 (1417هـ) ارتجل (الأمير) سلمان كلمة مؤثرة قال فيها:

«لم أسعَ في يوم من الأيام لأن أكون مكرما… لأنني أعتقد أن الإنسان عندما يتولى المسؤولية فهو يعمل واجباً عليه… أنا لم أقدم لهذه المنطقة أو لهذه البلاد شيئاً من عندي؛ بل كنت خادماً لملوك هذه البلاد، وكنت أتمنى أن أخدم والدي الملك عبد العزيز رحمه الله (قالها بتأثر واضح)، لكنني تمكنت من خدمة ديني وبلادي تحت إشراف الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد وولي عهده (الأمير) عبد الله، لذلك عندما طُرحت (الفكرة) وجاءني بعض الإخوة، رفضت فعلاً… وعندما جاءوني مرة أخرى وعرفت أن المشروع ليس تكريماً في مظهر؛ بل لإقامة عمل يخدم هذه المدينة وأبناءها المتكونين من كل أنحاء المملكة، وافقت، وهذا واجب عليّ…»، وهو هنا يشير إلى الفكرة التي جرى تداولها لتكريمه بمناسبة مرور 40 عاماً على توليه إمارة الرياض، وما تحقق من إنجازات. القصة طويلة وتفاصيلها كثيرة لكنَّ هذا الموقف يُظهر فلسفة خادم الحرمين الشريفين ونظرته إلى الخدمة العامة وأنها شرف للشخص المكلف بها، علاوة على كونها مسؤولية، وهو ما أظهره طوال خدمته المتصلة لدولته وقيادته من تفانٍ فيما أُوكل إليه من مهام وما تولاه من مناصب على مدى سبعة عقود. يقول شقيقه الأمير سلطان: «سلمان خير مَن حكم وجاهد وعمل في مدينة الرياض، لقد كان قوياً بحكمة، حازماً برحمة، وكان وفياً لخدمة دينه وولي أمره وما وُلِّي عليه من شعب، لذلك لا يُستكثر عليه أي أعمال يقوم بها أو قام بها فعلاً». هذا التفكير في الاستدامة والأثر الذي يبقى من خلال الاستفادة من المناسبات الاحتفائية أو التاريخية لم يكن الوحيد، فكثير من المشروعات القائمة اليوم في الرياض، مثل: مكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز الملك عبد العزيز التاريخي، من ملامح الفكر السلماني التنموي الذي يستثمر الفرص والمناسبات التي تتوفر للمدينة ويحوِّلها إلى مشروعات مستدامة.

الأمير والإمارة

ارتبط سلمان (الأمير حينها) بالرياض وارتبطت به، فهي المدينة التي عاش بين جوانبها صباه وشبابه، وعاشت في داخله طوال حياته، تولى إمارتها ثلاث مرات: الأولى تكليفاً بالنيابة عن أخيه نايف بن عبد العزيز، أمير الرياض وقتذاك، حيث أصدر الملك سعود أمراً ملكياً في 16 مارس (آذار) 1953 (11 رجب 1373هـ)، بتوليه إمارة الرياض بالنيابة عن الأمير نايف الذي سافر في رحلة علاجية. والثانية بعد استقالة الأمير نايف بسبب ظروفه الصحية، حيث صدر المرسوم الملكي يوم 18 أبريل (نيسان) 1955 (25 شعبان 1374هـ)، بقبول استقالة الأمير نايف وتعيين (الأمير) سلمان أميراً للرياض، واستمر في المنصب حتى استقالته في 21 سبتمبر (أيلول) 1960 (30 ربيع الأول 1380هـ). وفي 4 فبراير (شباط) 1963 (10 رمضان 1382هـ) صدر الأمر الملكي بتعيينه أميراً لمنطقة الرياض للمرة الثانية التي استمرت لمدة 50 عاماً نقل الرياض خلالها نحو آفاق غير مسبوقة عمرانياً واقتصادياً وثقافياً.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم بالرياض في نوفمبر 2022 (واس)

كانت إمارته للرياض تجربة فريدة في الحكم والإدارة والتنمية، فعلى مدى أكثر من نصف قرن ظل قريباً من قادة البلاد وشؤون الحكم، مطَّلعاً على الملفات ومشاركاً في اللقاءات ومبعوثاً للملوك، وتوسَّعت مهامه وازدادت وظائفه وكبرت مسؤولياته، وأصبح كبير مستشاري الملوك وعميد الأمراء وأمين سر الأسرة المالكة، يعرف أفرادها وتُحال إليه قضاياها ويحل مشكلاتها، وهذه في حد ذاتها مهمة ليست باليسيرة! وسأتوقف عند موقف رواه الدكتور عبد العزيز الثنيان الذي عمل عن قرب مع الملك سلمان عندما كان أميراً للرياض، يقول: «كنت ذات يوم في مكتب الأمير وأنا مدير تعليم الرياض، وكان في المكتب اثنان يعرضان للأمير المعاملات، وفجأة فتح الحارس باب المكتب ودخل أمير طويل القامة، حسن الصورة أحسبه في الـ40 من عمره، وحين رآه الأمير سلمان وقف على الفور ووقفنا وأنَّبه وقرَّعه ووبَّخه، واستمر في تأنيبه وتقريعه، ثم وضع الأمير سلمان يديه خلفه واستدار يمنةً ويسرةً، وعلا صوته، وقال: يا رجل أو تريد هدم المجد الذي بناه الملك عبد العزيز ورجاله؟! أو تريد تشويه الحكم والإمارة؟!

ووقف الرجل صامتاً فاغراً فاه مطأطئاً رأسه، والأمير سلمان يقرِّع ويؤدّب، ثم ختم الأمير سلمان حديثه بأن قال له: اخرج وأصلح ما خرّبت، وإياك أن تتصرف مثل هذا التصرف، واعلم أن خصمك ما تركك خوفاً منك، أو عجزاً عنك، ولكن تركك لأنه يعلم مكانتك ووجاهتك، ولكن اعلم أن مكانتك عندنا لا تسمح لك بالتعدي والتطاول. اخرج وأصلح ما أفسدت وإياك والعودة لمثل هذا التصرف، واعلم أن الشرع لأكبر رجل وأصغر مواطن، لا فرق بين هذا وذاك، ولا بين أمير وآخر، القضاء مطهرة، والقضاء للجميع. وخرج الرجل يندب حظه».

تلخص هذه القصة أسلوب سلمان في الحكم؛ فلا فرق عنده بين أمير وغيره، وأن الانتساب إلى الأسرة مسؤولية قبل أن يكون شرفاً.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم في مدينة الرياض 10 نوفمبر 2022 (واس)

كانت معرفة سلمان عميقة برجالات الدولة، وآليات عمل أجهزة الحكومة وبيروقراطيتها، إضافةً إلى تواصله مع مكونات المجتمع من العلماء والوجهاء والأعيان وشيوخ القبائل والمثقفين والأكاديميين والإعلاميين ورجال الأعمال وغيرهم. علاوة على سعة معرفته بالمسؤولين المدنيين منهم والعسكريين، على اختلاف مستوياتهم ومناصبهم ورتبهم ومراتبهم، ناهيك بدقته في معرفة الأسر والقبائل والأنساب والعلاقات الاجتماعية.

ذلك كله وغيره جعل تجربته في إمارة الرياض متفردة، وإنجازاته متميزة، مما جعل الملك فهد يختاره لرئاسة اللجنة التي أعدَّت مسوَّدة مشروع نظام المناطق الذي صدر عام 1992 (1412هـ)، وما مكَّنه، إضافةً إلى ما يتمتع به من بُعد نظر وعمق سياسي وفكر بنَّاء، من إدارة الكثير من الملفات والقضايا المهمة داخلياً وخارجياً، وكان بالنسبة لإخوته الملوك «رجل المهمات الصعبة». كأن نجاحاته في الرياض كانت مقدمة إلى ما حققه عند قيادته البلاد.

أروقة السياسة

مع كل المهام الموكلة إليه في الإمارة، لم يقتصر عمله على إدارته لعاصمة بلاده وشؤون أسرة الحكم والملفات الأخرى التي تتطلب جهداً استثنائياً وعملاً دؤوباً؛ بل كان سلمان حاضراً ومشاركاً في أدق المراحل السياسية التي مرت بها المنطقة.

عرف خلال رحلته الطويلة الأحزاب والحركات والتيارات السياسية في العالم العربي وغيره وتعرف إلى ارتباطاتها وخلفياتها وعقائدها وزعمائها، وتعمق في فهم الخريطة السياسية للدول وتوازنات القوى في العالم.

أعباء الحكم

انتقل من إمارة الرياض صاعداً في سلّم الحكم، فتولى ملف الدفاع عن البلاد في عام 2011 (1432هـ) خلفاً لشقيقه الأمير سلطان، وبدأ في إعادة تنظيم وهيكلة الوزارة والقوات المسلحة السعودية ووضع أسس استراتيجية الدفاع الوطني، وهو ما عُرف لاحقاً ببرنامج تطوير وزارة الدفاع.

ثم في عام 2012 (1433هـ) اختاره الملك عبد الله لولاية العهد خلفاً لشقيقه الأمير نايف، وعيَّنه نائباً لرئيس مجلس الوزراء مع احتفاظه بحقيبة «الدفاع»، فكان خير معين لمليكه، سانده في حماية مكتسبات البلاد وحفْظ أمنها واستقرارها في فترة التقلبات والقلاقل في المنطقة، وناب عنه في فترة مرضه متحملاً مسؤوليات الدولة وأعباء الحكم. وطوال مسيرته العملية رأس عدداً من الهيئات واللجان والجهات ونال كثيراً من الأوسمة.

خادم الحرمين الشريفين يرعى حفل تدشين وإطلاق مشاريع الرياض التنموية في فبراير 2019 (واس)

كل هذه التجارب والخبرات زادت من معرفته بأبعاد الأمن الوطني السعودي ومهدداته، كما جعلته ينظر نظرةً مختلفة إلى أهمية تماسك الأسرة الملكية كونها الضامنة لاستقرار الحكم ووحدة البلاد وأمن الدولة، وأن أبناء عبد العزيز وبعد ذلك أحفاده هم الأمناء على العرش.

من هنا كان سلمان يعرف أسس استقرار البلاد وأهمها ترتيبات مؤسسة الحكم، والتحديات التي تواجه نقل السلطة إلى جيل أحفاد عبد العزيز، فقام فور مبايعته ملكاً إثر وفاة الملك عبد الله يوم 3 ربيع الآخر (1436هـ)، 23 يناير (كانون الثاني) 2015، بتهيئة ثم تمكين جيل من الأمراء الشباب لتحمل المسؤولية.

أما الأمر الثاني، فكان التحديث السعودي الشامل؛ مواكبةً لمتغيرات المرحلة ومواجهةً لتحديات العصر.

حمل سلمان رسالة عبد العزيز وتعمقت في نفسه، مستشعراً أن مهمته ليس المحافظة على كيان الدولة وحفظ مصالحها فحسب؛ بل توفير احتياجات المجتمع السعودي وخدمة الأمة، تلك هي رسالة عبد العزيز التي حملها أبناؤه من بعده، وكان هاجس كل منهم أن يؤدي الأمانة كاملة كما تسلَّمها، لكن المفارقة أن كل ملك من أبناء عبد العزيز لم يُسلّم البلاد لخلفه كما تسلمها؛ بل أفضل من ذلك!

ودائماً ما تتجلى حكمة وحنكة الملك سلمان في الأوقات العصيبة والأزمات الطارئة. يقول الدكتور توفيق الربيعة: «إنه في أثناء جائحة كورونا وحينما توالى صدور قرارات وقف العمرة ثم الصلاة في الحرمين الشريفين، وشاهد الملك عبر التلفزيون الحرم فارغاً من المصلين حزن وقال: يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً في الحرم، يمكن للعاملين وموظفي شؤون الحرمين أن يجري فحصهم ويصلوا في الحرم، لكن يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً. كان مهتماً جداً بمثل هذه التفاصيل، مهتماً بألا يُرى الحرمان فارغين وأبوابهما مغلقة بالكامل فأحبَّ أن يضع استثناءً للاستثناء».

“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}

شاركها.
Exit mobile version