بعد مسيرة طويلة من الأزمات والفلسفة والأدب، يرحل الكاتب الفرنسي التشيكي ميلان كونديرا تاركاً وراءه إرثاً من الزخم الروائي والنقدي لمحبيه حول العالم.

كان كونديرا يجعل من القارئ بطلاً إضافياً في روايته، الأمر الذي يجعلك تقرأ ما يكتبه لمرات كثيرة دون ملل، ربما لأن أفكاره ولغته الأدبية تُدخلك عالمه مع شخصيات روايته من باب البطولة، وتجعلك حاضراً في كل المشاهد كأنك تشاهد ما تقرأه بكل مهارة.

توفي كونديرا عن عمر يناهز 94 عاماً، أمس (الثلاثاء)، وفق ما أعلنت الناطقة باسم «مكتبة ميلان كونديرا» في مدينة برنو التشيكية، حيث وُلد، لتكون محطته الأخيرة بعد سنوات من النفي، كأنه يقول كلماته الشهيرة: «لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم ولا تغييره إلى الأفضل ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم تعد هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة؛ ألا نأخذ العالم على محمل الجد».

وقالت أنا مرازوفا، لوكالة الصحافة الفرنسية: «للأسف، أستطيع أن أؤكّد لكم أنّ ميلان كونديرا توفّي أمس (الثلاثاء) بعد معاناة طويلة من المرض».

وُلد كونديرا عام 1929 لأبٍ وأمٍّ تشيكيين، كان والده، لودفيك كونديرا عالم موسيقى ورئيس جامعة برنو. كتب كونديرا الشعر في المرحلة الثانوية، وبعد الحرب العالمية الثانية عمل تاجراً وعازفاً على آلة الجاز قبل أن يتابع دراسته في جامعة تشارلز في براغ حيث درس علم الموسيقى والسينما والأدب وعلم الأخلاق. تخرج في 1952م وعمل بعدها أستاذاً مساعداً ثم محاضراً لمادة الأدب العالمي في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية.

في أثناء هذه الفترة نشر شعراً ومقالاتٍ ومسرحياتٍ والتحق بقسم التحرير في عدد من المجالات الأدبية.

التحق بالحزب الشيوعي في عام 1948، وتعرض للفصل هو والكاتب جان ترافولكا عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليهما، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970.

نشر في عام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظَ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف كونديرا ككاتب مهم إلا عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى «غراميات مضحكة».

أدت رواية كونديرا الأولى «النكتة»، وهي عمل من الفكاهة السوداء حول دولة الحزب الواحد التي نُشرت في عام 1967، إلى حظر كتابته في تشيكوسلوفاكيا بينما جعلته أيضاً مشهوراً في وطنه.

وجُرّد كونديرا من جنسيته عام 1979 بعد 4 سنوات من مغادرته بلده للإقامة في فرنسا. كما تعرّض للملاحقة خلال حكم النّظام السّابق في تشيكوسلوفاكيا، بعد طرده الحزب الشيوعي من صفوفه، وتحول إلى الخروف الضّال في عرف مثقّفي النّظام.

عند نجاحه في بلوغ فرنسا، أقام كونديرا في الطّابق الثلاثين من برج سكني في رين، غرب البلاد، التي وصفها بـ«المدينة البشعة حقاً». وكان يُدرّس الأدب المقارن في جامعتها كأستاذ زائر. وفي عام 1979 وقع عليه الاختيار للتّدريس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، فانتقل إلى العاصمة. وفي السنة نفسها، جرّدته تشيكوسلوفاكيا من جنسيته، فبادر الرئيس فرنسوا ميتران، إلى منحه الجنسية الفرنسية. وفي كتاب بعنوان «الشطط والشفقة»، وصف مؤلفه بوريس ليتفينوف، أسلوب تعامل النّظام التشيكي مع كونديرا بالقول: «ليس الكاتب من أدار ظهره لموطنه، وإنّما الوطن هو من وضع الكاتب خارج القانون، وأجبره على العمل السري». بعد خروجه من بلده، تمتع كونديرا بحرّية التعبير، وصار في وسعه، لأول مرة، أن يكتب دون خشية الملاحقة أو مقص الرقيب. وكانت رواياته قد لقيت شهرة عالمية بفضل ترجماتها إلى لغات كثيرة، لا سيما «كائن لا تُحتمَل خفّته» عام 1984 التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي بطولة جولييت بينوش ودانيال دي لويس.

وفي عام 1995 انتقل إلى الكتابة باللغة الفرنسية مباشرةً بعد تمكنه منها. وكان مما قام به مراجعته وتدقيقه كل رواياته المترجمة إلى الفرنسية من قبل. وهو أحد الأدباء القليلين الذين أعادت دار «غاليمار» الباريسية العريقة نشر كامل مؤلفاتهم، وهم على قيد الحياة، في سلسلتها الشهيرة «لا بلياد».

وفي عام 2019 ذهب سفير التشيك لدى فرنسا بيتر درولاك، ليسلّم الكاتب الكبير، شهادة جنسية وطنه الأم التي كان محروماً منها. وقال السفير في تصريح لصحيفة «لوفيغارو»، إنّ ما قام به هو «عمل رمزي مهم جداً وعودة رمزية لأكبر كاتب تشيكي باللغة التشيكية». وقدّم السفير اعتذار شعبه للكاتب الذي تعرض خلال سنوات منفاه لكثير من حملات الهجوم.

بحضور زوجته فيرا هرابانكوفا، التي لعبت دوراً في ترتيب الاجتماع، استقبل كونديرا السفير الذي أوضح أنّ الكاتب يكره الطقوس والصّور، قائلاً: «كان اللقاء بسيطاً جداً مع الكثير من الحميمية والدفء الإنساني. وكان كونديرا بمزاج معتدل، وقد تناول شهادة الجنسية مني وقال: شكراً». وأضاف أنّ المبادرة جاءت من رئيس الوزراء أندريه بابيس، الذي سبق له أن زار كونديرا خلال وجوده في باريس لحضور مئوية الحرب العالمية الأولى. وفوجئ بابيس يومها بأنّ الكاتب الكبير صاحب رواية «المزحة» لم يستعد جنسيته التشيكية. وحسب السفير، فإنّ السبب توترٌ كان قائماً بين أوساط المسرحي والأديب التشيكي فاكلاف هافيل، وبين كونديرا، بسبب ترشيحات لجائزة «نوبل» التي لم يفز بها. واستمرت الجفوة حتى بعد وصول هافيل إلى الرئاسة.

على الرغم من حمايته الشديدة لحياته الخاصة، فقد أجرى عدداً قليلاً فقط من المقابلات وأبقى معلومات عن حياته الشخصية بعيداً عن التداول. اضطر كونديرا إلى إعادة النظر في ماضيه في عام 2008، عندما أصدر معهد جمهورية التشيك لدراسة الأنظمة الشمولية وثائق تشير إلى أنه في عام 1950، عندما كان طالباً يبلغ من العمر 21 عاماً، أخبر كونديرا الشرطة عن شخص ما في مسكنه. أُدين الرجل في النهاية بالتجسس وحُكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة 22 عاماً، وفق ما ذكرت وكالة «أسوشييتد برس» للأنباء.

دافع الباحث الذي أصدر التقرير، آدم هراديليك، عن التقرير بوصفه نتاج بحث مكثف حول كونديرا، وقال كونديرا إن التقرير كذب، وقال لوكالة الأنباء التشيكية (سي تي كيه) إنه يرقى إلى مرتبة «اغتيال كاتب».

في عيد ميلاده هذا العام، افتُتحت مكتبة مورافيا في برنو «مكتبة ميلان كونديرا» في أحد طوابقها، وعرضت جزءاً من مجموعته من نسخ المؤلف بعشرات اللغات التي تُرجمت كتبه إليها.

كان يترشح كونديرا مراراً للفوز بجائزة نوبل للآداب، لكنه لم يحقق ذلك.

وقال توماس كوبيتشيك، مدير مكتبة كونديرا، للتلفزيون التشيكي العام: «ليس الأدب التشيكي فحسب، بل فقد الأدب العالمي أيضاً واحداً من أعظم الكتاب المعاصرين، وأحد أكثر الكتاب ترجمة أيضاً».

وروت زوجته فيرا كوندروفا للإذاعة التشيكية أخيراً أن فكرة فتح مكتبة راودتها في الحلم قبل خمس سنوات. ورأت في المبادرة «خطوة تنطوي على دلالات رمزية، إذ إن ميلان وُلد في برنو ويعود إليها». وأضافت: «يمكنه أن يرحل (ذات يوم)، لكنه سيبقى حياً في برنو. سيأتي الناس للقائه. المنزل الذي وُلد فيه يقع على بُعد عشر دقائق من المكتبة».

وقال رئيس الوزراء التشيكي بيتر فيالا، المولود أيضاً في برنو، إن كونديرا كان قادراً على «جذب أجيال كاملة من القراء عبر جميع القارات» بعمله.

وأضاف فيالة على «تويتر»: «ترك وراءه أعمالاً روائية رائعة».

شاركها.
Exit mobile version