بعد سنوات من الصراع والحرب، تشهد مدينة الرقة شمالي سوريا جهوداً محلّية متزايدة لإعادة ترميم سورها التاريخي، وتأهيل آثارها التي تضرَّرت، بهدف الحفاظ على التراث الثقافي وإحيائه، وتمكين السكان من استعادة المعالم التاريخية.
وتقع مدينة الرقة، أو «الرافقة» كما تُعرف تاريخياً، على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وتبلغ مساحتها نحو 27 ألف كيلومتر مربع. غير أنّ عناصر تنظيم «داعش» أحكموا قبضتهم عليها نهاية عام 2013، قبل أن يُطردوا على يد «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في أكتوبر (تشرين الأول) 2017.
وبدأت عمليات ترميم السور الأثري في الرقة، العائد تاريخه إلى الحقبة العباسية (772 ميلاديا)، بعد تعرّضه لأضرار جسيمة نتيجة العمليات العسكرية والظروف المناخية. كما عمد عناصر ومسلحو تنظيم «داعش» الإرهابي، خلال سيطرتهم على هذه المنطقة الحضرية بين عامَي 2014 و2017، إلى حفر قسم من المواقع الأثرية بهدف سرقتها من جهة، وتحويل أقسام أخرى إلى نقاط عسكرية وسجون وأنفاق قتالية من جهة ثانية.
ويجري ترميم السور بجهود محلّية وتمويل من «مجلس الرقة المدني» وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، لحماية التراث الثقافي في مناطق النزاع. ووفق القائمين على عمليات الترميم، يهدف المشروع إلى إصلاح الأجزاء المتضرّرة من السور، بما في ذلك الأبراج والمداخل والطريق القديمة، باستخدام مواد بناء تقليدية مثل طوب اللبن، وقصبات القش، والقرميد الأحمر، والجصّ لربط الحلقات والفواصل.
تقول رئيسة هيئة الثقافة في «الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا»، سرفراز شريف، لـ«الشرق الأوسط»، إنّ المجلس التنفيذي، وبالتعاون مع «مجلس الرقة المدني» ومنظمات محلّية، يعمل منذ أشهر على ترميم مواقع أثرية عدّة في الرقة، من أبرزها سور المدينة وقصر البنات وباب بغداد والمتحف، وذلك ضمن خطة لترميم جميع المواقع الأثرية في إطار الحفاظ على تاريخها الحضاري.
ووفق سرفراز، يتألّف الفريق المُشرف على عمليات ترميم المتحف من مهندسين وعمال ومتخصّصين في الآثار، وتتابع: «أطلقنا المرحلة الرابعة من مشروع ترميم (سور الرقة الأثري)، التي تشمل ترميم البدنة رقم (6)، ومداخل السور، وبوابة شارع (المنصور)، ومدخل جامع (المنصوري)، وشارع 23 شباط، ومدخل المنطقة الصناعية»، مشيرة إلى أنّ كمية الآجر المُستخدم تُقدّر بنحو 110 أمتار مكعبة، و330 متراً مكعباً من اللبن الطيني، ومن المقرَّر أن يستمر المشروع مدّة 120 يوماً من تاريخ انطلاقه في 15 من الشهر الحالي.
مكان تاريخي يتحوّل لتصنيع السيارات المفخَّخة
وذكرت المسؤولة الكردية أنّ كمية القرميد التي فُكِّكت في القسم الجنوبي من السور منذ بدء عمليات الترميم، تُقدَّر بنحو 65 متراً مكعباً. ولفتت شريف إلى أنّ «القرميد القابل للاستخدام فُرز وجُمع لإعادة استخدامه، ثم فُكِّكت الحشوة التي قُدرت كمية الأجزاء التالفة والمتهالكة منها بأكثر من 40 متراً مكعباً»، وجرى ترحيل المخلّفات على مراحل، وتنظيف الموقع من الركام المحيط به.
وبعد الانتهاء من أعمال تفكيك القشرة القرميدية والحشوة، أُعيد تأسيس الحشوة الداخلية والقشرة القرميدية. وأضافت سرفراز: «بعدها أُحضِرت المواد اللازمة، وهي 50 متراً مكعباً من اللبن الطيني، و40 متراً مكعباً من القرميد لتلبيس الحشوة الداخلية»، بالإضافة إلى تأسيس جدران قرميدية محشوة بالجصّ بعرض 45 سنتيمتراً، مع التركيز على اختبار جودة الجص ليكون مطابقاً للمواصفات، «وترك فاصل بعمق 5 سنتيمترات بين الجدران القرميدية والحشوة الداخلية، وإنشاء فتحات تهوية تسمح بدخول التيار الهوائي لمنع الرطوبة الداخلية، وإنشاء دعائم كل 4 أمتار على امتداد الجدار القرميدي».
ويحيط هذا السور التاريخي بالمدينة القديمة بنحو 5 كيلومترات، ويبلغ ارتفاعه 6 أمتار، وقد تعرَّض لأضرار بالغة خلال السنوات الماضية، إذ دمَّر عناصر التنظيم جزءاً منه عبر فتح فوهات وممرات لربط الأحياء القديمة بمركز المدينة خلال المعارك القتالية، ما خلّف أضراراً جسيمة في جسم السور وأبراجه وسراديبه القديمة.
ونقل سكان من الرقة يعيشون في محيط السور أنّ عناصر «داعش» حوّلوا هذا المَعْلم التاريخي إلى مكبّ للسيارات المحترقة ومكان لرمي النفايات، إضافة إلى استخدامه موقعاً لإعادة تصنيع السيارات المفخَّخة. كما كانت تُباع على جانبيه آنذاك «غنائم الحرب».
وأوضحت شريف أنه أُعيد بناء الجملون، أحد أبرز معالم السور، من اللبن الطيني التقليدي، بطريقة مطابقة لبنائه القديم، بعد تخمير التربة وخلطها تحت إشراف خبراء ومتخصّصين محلّيين. وعن الكميات المستخدمة في هذه المرحلة، ذكرت أنها «بلغت أكثر من 10 أمتار مكعبة من اللبن، و120 متراً مكعباً من الطين، وبعد ذلك، طُليت الفواصل المتآكلة بين القرميد بسبب الرطوبة».
ويُعدّ سور الرقة من المعالم التاريخية المهمّة في سوريا، لكونه الجزء المتبقي من سور المدينة القديمة. ويربط هذا السور باب بغداد، الذي يقع شرق المدينة، بباقي الأبواب القديمة، وصولاً إلى ساحة الساعة ومركز المدينة وشوارعها العتيقة وأسواقها التاريخية النابضة بالحياة منذ سنوات.
يُذكر أنَّ المؤرّخ وعالم الآثار الراحل الدكتور محمد العزو، المتحدّر من مدينة الرقة، أصدر كتيباً بعنوان «الرقة ماضياً وحاضراً» عام 2021، تحدَّث فيه عن سور الرقة، مشيراً إلى أنه يأخذ شكل «نعل الفرس»، وأنه مبني على نمط سور مدينة بغداد، عاصمة الدولة العباسية. وقد بُني هذا السور في عهد أبي جعفر المنصور «القرن الثاني الهجري – القرن الثامن الميلادي». وأشارت الدراسات الأثرية إلى أنّ سور الرافقة شُيّد فيما مضى بشكل مضاعف، إذ كان ثمة سور داخلي وآخر خارجي، يفصل بينهما «ممر فصل»، وهو الجزء الذي يسمح بتحرّك الجنود لحماية الأسوار عبر أبراجها ومناراتها الشاهقة.
“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}