بعد انقطاع دام 1024 يوماً بين الرئيس الفرنسي ونظيره الروسي على خلفية الحرب الأوكرانية، أجرى إيمانويل ماكرون مكالمة مطولة مع فلاديمير بوتين مساء الثلاثاء.

وأفاد بيان قصر الإليزيه أن الاتصال استمر لأكثر من ساعتين، وتركز على ملفين أساسيين: البرنامج النووي الإيراني، وحرب أوكرانيا. ولم يكن الاتصال مفاجئاً، إذ أعلن ماكرون في 26 يونيو (حزيران) عزمه على التواصل مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، سعياً إلى «مقاربة مشتركة» بشأن الملف النووي الإيراني، انطلاقاً من مسؤولية خاصة تتحملها هذه الدول بصفتها ضامنة لمعاهدة حظر انتشار السلاح النووي.

ماكرون يستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمقر إقامته الصيفي في حصن بريغانسون أغسطس 2019 (د.ب.أ)

شرحت أوساط الإليزيه أن ماكرون تشاور مسبقاً مع نظيره الأميركي دونالد ترمب، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ومدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي. وبعد اتصاله ببوتين، لم يبقَ أمامه سوى التواصل مع الرئيس الصيني شي جينبينغ لإتمام جولته مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.

بالتوازي، يجري ماكرون اتصالات في إطار الترويكا الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا)، وأيضاً مع دول خارجها. ووفق بيان الإليزيه، فقد «ذكّر ماكرون بمسؤوليات الدول الدائمة، ولا سيما فرنسا وروسيا، نحو الملف النووي»، مشدداً على «ضرورة التزام إيران بمعاهدة حظر الانتشار، وتعاونها الكامل مع الوكالة الذرية، بما يسمح باستئناف عمل المفتشين دون تأخير».

كما أعرب ماكرون عن «تصميمه على التوصل إلى حل دبلوماسي دائم ومتشدد بشأن النووي الإيراني، والصواريخ، ودور طهران الإقليمي». وقرر الرئيسان «تنسيق الجهود والتواصل قريباً لمتابعة هذه المسألة». وقد اتفقت باريس وموسكو على الدعوة إلى «حل سياسي-دبلوماسي»، بحسب ما نقلته «روسيا اليوم».

دور جديد

تُبرز مبادرات ماكرون، ومنها اتصالاته بالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان والرئيس بوتين من جهة، وبالقادة الغربيين وعلى رأسهم ترمب من جهة أخرى، رغبته في لعب دور «صلة الوصل بين المعسكرين»، ببوصلة دبلوماسية تهدف إلى حل مستدام للحرب «الإسرائيلية – الأميركية – الإيرانية». وتأتي مبادرته في لحظة «فراغ دبلوماسي»، حيث لم تعقد محادثات ترمب الموعودة مع إيران، ولم تثمر اجتماعات مجلس الأمن عن نتائج.

صورة من قمر «ماكسار» تُظهر منشأة فوردو للتخصيب في إيران الثلاثاء (أ.ب)

كما نبهت مصادر الإليزيه إلى اقتراب انتهاء فاعلية القرار 2231 الذي يتبنى الاتفاق النووي لعام 2015 في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ما يستدعي التشاور حول تفعيل آلية «سناب باك» التي قد تعيد فرض ست حزم عقوبات أقرها مجلس الأمن قبل الاتفاق، وتم تعليقها لاحقاً.

وتنبع أهمية الاتصال ببوتين من علاقاته الجيدة مع السلطات الإيرانية، والروابط الاستراتيجية بين البلدين، ما يمنح موسكو قدرة محتملة على التأثير على موقف طهران، وربما دفعها نحو الليونة في الملف النووي، ورغم اكتفاء روسيا بالتنديد بالهجمات الإسرائيلية والأميركية على المنشآت النووية الإيرانية، فإنها تدعو لحلول «دبلوماسية – سياسية».

كما يُحتمل أن توافق موسكو على استعادة اليورانيوم الإيراني عالي التخصيب، وهو محور الخلاف الرئيس في خمس جولات تفاوض بين طهران وواشنطن؛ إذ تصرّ إيران على حقها في التخصيب مع استعدادها لتحديد نسبه، بينما ترفضه الولايات المتحدة كلياً، وفي الأسابيع الأخيرة، تبنت باريس السردية الأميركية بهذا الشأن.

من هنا تأتي أهمية تذكير بوتين بأن «من حق إيران الاحتفاظ ببرنامج نووي مدني»، وفق ما نقلته «روسيا اليوم». ولا ترفض أي من الدول الخمس هذا الحق، لكن التحدي يكمن في تحديد مستواه، وضمان رقابة دولية صارمة قد تتجاوز حدود التفتيش التقليدي.

أولوية التفتيش

منذ أيام، يشدد ماكرون على أمرين: الحؤول دون خروج إيران من معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وضرورة عودة المفتشين الدوليين لممارسة عملهم. وتؤكد باريس الحاجة إلى صورة واضحة حول وضع البرنامج النووي الإيراني، وهي نقطة محورية في محادثته مع بزشكيان قبل يومين. وقد أعلن التلفزيون الإيراني الأربعاء تعليق التعاون مع «الوكالة الذرية» بعد تصويت البرلمان، وموافقة مجلس صيانة الدستور.

وتوجه اتهامات للوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنها «أساءت» التعامل مع إيران، حيث حمّل وزير الخارجية عباس عراقجي الوكالة ومديرها غروسي «المسؤولية الكاملة» عن الوضع «السيئ» الحالي، ما يعكس فجوة عميقة بين المواقف الغربية وما تصر عليه طهران. وكشف الإليزيه أن بزشكيان عبر خلال اتصاله بماكرون عن «وجود مشكلة» مع الوكالة.

غروسي يصل إلى قصر الإليزيه في باريس… الأربعاء (أ.ف.ب)

أما الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، رغم تلميحات بعض المسؤولين الإيرانيين، فإن الرأي السائد في باريس أن طهران لن تقدم عليه، لكن التخوف الحقيقي مرده لاعتبار أن إيران قد تعمد إلى تطوير إيران برنامجاً نووياً عسكرياً سرياً، وهو ما تملك القدرات لتحقيقه. ولهذا، ترى المصادر الفرنسية أن «عودة المفتشين بصلاحيات أوسع» أمر أساسي، مضيفة: «أولى الأولويات هي عودتهم ميدانياً للحصول على صورة واضحة».

في هذا السياق، تقول المصادر إن بوتين أكد على ثلاثة مبادئ: التمسك بالمعاهدة، وإعادة بناء الثقة بين طهران والوكالة، والاستعداد للحوار مع جميع الأطراف، وهو عرض سبق أن قدّمه خلال حديثه مع ترمب.

وتقول باريس إن هدفها يقوم على التوصل إلى حلّ دبلوماسي يحظى بأوسع قدر من التفاهمات. ويبدو أنها تستشعر ضغط الزمن، وتخشى تصاعد لهجة الحرب من تل أبيب وواشنطن، وتريد إسماع صوت آخر غير الصوت الأميركي المهيمن حتى اليوم في أزمات وحروب العالم راهناً.

لكن، هل الدبلوماسية الفرنسية قادرة على التأثير فعلياً؟ حتى الآن، الجواب سلبي. غير أن ماكرون، الساعي للدفاع عن مصالح بلاده وأوروبا، ينطلق من اعتبارات تتعلّق بالأمن الجماعي، ومسؤولية الدول الخمس دائمة العضوية، ما يجعل مبادراته، ربما، أكثر قبولاً حتى لدى روسيا، رغم وصفه لها بأنّها «التهديد الأكبر للقارة العجوز».

“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}

شاركها.
Exit mobile version