ملحمة صمود حقيقية بين الضفة والقطاع

مشهد للمحرقة المستمرة في قطاع غزة

رام الله – محمـد الرنتيسي

بالكاد كان فجر العيد قد تنفس، عندما تداعت الأخبار الواردة من قطاع غزة، ومفادها ارتكاب جيش الكيان لمجازر مروعة ضد الإنسانية، فراحت نيران الحقد والإجرام تلتهم أنقاض غزة وخيامها، بفعل الصواريخ التي أطلقتها الطائرات الحربية المقاتلة، وتسببت في احتراق العشرات من الأطفال، الذين كانوا يروّحون عن أنفسهم في ساحة مدرسة دار الأرقم، بحثاً عن بقية من عيد، كانوا ينشدونها بين أهوال الركام، ليسقط على إثرها المزيد من الشهداء والجرحى.

غزة التي أتاها العدو على حين غرة، قاومت وصمدت، فجاءها بعد حين وعد من الله «إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون» وإذا بها تحقق نبوءة ومعجزة، بصبرها وجلد أهلها، حتى وهم في أتون النار الموقدة، المخضبة بالدماء الزكية. ثمة جرائم حرب ترتكب بشكل واضح وصريح، فغزة بدت كقطع الليل المظلم، ليلها كنهارها من فرط سوادها، وهي في عين الكيان كقطعة حطب ينبغي حرقها، وفي عيون أهلها نصب تذكاري للدماء والنزوح والتهجير.

ولا يمكن أن يكون الحديث عن غزة بغير طريقة، ذلك أن غزة حكاية الأسطورة، وملحمة صمود حقيقية وليست خيالية، تفوح رائحة القتل في غزة، لتصل إلى رنتيس، لكنها ليست كأي رائحة، هي أثر الشهداء الذي لا يزول، بل يفرض ديمومة عصية، تبقى عالقة كتعلق الذكرى في النفس، وأيما ذكرى.

في قرية رنتيس شمال غرب مدينة رام الله بالضفة الغربية، يستريح بضع من أهل غزة، في «استراحة محارب» فرضتها عليهم ظروف الحرب، بعد أن تقطعت السبل وأوصدت الأبواب، واشتعل جحيم الحرب، وحيل بينهم وبين أهليهم في غزة، لكنهم لا يشعرون بالغربة «كأنهم في غزة وزيادة» كما يقول أحدهم.

من بين هؤلاء، سيّد أبو عليان (أبو رمزي) هو في رنتيس والقلب في غزة، سنة ونصف وهو هنا لكنه بعيد هناك، يأتيه خبر استشهاد نجله أيهم، ولسان حاله يقول: «سأقطع هذا الطريق الطويل إلى آخري وإلى آخره.. وسأحتضن ابني الشهيد، قبل أن يضمه تراب الأرض» لكن عبثاً، فالاحتلال أغلق كل الطرق والمنافذ.

لم يتأخر أبناء رنتيس، عن فتح بيت العزاء للشهيد، فالمصاب واحد، وسرعان ما اكتظ المكان بالمعزين، الذين تجرعوا الجراح المصاحبة للصمود والمقاومة، وكان حرياً بهم أن يقرأوا تاريخ غزة، ليعرفوا لماذا كل هذا الصبر والجلد؟.. ولماذا يقدم أهل غزة أبناءهم فداء للوطن، ولماذا لا تستغرب عندما تسمع أبو رمزي يقول: «الحمد لله.. بعض أفراد عائلتي استشهدوا، وأولادي ليسوا أفضل منهم» بينما يقول أبو محمـد عليان: «تم قصف بيت عائلتنا وانهارت حجارته لكن عزيمتنا لم تنهر» ويقول آخر: «استشهد اثنان من أولادي، لكن نحن أفضل من غيرنا، هناك عائلات أبيدت بالكامل»!. وفي قطاع غزة، تؤكد الحرب الشعواء على الفلسطينيين أطفالاً وشباباً وعجائز، أن كيان الاحتلال لا يرى أهل غزة بشراً، وإنما عائقاً أمام مشروعه القائم على الإبادة والتطهير، فأصبحت المجازر بعدد الشهداء والجرحى والنازحين والمنازل والمدارس والمستشفيات المدمرة، وربما استطاع كيان الاحتلال تغليف صواريخه وقذائفه الملتهبة بخطاب تقبله العالم برهة أو بالكاد ابتلعه، لكن ليس بعد كل هذه المجازر، التي سحبت الإنسانية من تحت أقدامه، وجردته من قناعه.

شاركها.
Exit mobile version