الدوحة – قطر
الدوحة – قنا
تجابه العديد من دول العالم صعوبات وتحديات كبيرة في سبيل تقليل الانبعاثات الكربونية والعمل على تحقيق الحياد الكربوني حتى منتصف القرن الحالي، في الوقت الذي يشهد فيه العالم تغيرات مناخية متسارعة مع ضرورة الإيفاء بالالتزامات الدولية لاتفاقية باريس للمناخ، بينما تبرز جهود دولة قطر باعتبارها من أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم كحالة مميزة وفريدة من نوعها تعمل بنجاح لتحقيق الموازنة بين العمليات التنموية والاقتصادية، وضرورة الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية.
وفي السياق فإن البصمة الكربونية للفرد، تعرف بأنها كمية انبعاثات الغازات الدفيئة، خاصة ثاني أكسيد الكربون، التي ينتجها شخص واحد بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال نشاطه اليومي، مثل التنقل واستهلاك الطاقة والغذاء والسلع والخدمات التي يحتاجها لاستهلاكها، وتقاس عادة بوحدة الطن المتري من ثاني أكسيد الكربون سنويا، ويختلف متوسط البصمة الكربونية للفرد بشكل كبير عن حساب بصمة المجتمعات والمؤسسات والدول، قياسا على معدلات التنمية وأنماط الحياة والمستوى المعيشي.
ويتم حساب البصمة الكربونية من عدة مصادر عبر جمع البيانات وتسجيل كمية الاستهلاك للخدمات المنتجة أو المصنعة، ثم تحويل تلك البيانات إلى انبعاثات كربونية، ومن هذه المصادر استخدامات الطاقة المنزلية للكهرباء وغاز التدفئة والتبريد والإضاءة، كما تحسب من وسائل النقل واستعمال السيارات والطائرات والقطارات ووسائل النقل العام، ومن إنتاج ونقل واستهلاك الأطعمة وخاصة اللحوم ومنتجات الألبان، بالإضافة إلى إنتاج السلع والخدمات والانبعاثات الناتجة عن تصنيع المنتجات التي نشتريها مثل الملابس والأجهزة الإلكترونية وغيرها، وتتخذ قطر عدة خطوات لخفض بصمتها الكربونية من خلال مبادرات متنوعة في مختلف القطاعات، ومنها قطاعات الطاقة المتجددة، وقدرة الطاقة، بالإضافة لإدارة النفايات.
والتزاما بتعهداتها، فإن دولة قطر تعتبر من بين أكثر الدول التي تعمل على معالجة معدلات الانبعاثات الكربونية للفرد، فقد تبنت عدة استراتيجيات لتقليل الانبعاثات وتحقيق التنمية المستدامة، من أبرزها الاستراتيجية الوطنية للتغير المناخي 2030، والتي أطلقتها وزارة البيئة والتغير المناخي في عام 2021، وتعد أول خطة شاملة من نوعها في المنطقة، وتشمل أهدافها: خفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 25% بحلول عام 2030، وتحسين كفاءة الطاقة في القطاعات الصناعية والطاقة والنقل، والتوسع في مشاريع الطاقة المتجددة، ومن مشاريع الطاقات الجديدة التحول التدريجي لمشاريع الطاقة الشمسية وفي مقدمتها مشروع محطة الخرسعة للطاقة الشمسية بقدرة 800 ميغاواط الذي افتتح عام 2022، حيث تساهم المحطة في تقليل حوالي 26 مليون طن من الانبعاثات الكربونية خلال عمر المشروع، ومن المشاريع التي تعمل على معالجة الانبعاثات الكربونية ما شرعت فيه /قطر للطاقة/ من تنفيذ مشاريع احتجاز الكربون من المنشآت الصناعية، وقد أعلنت عن هدف طموح باحتجاز أكثر من 11 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا بحلول 2035، كما عملت دولة قطر على استخدام الغاز الطبيعي كوقود انتقالي باعتباره خيارا أنظف مقارنة بالفحم والنفط، فهو وسيلة لتقليل البصمة الكربونية العالمية، ومن المشاريع التي يعتمد عليها في تقليل نسبة الانبعاثات الدفيئة، مشاريع التشجير وتجميل المدن من خلال عدة مبادرات التي تستهدف زراعة ملايين الأشجار وتوسيع المساحات الخضراء في المدن والمناطق المختلفة بغرض التوسع في المساحات الخضراء.
وعلى الرغم من عدم إمكانية تحديد موعد دقيق لتحقيق مبدأ “الحياد الكربوني” في أي بلد في العالم، إلا أن قطر ظلت تؤكد دوما التزامها بالتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون بشكل تدريجي، وهذا ما تؤكده باستمرار وزارة البيئة والتغير المناخي في مختلف المنابر الإقليمية والدولية وآخرها مؤتمر المناخ (COP29) بالاعتماد على التكنولوجيا والابتكار لتحقيق الأهداف المناخية دون التأثير على النمو الاقتصادي.
وفي هذا الإطار فإن دولة قطر كغيرها من بلدان العالم تواجه عدة تحديات في سبيل تحقيق الحياد الكربوني، منها على سبيل المثال معالجة طبيعة الاقتصاد التي تعتمد على الهيدروكربونات، و الاستجابة لمعالجة ارتفاع الطلب المحلي على الطاقة، خاصة في فصل الصيف بالاعتماد على الطاقات الجديدة والمتجددة، بالإضافة إلى معالجة محدودية موارد المياه، وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن دولة قطر تتميز بإمكانيات كبيرة تمكنها من أن تصبح نموذجا في التوازن بين إنتاج الطاقة لتلبية الطلب العالمي، وبين تحقيق التوازن البيئي المطلوب، وذلك عبر التمويل الحكومي السخي، والشراكات مع المؤسسات البحثية الوطنية والعالمية، كل ذلك مكن دولة قطر من تحقيق موقع ريادي على المستوى العالمي للإسهام في صياغة موجهات السياسة المناخية العالمية.
ويعتبر المجلس العالمي للبصمة الكربونية ومقره الدوحة، والذي هو نتاج لمبادرات المنظمة الخليجية للبحث والتطوير (جورد)، أول برنامج طوعي دولي لتعويض غازات الاحتباس الحراري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقد تم تأسيسه في العام 2016 وبدأ تنفيذ عملياته في عام 2019، ويدعم المجلس الانتقال إلى مستقبل منخفض الكربون من خلال إصدار أرصدة كربون لمشاريع تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة حول العالم، وقد حصل في شهر مارس من العام 2021 على الموافقة الكاملة في إطار برنامج تعويض الكربون وخفضه وهو البرنامج التابع لمنظمة الطيران المدني الدولي (الإيكاو) التابعة للأمم المتحدة، وتعتبر هذه الموافقة بمثابة الاعتراف بأن الإطار التنظيمي للمجلس العالمي للبصمة الكربونية لديه جميع العناصر التي تضمن خفضا حقيقيا ودائما للانبعاثات الكربونية الناتجة عن المشاريع المسجلة من قبل المجلس، كما أن الوحدات الكربونية المعتمدة الصادرة عن المجلس العالمي للبصمة الكربونية تعتبر ذات مصداقية عالية ومتوائمة بيئيا.
ومنذ إطلاق المجلس العالمي للبصمة الكربونية لأعماله تلقى العديد من طلبات التسجيل لمشاريع خفض البصمة الكربونية من العديد من الدول مثل تركيا والهند وجامايكا، وتشير بيانات إلى أن قائمة طلبات التسجيل تضمنت العديد من المشاريع من دولة قطر وعمان وصربيا وباكستان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية وإسبانيا والصين وبلجيكا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، فعلى سبيل المثال فقد تم استخدام وحدات الكربون الصادرة عن المجلس العالمي للبصمة الكربونية في تحقيق الحياد الكربوني لبطولة كأس العالم FIFA قطر 2022، وفي سياق ضمان عدم ازدواجية إصدار وحدات كربونية لنفس المشاريع يقوم المجلس العالمي للبصمة الكربونية بالتعاون مع البنك الدولي والجهات العالمية الفاعلة لإنشاء قاعدة بيانات عالمية تضمن الشفافية والمصداقية في عمليات التسجيل.
وفي ذات الإطار، فإن المجلس العالمي للبصمة الكربونية، كان قد أبرم في ديسمبر من العام 2024 اتفاقيتين مع كل من إس أند بي جلوبال، وبورصة تأثير المناخ سي أي إكس، من شأنهما إحداث تحول في سوق الكربون، عبر توفير سيولة معززة وضمان نزاهة السوق، حيث تهدف الاتفاقية الثنائية الأولى، الموقعة بين المجلس العالمي للبصمة الكربونية و”إس أند بي جلوبال” بشأن خدمات سجلات أرصدة الكربون إلى خدمة سوق الكربون من الجيل الجديد (GCC 2.0) الذي ينفذه المجلس، وتشكل بداية فصل جديد من التعاون بين الجانبين لتعزيز خدماته لسوق الكربون، وبموجب الاتفاقية، ستزود “إس أند بي جلوبال” المجلس العالمي بخدمات السجل الشامل للتعامل مع أرصدة الكربون المعتمدة وشهادات الطاقة المتجددة المعتمدة، من خلال منصتها للسجل البيئي، وتضمن هذه الشراكة نزاهة سوق الكربون والثقة فيه من خلال تتبع إصدار وتحويل وسحب وإلغاء أرصدة الكربون حصريا من خلال سجل المجلس، أما الاتفاقية الثانية، ثلاثية الأطراف، المبرمة بين المجلس العالمي للبصمة الكربونية، و”إس أند بي جلوبال”، وبورصة تأثير المناخ، فيتوقع أن يؤدي التعاون الاستراتيجي بموجبها إلى إحداث ثورة في سوق الكربون من خلال تزويد مطوري المشاريع بإمكانية الوصول السلس إلى المشترين العالميين وتعزيز السيولة، وحول هذا التعاون، قال الدكتور يوسف بن محمد الحر، رئيس مجلس إدارة المجلس العالمي للبصمة الكربونية، “نعتقد أن شراكتنا الثلاثية ستفتح لمطوري مشاريعنا مجالات جديدة للسيولة، مما يخلق فرصا بعيدة المدى لتوسيع مبادرات خفض الكربون ودفع تأثير بيئي ملموس”.
ولا تعتبر استضافة قطر للمجلس العالمي للبصمة الكربونية مكسبا بيئيا فحسب، بل تمثل استثمارا استراتيجيا لما تتمتع به من مكانة دولية مرموقة، وتنمية لاقتصادها الأخضر، وتعزيزا لقدراتها الوطنية في مجالات مستقبلية تتزايد أهميتها عالميا، ومن الفوائد المباشرة من وجود المجلس في قطر تعزيز دورها القيادي في الجهود الدولية لمكافحة التغير المناخي، وجعل قطر مركزا إقليميا وعالميا لصياغة السياسات والبرامج المتعلقة بخفض الانبعاثات الكربونية، وترفيع سمعة الدولة في المنصات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومؤتمرات الأطراف (COP)، مثلما أن وجود المجلس بالدوحة يعمل على تحفيز الاقتصاد الأخضر في قطر ويشجع الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة، ويعزز بيئة الابتكار في التكنولوجيا النظيفة من خلال شراكات دولية، ويدعم جهود الدولة في تنويع مصادر الاقتصاد بعيدا عن النفط والغاز تماشيا مع رؤية قطر الوطنية 2030، ويفتح المجال أمام الكوادر القطرية للمشاركة في مجالات التغير المناخي، المحاسبة الكربونية، وإدارة المشاريع البيئية وهو ما يوفر فرص تدريب وتوظيف، وبناء خبرات وطنية، مثلما أن المجلس العالمي للبيئة يستقطب إلى الدوحة مقرات ومكاتب إقليمية لشركات مناخية واستشارية وتقنية، وهو ما يشجع المشاريع والشركات في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا على تسجيل برامجها لخفض الانبعاثات، عبر تعزيز صناعة ائتمان الكربون، مما يجعل من دولة قطر مركزا لتداول أرصدة الكربون الإقليمية.
لقد ظلت المبادرات القطرية الفاعلة والرائدة لخفض تأثيرات الكربون قائمة، ومنها مبادرات قطر غاز التي تتبنى زيادة الوعي بأهمية تقليل الانبعاثات الكربونية، عبر تقديم أدوات لأفراد المجتمع لمعرفة وتقييم بصمتهم الكربونية، مثلما أن المجلس العالمي للبصمة الكربونية في قطر يعمل على تطوير أدوات قياس وتقييم البصمة الكربونية بالدولة، ويحث على تفعيل أسواق الكربون بشكل طوعي حتى يتم تمويل مشاريع خفض الانبعاثات، وتبقى جهود دولة قطر متصلة بغية تحقيق التوازن المطلوب بين معدلات النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية، وذلك من خلال اتخاذ خطوات محسوسة لخفض البصمة الكربونية والعمل على تحقيق الحياد الكربوني بحلول العام 2050.
ويحذر العلماء المختصون من أن استمرار ارتفاع درجات الحرارة التي تنتج عن الاختلال البيئي، سيؤدي إلى عواقب قاسية، مثل موجات الحر القاتلة وذوبان الجليد القطبي واختفاء الشعب المرجانية، إذا ارتفعت حرارة الكوكب بمقدار 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهي العتبة التي يقترب العالم من تجاوزها بسرعة، ففي الوقت الذي يطالب فيه المجتمع الدولي بضرورة الانتقال إلى الطاقة النظيفة ودعم الدول النامية في مواجهة آثار التغير المناخي، تبقى قضية التمويل العقبة الرئيسية أمام قمة الأمم المتحدة للمناخ (كوب 30) المقررة انعقادها في نوفمبر المقبل بمدينة بيليم الأمازونية في البرازيل.