بينما بدأ برلمانيون في الجزائر بتدبيج نص قانوني يُحمّل فرنسا «مسؤولية جرائمها في الجزائر» خلال الاستعمار (1830 – 1962)، توقع مراقبون لتطور التوترات السياسية بين الجزائر وباريس، «انطفاء» هذا المسعى مع ظهور بوادر انفراجة في العلاقات بين البلدين، على خلفية تصريحات للرئيس عبد المجيد تبون، أوحت بأن البلدين عازمان على طي الأزمة.

أعضاء لجنة قانون تجريم الاستعمار يتوسطهم رئيس البرلمان (البرلمان)

وكان قد تم يوم الأحد تشكيل «لجنة خاصة» بمقر البرلمان الجزائري لصياغة القانون المذكور تتكون من 7 نواب، وبدأت اجتماعاتها الاثنين، حسب مصادر حزبية، لكن لم يعلن البرلمان رسمياً أي شيء عن مهلة عمل «اللجنة»، ولا تاريخ إحالة النص على التصويت في جلسة عامة.

وأكد عضو «اللجنة» كمال بن خلوف عن حزب «حركة البناء الوطني» المؤيد لسياسات الرئيس، في أول نشاط لأعضائها، أن «خطوتنا لا تستهدف الشعب الفرنسي، وإنما هي إدانة للنظام الاستعماري الذي ارتكب أبشع الجرائم في حق الجزائريين»، مشيراً إلى أن «المصالحة الحقيقية مع فرنسا لا يمكن أن تتم دون اعتراف واضح وصريح بما جرى في الماضي الاستعماري»، عادّاً القانون الجاري الإعداد له، «خطوة أساسية لاستكمال مسار تصفية الاستعمار».

وشكل الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2022، «لجنة لمصالحة الذاكرتين»، تتكون من 6 مؤرخين من كل بلد، جرى تكليفهم بالبحث عن تسوية للنزاعات التاريخية بين البلدين، بهدف تجاوز إرهاصات الماضي المشترك الذي حال دون بناء علاقات عادية. والتوترات الحالية التي تمر بها العلاقات الثنائية، تعكس جيداً مدى صعوبة تحقيق مصالحة بين فرنسا ومستعمرتها القديمة.

اجتماع الإعلان عن لجنة لصياغة قانون تجريم الاستعمار (البرلمان)

وبحسب كمال بن خلوف، «يعد تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، خطوة ضرورية لاسترجاع الحقوق التاريخية والمعنوية للشعب الجزائري»، حسبما جاء في تصريحاته للإذاعة، مبرزاً أن مقترح القانون قيد التحضير «سيستند إلى معطيات تاريخية موثقة تثبت حجم الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي طيلة 132 سنة، من مجازر جماعية وتدمير منظم للهوية الجزائرية، إلى جانب التجارب النووية (أجرتها فرنسا في صحراء الجزائر بين 1960 و1967) التي خلفت آلاماً وكوارث بيئية لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم».

وأكد البرلماني أن النص «سيتضمن مواد قانونية صريحة تجرّم مختلف أشكال القمع والانتهاكات التي مارسها الاستعمار الفرنسي، بهدف إلزام فرنسا على الاعتراف بمسؤوليتها التاريخية ودفع تعويض للضحايا وعائلاتهم»، مبرزاً أن القانون المنتظر «ليس مجرد إجراء رمزي، بل هو مطلب شعبي يهدف إلى حماية الذاكرة الوطنية، ومنع أي محاولة لإنكار الجرائم الاستعمارية».

الرئيس الجزائري أعلن عن اتفاق مع نظيره الفرنسي لتجاوز التوترات الحالية (الرئاسة)

وعن الترتيبات التي ستتبع لإتمام النص قبل التصويت عليه، قال بن خلوف إن نواب «المجلس الشعبي الوطني» (407 أعضاء) «يدعمون المسعى بشكل واسع، ويتعاملون مع هذا القانون كأولوية وطنية»، مؤكداً أنه «سيتم تعزيز النص ليصبح قوياً وملزماً من الناحية التشريعية»، عندما يحال، على النقاش أولاً في «اللجنة القانونية» بالبرلمان تمهيداً لإحداث تعديلات عليه.

وأوضح أن بلاده «لم تتوقف عن المطالبة باسترجاع حقوقها التاريخية من فرنسا، سواء عبر الخطاب الرسمي، أو من خلال المساعي الدبلوماسية، وعلى هذا الأساس، سيكون هذا القانون رسالة واضحة إلى فرنسا والعالم بأن الجزائر لن تتنازل عن حقها في الحقيقة والاعتراف بالجريمة الاستعمارية، والاعتذار عنها والتعويض عن أضرارها».

وتضم «لجنة صياغة قانون تجريم الاستعمار» 6 نواب آخرين من «جبهة التحرير الوطني»، و«حركة مجتمع السلم»، و«التجمع الوطني الديمقراطي»، و«جبهة المستقبل»، بالإضافة إلى كتلة المستقلين، وما يُسمى «تكتل النواب غير المنتمين».

اعتراف ماكرون بسيادة المغرب على صحرائه فاقم الخلافات بين فرنسا والجزائر (أ.ب)

وبمناسبة إنشاء «اللجنة»، صرح رئيس البرلمان إبراهيم بوغالي، أن «قضية التاريخ في بلادنا لا نطرحها ورقة للضغط والمساومة بخلاف الاعتقاد السائد، بل هي بمثابة وفاء لتضحيات شعبنا وواجب أخلاقي وتاريخي»، موضحاً أن تبون «كان صريحاً عندما قال إن ملف الذاكرة لا يتآكل بالتقادم أو التناسي، ولا يقبل التنازل والمساومة». ويقصد بوغالي أن بلاده ليس في نيتها توظيف «قانون تجريم الاستعمار» لإزعاج فرنسا.

ويطرح مراقبون تساؤلات حول هامش الحرية المتاح للبرلمان للذهاب إلى آخر الترتيبات فيما يخص هذا القانون، بعد أن أعلن الرئيس تبون السبت، في مقابلة صحافية بثها التلفزيون العمومي، عن وجود إرادة لدى رئيسي فرنسا إيمانويل ماكرون، والجزائر لطي الأزمة.

وفي تقدير المراقبين أنفسهم، سيخلف الإبقاء على المسعى، انطباعاً بأن الجزائر لا تريد التخلي عن التصعيد مع فرنسا، بينما نبرة التهدئة في كلام تبون أكدت أنه اتفق مع الرئيس ماكرون على مخرج من الأزمة، التي نشأت الصيف الماضي بإعلان باريس انحيازها للمغرب في نزاع الصحراء.

الرئيس الفرنسي جاك شيراك في مارس 2007 (أ.ف.ب – أرشيفية)

وقد تم تقديم «قانون تجريم الاستعمار» عندما بلغت الأزمة ذروتها، ولم يكن ليعرض لولا حصول البرلمان على دعم سياسي من أعلى السلطات في البلاد، حسب المراقبين إياهم.

وأكثر ما يلفت في هذه المبادرة، أنها أخذت شكل «مقترح قانون»، وليس «مشروع قانون». الأول يأتي من برلمانيين، أما الثاني فتصدره الحكومة التي تحاشت أن تبادر به هي، تفادياً لمزيد من التصعيد مع فرنسا، لذلك يتوقع أنها توجه إيعازاً للبرلمان، بوقف هذه المبادرة عندما تظهر مؤشرات تهدئة جديدة مع فرنسا.

الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة (إعلام جزائري)

ويشار إلى أن مبادرة مماثلة قامت عام 2005 رداً على قانون فرنسي يتضمن تمجيداً للاستعمار في شمال أفريقيا خلال القرنين الـ19 والـ20. وتم إطلاق خطوات لإصدار مقترح قانون لتجريمه الاستعمار، لكن عندما اتفق الرئيسان الراحلان عبد العزيز بوتفليقة وجاك شيراك على إنهاء الخلاف سياسياً، تمت التضحية بالنص، ووضع في الأدراج من دون أن يخلف أي رد فعل.

“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}

شاركها.
Exit mobile version