عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «ابن خلدون – فلسفته الاجتماعية» لعالم الاجتماع الفرنسي جوستون بوتول، الذي صدرت الطبعة الأولى منه 1930، الطبعة الجديدة من ترجمة غنيم عبدون، ومراجعة مصطفى كامل فودة، وتعدّ أحد أهم الدراسات المعاصرة حول أسرار عبقرية هذا العالم والفيلسوف والمؤرخ العربي الذي ولد بتونس، وعاش في الفترة من 1332 حتى 1406م.

يتضمن الكتاب تأملات متفرقة من جانب بوتول حول أهمية آراء ابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع الحديث، وأيضاً دوره كمؤرخ، حيث يقطع المؤلف في كتابه بأنه لولا ما كتب ابن خلدون في التاريخ لجهلنا اليوم ما كان عليه تاريخ أفريقيا الشمالية منذ الفتح الإسلامي حتى القرن الرابع عشر، فقد كان يرى أن جميع أنواع المجتمعات هى نتاج «ظواهر طبيعية». وعندما تناول تفسير الخصائص السيكولوجية لكل شعب من الشعوب، سعى جاهداً إلى أن يثبت أن سبب هذه الخصائص هو الظروف المادية لحياة أغلبية أعضاء هذه المجتمعات.

لم يعتقد ابن خلدون في وراثة تلك الخصائص السيكولوجية، فهى تُكتسب بالتعليم وتثبت بالبيئة، حيث تساءل؛ ما الأسباب التي تساعد على تكوين طابع أي شعب؟ ويردّ بأن «المناخ» يسهم في تحديد نوعية أساليب وأنشطة الناس وأخلاقهم والمظهر العام لعقليتهم وطبعهم المألوف. ويقول إن الأجواء الحارة والجافة، على سبيل المثال، تحمل الناس على المرح وخفة الروح وعدم الحذر كما في مصر. في حين أن الأجواء الباردة الرطبة كما في مدينة فاس المغربية والمحاطة بهضاب باردة تجعل سكانها يسيرون مطأطئي الرأس كأنهم تحت وطأة الحزن. كما يمكننا ملاحظة ما لدى سكان المناطق الباردة من تحوط وحذر إلى حدّ أن أي فرد يدخر مؤونة من القمح كافية لعدة سنين، ويفضل أن يذهب كل عام إلى السوق ليبتاع غذاءه على ألا يمس ما خزنه.

ويلاحظ ابن خلدون أن الشعوب الأقل تمديناً تقوم بأكثر الفتوحات اتساعاً، وهي حقيقة من شأنها أن تدهش أي مؤرخ يدرس أحوال الشرق في العصر الوسيط، لكنه يفسر ذلك تفسيراً اقتصادياً خالصاً بأن البدو والمتوحشين ليس لهم وطن ينحدرون منه ولا بلد يجنحون إليه.

واستطاع ابن خلدون أن يبدي بشأن الدول التي رآها تنشأ من حواليه ملاحظة ذكية للغاية، فالشعوب التي تنجح في تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة وحكم سياسي مستقر هي بالضبط الشعوب التي كانت حياتها خشنة وعاداتها قليلة التهذيب وحضاراتها قليلة التقدم. ويرى أن انتصار هذه الشعوب إذن لم يكن راجعاً إلى خصائص حضارية، وإنما إلى أسباب معنوية ترفع إلى أقصى درجة القوة الهجومية لدى القبائل التي تحيا حياة البداوة. وفي رأي ابن خلدون، أن المؤهل الوحيد لـ«النبالة»، أي ذلك الذي يجعل جماعة معينة مؤهلة لتقلد السلطة، هو «العصبية»، فإذا كانت الأسرة المالكة أو الجماعة كثيرة العدد، وإذا أتيح لها أتباع مخلصون حقّاً نتيجة إحساسها بالتكافل ونتيجة روح التضامن والولاء لدى أعضائها، فإنها تستطيع إقرار هيبتها.

وكذلك يرى ابن خلدون أن فلسفة التاريخ تقوم على روح العصبية، لكنها ليست هي وحدها التي تقوم على تلك الروح، وإنما تقوم عليها أيضاً التغيرات المستمرة في أحوال الأفراد، وهي ما يسمى حالياً «الترقي الاجتماعي» لبعض الأفراد أو لبعض الأسرات. ويجب أن نلاحظ هنا الجرأة التي يبديها ابن خلدون في هذا الموضوع الحساس، موضوع النبالة، التي لا يرى فيها غير انعكاس لبعض ظروف الحياة لدى مجموعة من الناس في ظرف ما، على نحو يجعله سابقاً لعدد من علماء الاجتماع المشهورين.

“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}

شاركها.
Exit mobile version