في مقدمة كتابه «طقوس الموافقة: تحولات في البناء الرمزي لأميركا» (1993) يعلن ساكفان بيركوفتش، أحد أهم دارسي الأدب الأميركي، أنه اكتشف أن البلاد التي استوطنها بعد قدومه من كندا كانت «حدوثاً تزامن فيه التشكل الثقافي مع العنف»، ثم يختصر ذلك بوصف الولايات المتحدة بأنها «كنز ثقافي من البربرية». مفارقات لكنها تظل قاسية وصادمة، ومن المؤكد أن عدداً لا بأس به من كبار المثقفين والمفكرين الأميركيين سيتفقون مع بيركوفتش فيها، ومن أشهر أولئك بالتأكيد نعوم تشومسكي، الذي وثَّق تلك «البربرية» في النظام السياسي والاقتصادي الأميركي وحللها عبر العديد من الكتب. كما سيتفق معه فيها روائيون أميركيون كبار من طراز بول أوستر. ففي كتاب أوستر حول العنف في أميركا الصادر عام 2021 «الشعب الدموي» (الترجمة الحرفية: «شعب حمام الدم»)، توثيق لذلك العنف وتأملات تحليلية حول جذوره وأسبابه ومآلاته. عايشت الكتاب لبعض الوقت مترجماً (وستصدر الترجمة قريباً عن دار كلمات). كانت المعايشة اكتشافاً متواصلاً ومؤلماً لتلك البربرية التي يتحدث عنها بيركوفتش، ففي الكتاب تحليل لأبعاد النزوع الدموي الذي ظلل التاريخ الأميركي منذ بداية الاستيطان حتى أيامنا هذه.

غير أن أوستر لا يقوم بدور المؤرخ في كتابه رغم أن للتاريخ حضوراً بارزاً في صفحاته. هو موثق وسارد وكاتب سيرة معاً. بؤرة اهتمامه في الولع الأميركي بالسلاح ومدار تحليله تحول ذلك السلاح إلى أداة للقتل الجماعي على النحو الذي تنفرد به الولايات المتحدة بين دول العالم، وبقدر ومستوى من العنف والدموية يذهل كل محاولة عقلانية لفهمه وسبر أسبابه. لكن الصعوبة الشديدة في عقلنة تلك الظاهرة الأميركية بامتياز لا تثني أوستر عن المحاولة. نراه يعود بنا تارة إلى بدايات الاستيطان في أميركا، ويركن تارة أخرى إلى التاريخ الاجتماعي للعنصرية واستعباد الأفارقة، ويوثق كل ذلك بالاستشهاد بالدستور الأميركي وبحروب الاستقلال والحرب الأهلية وبالأرقام والاقتباسات الداعمة، هذا إلى جانب الصور، التي التقطها مصور قريب له، قصد بها تكثيف البعد البصري لمواقع القتل الجماعي (الأماكن خالية من الناس). يخبرنا أوستر، مثلاً، عن توطن العنف الدموي مع بداية الاستيطان الأوروبي في القرن السابع عشر: «أقنع المستوطنون الأميركيون الذين ولدوا في إنجلترا أنفسهم بأن الله منحهم حق السكنى في أي مكان يشاءون من براري العالم الجديد، الذي جاءوا ليطلقوا عليه وطناً، حتى وإن أدى ذلك إلى الحلول محل السكان الذين كانوا يسكنون في تلك الأراضي التي سكنوها لآلاف السنين قبل وصول الإنجليز». لتحقيق ذلك شكل المستوطنون ميليشيات مسلحة مارست كل أنواع العنف الدموي ضد السكان الأصليين الذين سموهم «الهنود الحمر».

يجد أوستر أن تلك الميليشيات هي الجنين، الذي كبر عبر القرون ليعبر عن الفجوة التي اتسعت منذ حرب الاستقلال بين عامة الناس والحكومة، الخوف الدائم من أن تتحول الحكومة إلى قوة مستبدة تكون استمراراً للهيمنة البريطانية التي سبقت الاستقلال. للناس الحق، كما أكد ذلك «التعديل الثاني» للدستور الأميركي، في امتلاك السلاح. ومع أن هناك خلافاً حول تفسير ذلك التعديل فإن الذي رجح في النهاية هو ما رأته المحكمة العليا الأميركية في السنوات الأخيرة من أن حق امتلاك السلاح حق فردي وليس محصوراً بالجيش أو الشرطة مثلاً.

لكن حق امتلاك السلاح، بل السلاح نفسه، ليس المشكلة الحقيقية. يذكّر أوستر قراءه، وهم الأميركيون في المقام الأول، بأن السيارات كانت منذ اختراعها مصدراً للموت الفردي والجماعي، لكن السيارات لا تلام على الحوادث، بل الذين يقودونها. المشكلة في حق امتلاك السلاح وفي مستعمليه. الجماعات المدافعة عن حق امتلاك السلاح ترى أن المشكلة ليست في حق الامتلاك، وإنما في كيفية استعماله رغم الوقائع التي تؤكد عكس ذلك والمجازر التي يسمع عنها العالم كل يوم تقريباً في شوارع المدن الأميركية، التي تتراوح مسارحها بين المدارس والجامعات والشوارع ودور العبادة ودور السينما وغيرها. أولئك الذين يأخذون أسلحتهم المنوعة ويتحزمون بواقيات الرصاص وترسانات من الذخيرة ليقتلوا الناس رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، لا يعرفونهم، هم المسؤولون.

«المنظمة القومية للبنادق» (وتترجم أحياناً إلى «المنظمة القومية للسلاح») تقول إنه لا يكافح المستعمل السيء للسلاح إلا المستعمل الطيب له.

يقول أوستر إن هذا الكلام فيه بعض الصحة لكنه غير صحيح على إطلاقه، ويوثّق ذلك بشواهد عديدة تؤكد أن مرتكبي القتل الجماعي عبر العقود الماضية لم يكونوا في الغالب مجرمين محترفين أو لهم تاريخ في الإجرام. «معظم حالات القتل الجماعي هذه يرتكبها شبان يعيشون في عزلة، يكون المرتكبون أحياناً رجالاً على مشارف منتصف العمر، ونادراً ما يكونون نساء (ذلك معدوم تقريباً)»، ويذكر مثالاً على ذلك قصة أخبرها عنه أحد أصدقائه الأطباء، الذي كان يعمل في غرفة الطوارئ بمستشفى في مدينة البكركي بولاية نيو مكسيكو: «دخل رجل إلى مكتب زوجته السابقة بعد ظهر أحد الأيام عازماً على قتلها، لكن قبل أن ينجح في العثور عليها سخّن بإطلاق النار عشوائياً على عدة أشخاص من العاملين الموجودين على مكاتبهم. قتل ثلاثة وجرح العديد». قصة كهذه تتكرر في مدن أميركا وقراها بصورة يومية أو شبه يومية. ومن أشهر تلك القصص أو الحوادث الكارثية «قتل عشرين طفلاً صغيراً عام 2012 وستة معلمين ومعلمات وإداريين في مدرسة ساندي هوك الابتدائية في نيوتاون، بولاية كونيتيكت»، على يد شاب قتل أمه أولاً ثم الأطفال والمدرسات لينتهي منتحراً في المدرسة. أمثال ذلك الشاب كثيرون، وفي كتاب أوستر وقفات محللة عند بعضهم يرصد فيها ما ذكرته دراسات وتقارير إعلامية حول دوافعهم وظروفهم، لكنه في نهاية المطاف يرى أننا أمام ظاهرة شديدة التركيب ومتعددة الجذور. هي ظاهرة تستمد الكثير من دلالاتها من أن أميركا نفسها كانت مشروع استيطان انحرف إلى العنف بمجرد أن اكتشف ثراء الأرض وضخامة وتنوع مقدراتها فشن عملية إبادة لكل من وقف في طريقه من سكانها الأصليين واستعان من ناحية أخرى بالعنف لجلب الأفارقة من أرضهم وتسخيرهم بطرق وحشية للعمل وجني الأرباح الزراعية وغير الزراعية.

في مختتم كتابه يضعنا بول أوستر أمام إحدى الحقائق المعروفة حول المجتمع الأميركي بوصفها معينة على استيعاب ما آلت إليه الأوضاع. يقول إن أميركا «انقسمت في المنتصف منذ ولادتها، ليس فقط بين البيض والسود أو بين المستوطن والهندي، وإنما بين الأبيض والأبيض أيضاً، لأن أميركا هي أول بلد على وجه الأرض يتأسس على مبادئ الرأسمالية، وهو نظام اقتصادي يتكئ على التنافس، ولذا فهو بالضرورة مدفوع بالصراع، ذلك أن في لعبة مراكمة الثروة والممتلكات – المؤشرات الوحيدة على القوة في أرض بلا أرستوقراطيين أو ملوك – سيكون هناك بعض الرابحين وأكثرية من الخاسرين». ذلك الانقسام يؤكده ساكفان بيركوفتش في الكتاب، الذي أشرت إليه بداية هذا المقال، حين يذكر بأن أميركا في منتصف القرن التاسع عشر «كانت مجتمعاً طبقياً متناقضاً. واحد من كل خمسة أميركيين كان أسود أو هندياً؛ واحد من كل ثمانية بيض كان مهاجراً جديداً». ما ذكره الكاتب الفرنسي الأرستقراطي أليكسي دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أميركا» محض أسطورة، يقول بيركوفتش، فحين زارها في أربعينات القرن التاسع عشر كان نصف الثروة تقريباً بيد 1 في المائة من الأميركيين.

ويبدو أن الأمر ما يزال كذلك حتى اليوم إن لم يكن الأمر تجاوز نصف الثروة بكثير.

شاركها.
Exit mobile version