في قاعة مكتظة بالحضور، وعلى وقع تصفيق حار، اعتلى الدكتور خالد غطاس منصة جامعة العلوم والتكنولوجيا بجدة، ليبدأ واحدة من أكثر المحاضرات انتظاراً لهذا الموسم، تحت عنوان «أكثر من قصة». محاضرة لم تكن مجرد حديث علمي بل رحلة فكرية، غاص فيها الحضور في تساؤلات حول الثقة، والتغيير المجتمعي، ومعنى المشاعر التي تُشكل هويتنا بصفتنا بشراً.

الثقة: قيمة تتآكل أم تتطور؟

بدأ الدكتور خالد غطاس حديثه بمسألة تبدو بسيطة، لكنها تحمل في طياتها إشكاليات عميقة: هل أصبح الناس اليوم أقل ثقة ببعضهم مقارنة بالماضي؟ استشهد بإحصائيات صادمة؛ ففي عام 1950، أجاب 64 في المائة من المشاركين في استطلاع للرأي بأنهم يعدون الآخرين أهلاً للثقة، في حين عام 1999 انخفضت النسبة إلى 34 في المائة. أما اليوم، فقد أجرى المحاضر استطلاعاً سريعاً بين الحضور، ليجد أن النسبة بالكاد تصل إلى 3 في المائة.

«إذا فقدنا الثقة فكيف يمكن أن نبني علاقات وأعمالاً أو حتى مجتمعات مستقرة؟»، تساءل دكتور غطاس، مشيراً إلى أن انهيار الثقة لا يعني فقط تراجع العلاقات الإنسانية، بل يمتد ليؤثر على الاقتصاد، والسياسة، وحتى الصحة النفسية للأفراد.

ومن الأسئلة التي أثارت نقاشاً واسعاً خلال المحاضرة: هل العالم اليوم يسير نحو الأفضل أم الأسوأ؟ وجاءت الإجابة: «بعضهم يرى أن التكنولوجيا والعلم حسّنا حياتنا بشكل غير مسبوق، وبعضهم الآخر يعتقد أن القيم المجتمعية تراجعت، ما جعل الحياة أكثر تعقيداً»، وأوضح المحاضر أن هذه النظرة قد تكون متأثرة بالحنين إلى الماضي أكثر مما تعكس الواقع الفعلي.

التغيير يبدأ من الفئة المؤثرة

واحدة من أكثر النقاط المثيرة في حديث غطاس كانت رؤيته حول الفئة التي يمكنها قيادة التغيير في المجتمع. «التغيير لا يبدأ من الأطفال»، قال بثقة: «بل من الفئة العمرية بين 25 و45 عاماً، لأنها الفئة القادرة على اتخاذ القرارات، وتشكيل الفكر المجتمعي».

وطرح مثالاً: «لو أن التغيير يبدأ من الأطفال، لكان الأنبياء بدأوا دعواتهم معهم، لكنهم توجهوا إلى القادة وصناع القرار في مجتمعاتهم، لأنهم الأكثر تأثيراً».

وحول سؤال: «هل يمكن العيش بلا ملل، بلا ألم، وبلا حرمان؟»، استعرض غطاس تجربة فكرية افتراضية أثارت الفضول والتفاعل بين الحضور. تخيَّل 3 أشخاص خاضوا تجربة امتدت لـ10 سنوات، أحدهم مُنع من الشعور بالملل، وكان عليه إيجاد نشاط جديد باستمرار، وأخرى مُنعت من الشعور بالألم، فكلما واجهت موقفاً مؤلماً كان عليها تجنبه فوراً، وطفلة طلب من والديها ألا تُحرم من أي شيء، وكل ما أرادته حصلت عليه فوراً.

بعد 10 سنوات كانت النتائج صادمة، فالذي حُرم من الملل بدا منهكاً، بلا معنى لحياته، وأدرك أن الملل ضروري لإعطاء الأشياء قيمتها، والأخرى التي هربت من الألم انتهى بها المطاف وحيدة، واكتشفت أن الوحدة كانت أكثر إيلاماً من أي شعور آخر، أما الطفلة التي لم تُحرم من شيء فلم تعد تشعر بأي متعة حقيقية، وفقدت الإحساس بقيمة الأشياء.

«الحياة بلا ملل، وبلا ألم، وبلا حرمان ليست حياة حقيقية»، علَّق غطاس، مضيفاً أن المشاعر السلبية ليست مجرد معوقات، بل هي أدوات تعلم ونمو.

اختُتمت المحاضرة بسؤال مفتوح للحضور: «برأيك، هل التغيير يبدأ من الأفراد أم من المجتمع ككل؟ ولماذا؟».

وفيما انشغل الحاضرون بالتفكير في إجاباتهم، بدا واضحاً أن المحاضرة لم تكن مجرد حديث نظري بل دعوة لإعادة النظر في القيم والمفاهيم التي تُشكل حياتنا اليومية.

محاضرة «أكثر من قصة» لم تكن مجرد محاضرة، بل تجربة فكرية تركت أثراً في كل من حضرها، وربما كانت بداية لتغيير شخصي أو مجتمعي.

“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}

شاركها.
Exit mobile version