سأحكي لكم في بداية المقال ثلاث قصص مختلفة، بثلاثة دروس مختلفة. منها قصتان من الولايات المتحدة الأميركية، وقصة من إحدى المدن الصغيرة والمغمورة في المغرب.. وأعد القرّاء الأوفياء الذين سيكملون قراءة المقال، بقصص ممتعة أخرى في المتن.

يحكي ريتشارد ثالر قصة طريفة: كان يدرّس صفًا عن اتخاذ القرارات التِّجارية لطلاب كلية إدارة الأعمال.. وكان بعض الطلاب يغادرون الحصة مبكرًا، ويتسلّلون خارج القاعة بشكل خفيّ قدر الإمكان، ومن سوء حظّهم أن الطريق الوحيد أمامهم للخروج يمرُّ عبر باب كبير مزدوج، مزوّد بمقبضين خشبيين طويلين في كل جهة.

وقد كان المقبضان مركبَين بشكل رأسي. عندما يهم الطلابُ بالمغادرة، متسللين ويصلون إلى هذا الباب المزدوج، كانوا يواجهون غريزتين متنافستين: إحداهما مستمدّة من الخبرة السابقة في التعامل مع الأبواب، وتقول؛ إن مغادرة القاعة تتطلب دفع الباب.

توجيهات خفيّة

والغريزة الأخرى مصممة للتعامل مع التوجيه الضمني الكامن في المقبضين الواضحين، وتقول؛ إنه عندما يواجه الطالب المقبضين الخشبيين الكبيرين المصممين للإمساك بهما فعليه جذب الباب، وتبيّن أن الغريزة الأخيرة، تفوّقت على الأولى، وبدأ كل طالب يهمّ بالخروج بجذب الباب، لكن الباب يقاوم ولا يفتح؛ لأنه كان يفتح إلى الخارج للأسف.

ولكم أن تتخيّلوا المواقف الطريفة التي تحدث نتيجة ذلك، والحرج الذي يعانيه الطلبة المتسللون دومًا، وهم يصارعون الباب رغبة في الخروج، بينما أستاذهم ثالر وبقية الطلبة يستمتعون بمشاهدتهم وهم محرجون ومحاصرون أمام الباب المزدوج الذي يكشف تسللهم في كل مرة.

الدرس الأول يقول؛ إنه قد يبدو لنا أننا أحرار في اتخاذ الكثير من القرارات في حياتنا، لكن في الواقع أن ما نواجهه في حياتنا من اختيارات، قد يتأثر في الغالب بالعديد من التوجيهات الضمنية والخفية التي قد لا ننتبه إليها، لكنها مع ذلك تؤثر في حياتنا وفيما نتخذه من قرارات، فالطلبة لم يستطيعوا تجاهل الرسالة الواضحة التي كان يصدرها المقبض الخشبي الكبير: أنا هنا لتجذبني.

الحكاية الثانية؛ بطلاها كل من كارولين وآدم؛ كارولين هي مديرة خدمات التغذية لنظام المدارس في إحدى المدن الأميركية، وآدم هو مستشار إداري يعمل مع سلاسل أسواق كبرى. لاحظت كارولين أن معظم الطلاب في المطاعم المدرسية يختارون أطعمة قد تكون أقرب إلى نظام الوجبات السريعة وأبعد عن النمط الصحي؛ فقرّر الصديقان القيام بتجربة طموحة، مضمونها تغيير الطرق التي تعرض بها الأطعمة والشكل الذي ترتّب به، دون إحداث أي تغيير في قوائم الطعام: وهكذا في بعض المدارس وضعت الحلويات أولًا، وفي مدارس ثانية وضع الجزر على مستوى النظر في أول صفّ، وتم تأخير البطاطس المقلية إلى آخر صف في الأسفل، وهكذا.

وكانت نتيجة التجربة مذهلة: باستطاعة كارولين زيادة استهلاك الطلبة للأغذية الصحية، وتقليل استهلاكهم للأغذية غير الصحية دون التدخل في حريتهم للاختيار، ودون تعديل قائمة الطعام، بل فقط من خلال إحداث تغييرات طفيفة على طريقة عرض الأطعمة.

الدرس الثاني الذي نتعلمه هنا، هو أنه بإمكاننا التدخل لتحسين نوعية القرارات التي يتخذها الناس، بشكل يضمن من جهة مصالحهم وتحسين حياتهم، ومن جهة ثانية الحفاظ على حريتهم الكاملة في الاختيار، ويتحقق ذلك من خلال تصميم الاختيارات على نحو معين.

الحكاية الثالثة من المغرب، فمع اتساع رقعة التمدن، بدأت ألاحظ أن المدن الكبرى تتجه بشكل أسرع نحو التخلي عن العادات والتقاليد الأصيلة التي نشأنا عليها، ففي أحد الأحياء الراقية في مدينة فاس، حينما أدخل بعض المتاجر وألقي السلام، أفاجأ من حين إلى آخر بأن “زبائن” المتجر يستديرون إليّ من باب الفضول لمعرفة من ذلك الغبي الذي ما زال يتمسك بتحية “السلام عليكم”، ثم يستديرون ويتابعون ما يفعلون بتجاهل تام لتحيتي.. ويجعلني ذلك أشعر بقدر كبير من الاستياء. لكن في مدينتي الصغيرة، حيث ولدت ونشأت، ما زال الناس يحرصون على رد السلام، ومساعدة المحتاج، واحتضان الغريب، لكن يبدو أن ذلك لن يستمر طويلًا!

فقد تم افتتاح متجر متوسط يحاكي تجربة الأسواق الكبرى في طريقة الدخول والخروج، وترتيب البضائع على الرفوف، مع وجود بائعتين بصفي انتظار، وقد نجح المتجر في اجتذاب الكثير من الزبائن الذين يبحث معظمهم عن إرضاء غريزة “التحضر” والتمدن. الأمر الطريف الذي حدث لي، هو أنني أجد نفسي لأول مرة في مدينتي الجميلة، أدخل متجرًا، وما من معنى ولا دافع لإلقاء السلام: فباب الدخول يقودني إلى أول جناح عرض للبضائع، وأجده فارغًا من الزبائن في الغالب، فعلى من ألقي التحية؟ ثم أبدأ في مصادفة مشترين مشتتين بين الرفوف، فهل أسلم على كل زبون التقيته؟

حكمة مركزة

أسوأ ما يقلقني في هذا الأمر، هو أن سكان مدينتي الطيبين، يتلقون في كل مرة يلجون فيها هذا المتجر، تعلمًا اجتماعيًا عمليًا، مفاده أنه توجد سياقات يمكنك ألا تلقي فيها السلام، ومع مرور الوقت، سيبدأ الناس في التخلي عن آداب التحية في سياقات مختلفة، وينسون تدريجيًا التأدب مع الآخرين والاكتراث لأمرهم، ويصبحون مثل سكان الحواضر الكبرى، الذين يجمعون أحيانًا بين شدة التأنق في المظهر، وقمة البرودة في التعاطف الإنساني!

الدرس الثالث هنا، هو أنّ بعض السياقات التي تنتمي إلى مجالات معينة، قد تؤثر بشكل سلبي في مجالات أخرى تبدو بعيدة عنها، من خلال توجيه الناس بشكل غير متعمد وغير مباشر للقيام باختيارات وسلوكات سلبية.

وإذا أردنا تركيب الدروس الثلاثة السابقة في حكمة مركزة، فإنها ستكون على الشكل التالي: إن الكثير من القرارات التي قد تتبناها جهات حكومية، أو توجهات تجارية أو فنية، قد تكون مفيدة في مجالها الضيق، لكنها مكلفة على المستوى الأخلاقي أو الحضاري أو القيمي.. وهي تؤثر سلبًا في المجتمع من خلال ما قد تتضمنه من توجيهات خفية وغير واضحة للأفراد.

ولأثبت لكم أن بعض القرارات الجيدة قد تكون مضرة، سأحكي لكم القصة التالية، وهي تحتاج إلى بعض التأمل:

في إحدى المدن المغربية، قامت السلطات المختصة أخيرًا بتفكيك حي عشوائي كبير جدًا، نشأ من خلال استقطاب المهاجرين القادمين من البوادي والذين أرغمهم الجفاف على الهجرة بحثًا عن العمل، ولم تكن ظروفهم تسمح باكتراء منزل مناسب، فكانوا يشيدون مساكن عشوائية توسعت وتناسلت على مرّ السنوات.

ونظرًا للظروف التي نشأ فيها أبناء ذلك الحي، الذي تأخر المسؤولون طويلًا جدًا في التعامل معه، فقد تحول إلى بؤرة إجرامية خطيرة هددت أمن المدينة الصغيرة الهادئة التي اشتهرت بأمنها وطيبة أهلها على مرّ السنوات.

ورغم أن بعض الاعتداءات الإجرامية بدأت تظهر من حين إلى آخر في المدينة، فإن معظم أحياء المدينة ظلت محافظة نسبيًا على أجوائها الآمنة، باستثناء الحي العشوائي الذي كان مسرحًا للاعتداءات وصراع العصابات الإجرامية.. وقد قام المسؤولون مؤخرًا بخطوة إيجابية تمثلت في هدم الحيّ العشوائي بأكمله، تمهيدًا لتعويضه بحيّ جديد منظم، يضمن سكنًا كريمًا بجميع المرافق الضرورية من مدارس وغيرها. ونتيجة لذلك، تفرق سكان الحي المذكور في أنحاء المدينة بأكملها، فاكتروا شققًا بشكل مؤقت في انتظار اكتمال تهيئة الحي الجديد.

لكن الذي حدث، هو أن بعض المنحرفين والمجرمين والمراهقين المتهورين الذين كان نشاطهم الإجرامي منحصرًا في حيهم الأصلي، قد تفرّقوا أيضًا في جميع أحياء المدينة، فنقلوا معهم عاداتهم الإجرامية وسلوكهم العنيف، وقيادتهم المتهورة للسيارات المتهالكة، وشتائمهم البذيئة، ومجاهرتهم باستعمال المخدرات إلى جميع الأحياء.. فأصبحت الكثير من التجمعات السكنية الهادئة والآمنة تعاني من إزعاج شديد وقلق من التعرض للاعتداء.

تغيير الهوية

ولا تنحصر الكلفة الاجتماعية والأخلاقية لقرار الإخلاء الكلي في إزعاج سكان المدينة وتعريضهم للاعتداءات المتكررة فقط، بل يتعلق الأمر بتغيير هُوية مدينة بأكملها، فالمنحرفون الموزعون على جميع الأحياء يقدمون خبرة إجرامية جاهزة لبعض المراهقين الذين يحملون استعدادًا للانحراف، ويجعلونهم أكثر جرأة على تحدي قيم المجتمع وعادات المدينة، بل ويتعب رجال الأمن في التصدي لتلك الظواهر الإجرامية بعد أن تبعثرت المعطيات الاستخباراتية التي كانوا يتوفرون عليها وقد تفرَّق المنحرفون في كل مكان.

فقرار هدم الحي العشوائي وتجهيز حي ملائم في مكانه، قرار سليم وناجع بكل معايير الكرامة والتخطيط العمراني وسياسات المدينة، لكن المسؤولين عنه، لا يستطيعون – لطبيعة عملهم واختصاصاتهم – أن يتوقعوا أن طريقة تنفيذ قرارهم هذا هي مكلفة جدًا على مستويات أخرى بعيدة عن مجال التخطيط العمراني: فالقرار مكلف على المستوى الأخلاقي والتربوي والاجتماعي، وهو يغير هوية المدينة بشكل كامل، وكأنهم أطلقوا عن غير قصد “فيروس إجرام” شديد العدوى في كل المدينة.

خلاصة القول؛ إن كثيرًا من القرارات التي قد تتبناها جهات حكومية، أو يصدرها مسؤولون مختلفون في مجالات السياسة والاقتصاد والفن وتنظيم المجال الديني والتعليم والفلاحة وغيرها.. قد تكون قرارات صائبة ومفيدة في مجالها الضيق، لكنها مكلفة على المستوى الأخلاقي أو الحضاري أو القيمي أو المجتمعي عمومًا.. وهي تؤثر سلبًا في المجتمع من خلال ما قد تتضمنه من توجيهات خفية للأفراد، تدفعهم إلى اكتساب عادات اجتماعية سلبية، أو التخلي عن ممارسات اجتماعية مفيدة.

لذا فإنه ينبغي ألا نكتفي بدراسة الجدوى الاقتصادية لما قد نتخذه من قرارات، وإنما ينبغي أيضًا دراسة الجدوى القيمية والأخلاقية والحضارية لتلك القرارات، وإلا فإنه من الوارد جدًا أن تكون تلك القرارات جد مكلفة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version