غزة- كان طفلا لم يتجاوز الخامسة، حين وقف أمام جمع من الناس يُسمعهم صوته في احتفال لرياض الأطفال، فكانت وقفته تلك هي الخطوة الأولى في مشوار فني استمر لأكثر من 30 عاما.

“وراثة من جد جده” تكشف أم حمزة أبو قينص عن سر صوت ابنها الشجي، وتُكمل “كل الدار عندي صوتها حلو” كناية عن زوجها وأولادها ذكورا وإناثا. ورحل حمزة ولم يكن شهيدها الأول بل الأخير، فلم تُبق الحرب من رجالها أحدا إذ فقدت أبناءها الثلاثة ووالدهم.

“كان طيبا حنونا ذكيا فطنا مثقفا سبعا ورجلا بمعنى الكلمة” تُسهب أم حمزة في سرد صفات ابنها الذي قصم فقده ظهرها كما تقول عبر حديثها مع الجزيرة نت “عشتُ يتيمة، أنجبته وعمري 18 عاما فكان صاحبي وأخي وأبي”.

فقد بعد شوق

كان حمزة مواساتها حين رحل عنها ولداها ومعينها على الصبر، لم تره منذ بداية الحرب فقد نزحت مع زوجته وأطفاله جنوبا وظل هو صامدا في شمالها، وتسترجع المكالمة الأخيرة لهما قبل أيام من رحيله حيث كان يتنقل فيها الهاتف على آذان أطفاله الثلاثة وزوجته، طلب بعدها الحديث مع أمه “راضية يُمّا؟” فتجيبه “قلبي وربي يُما راضين عليك يا حبيبي”.

وكان هذا آخر ما تسلل من صوته الشجي إلى أمه، أما الناس فثمة أناشيد تسللت لقلوب الملايين منهم خلدها بألحانه ولم تغب. ورغم أن وقع خبر استشهاد حمزة كان قاسيا على قلب والدته، إلا أن هناك سكينة أنزلها الله عليها كما توافد المهنئون بشهادته رغم عدم معرفتها بهم، علاوة على وقوف الطيبين من الناس وتفاعلهم مع رحيله مما خفف عنها مصابها، كما تقول.

أما صديقه المقرب أسامة قاسم فيرى أن تفاعل الملايين مع استشهاد أبو قينص جاء لصدقه وصدق ما غنى، فقد كان صاحب رسالة وأناشيده كانت تترجم حال العامة من الفاقدين والجرحى والمكلومين.

وأنهى أبو قينص تسجيل ألبوم “القابضون على الجمر” قبل الحرب بفترة وجيزة، وكان ينوي الإعلان عنه باحتفال كبير لكن دخول الحرب حال دون ذلك، فقرر مع زميله قاسم نشر أناشيد الألبوم خلال هذه الحرب، لتلاقي بعد ذلك رواجا وتداولا كبيرا خاصة أنها تحاكي واقع الفقد والرحيل والشهادة.

وارتبط صوته مغنيا “سبّل عيونو” وتأثره بـ”قل لي وين رايح مسك منو فايح” برثاء الشهداء، وانتشرت بين الناس كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لقبوه براثي الشهداء وحدّاء الراحلين.

ويبكي قاسم وهو يرثي جاره وصديقه الأقرب حمزة الذي جمع بينهما الأستوديو والعمل الفني لمدة تجاوزت 20 عاما كونه صاحب الشركة المنتجة لأعمال أبو قينص.

ويستذكر -في حديث مع الجزيرة نت- المشوار الأخير لهما، حين همّ قاسم برسم خطة لأعمالهما الفنية بعد الحرب، ليقاطعه حمزة “لن أكون معك بل سأكون في الأعلى وأشفع لك، فأبي وإخوتي ملوا انتظاري، لابد أن أرحل إليهم”.

الملتقى الجنة

رحل المنشد الأشهر في غزة ولم يتقبل قاسم الخبر فلا زال حتى اليوم يبعث إليه رسائل نصية على هاتفه يناديه فيها للرجوع والكف عن المزاح، ويقول “يستحيل أن تجد صورة على هاتفي لوحدي دونه، أمشي وحيدا دون رفيق بعدما ترك فراغا لا يُسد أبدا. لكن ما يواسيني مقولته الشهيرة التي كان يرددها دوما: الملتقى الجنة”.

ولم يصل حمزة للعالمية خلال حياته ولم يحيِ حفلات خارج غزة كما كان يطمح لأنه كان ممنوعا من السفر، لكن العالمين العربي والإسلامي نعوه وبكوه ولا يزالون يتداولون أناشيده التي اخترقت السدود والحدود بعد رحيله.

وتتشابه نهاية حمزة مع ختام الفنانة محاسن الخطيب (32 عاما) التي استشهدت قبل أيام في مخيم جباليا الذي رفضت النزوح منه رغم حصار الاحتلال، فقد انتشرت حكايتها واشتهرت رسوماتها المعبرة على منصات التواصل ووسائل الإعلام، لكن بتوصيفها بـ”الفنانة الشهيدة”.

وقد أجرت الجزيرة نت مقابلة مع فاطمة حسونة صديقة محاسن المقربة، التي كانت قد رأت لتوها صورة قبر صديقتها، وكأنه الدليل الأول الذي يثبت أنها رحلت حقا.

وتقول وهي تذرف دموعها “لقد خسر العالم محاسن، صديقتي لم تكن تريد الموت بعد، فانتزعها منا وخسرناها جميعا” وتضيف فاطمة التي فقدت العشرات من أفراد أسرتها وصديقات أخريات “لقد اعتقلتُ دموعي وحبستها منذ فقدت العشرات من عائلتي قبل أشهر لكنني اليوم أطلقتها وبكيت بلا توقف”.

وتتذكر شعور صديقتها الذي باحت لها به مؤخرا “انخنقتُ من الحصار يا فاطمة” وطلبها الأخير “أريد من والدتك أن تطهو لي ورق العنب المعهود حين نخرج من الحصار”. وبين شعور محاسن الذي تحقق وطلبها الذي لم يُتح الوقت لتحقيقه، تُقلب فاطمة محادثاتها وصورها مع محاسن، واصفة إياها بأنها “طفرة مدهشة، وفتاة حالمة، وملهمة وقوية جدا، وراضية لم تتذمر يوما”.

وتتابع “كانت صديقتي صادقة جدا حتى في اسمها الذي كان على مسمى، فقد جمعت أحسن الأخلاق والصفات”.

وكانت المعيلة لأسرتها بعد وفاة والدها، فتحملت مسؤولية والدتها وإخوتها الذين كان منهم 3 من ذوي الاحتياجات الخاصة. ورغم ذلك، فقد كانت محاسن تعمل بحب وشغف وتدرب المئات من الطلبة على الرسم الرقمي الذي اتجهت إليه رغم دراستها تخصص الرياضيات بالمرحلة الجامعية.

رسالة أخيرة لفنان فلسطيني قبل استشهاده بقصف إسرائيلي على غزة

الفن مقاومة

هدمت إسرائيل أحلام ومشاريع الخطيب، فدمرت مركز التدريب الذي أنشأته حديثا قبل الحرب لإعطاء دورات الرسم، ورغم ذلك فقد شيدت لها عالمها الخاص على سطح منزلها في غرفة صغيرة تأوي إليها بعد يوم شاق من الطهو على الحطب وتعبئة المياه وأداء مهام المنزل مع والدتها التي يصعب عليها تقبل الخبر “فروحاهما معلقتان إحداهما بالأخرى” كما تقول فاطمة.

ولم يكن الموت موضوعا في نقاش محاسن، التي كانت تتحدث دوما عن أحلامها وطموحاتها ومشاريعها التي ستحقق فيها ذاتها بعد انتهاء الحرب، وتوصل من خلالها صورة مأساة غزة إلى العالم.

ولم تنته الحرب وانتهت حياة محاسن، مثل عشرات الفنانين الحالمين، في استهدافات مباشرة “لن تؤتي أكلها” كما يقول محمود سلمي مدير أستديوهات رابطة الفنانين.

ويرى محمود أن “الفن مقاومة كالبندقية لا يمكن أن نتنازل عنه أو نيأس من حمله وهذا إيمان راسخ عندنا” رغم استهداف الاحتلال للفنانين عن سبق إصرار وترصد باغتيالهم وتدمير مقراتهم، فمع الأيام الأولى للحرب قصفت الطائرات الإسرائيلية مقر رابطة الفنانين الفلسطينيين الرئيسي وسوته بالأرض، وهي الجسم الوحيد الذي يجمع فناني قطاع غزة.

وأكد محمود -في مقابلة مع الجزيرة نت- على استمرار محاولات الفنانين الانبعاث من تحت الرماد، حيث استخرج أدواته وعدته المدمرة من الركام وأصلح جزءا منها. غير أن تحديات عدة تواجه الفنانين اليوم كانعدام الكهرباء والمعيقات اللوجستية وعدم استقرار الوضع الأمني، والحالة النفسية السيئة التي يعيشونها بعد عام من الحرب، فقدوا فيه بيوتهم وأقاربهم وزملاءهم.

ولفت محمود إلى دور منصات التواصل الاجتماعي في إيصال الغزي رسائله وفنونه، وتطويعها بما يخدم قضيته ويبرز معاناته، وختم حديثه “سنعيد بناء مقارنا وأستديوهاتنا الفنية، ونجمع فنانينا ونحقق ذواتنا ونواصل إنتاجاتنا غصبا عن الاحتلال”.

إسرائيل قتلت أكثر من 20 فنانا فلسطينيا من غزة، وذبحت حناجرهم وهشمت أكفهم ودمرت أحلامهم، لكن صنائعهم بقيت شاهدة على “نازية” المحتل، والتي جسدوها على هيئة لحن لكلمات أو ألوان على صفحة بيضاء أو مشهد على مسرح، مؤمنين بأن الفن مقاومة على نعومتها إلا أن تأثيرها قوي ويدوم.

شاركها.
Exit mobile version