تشكّل الكربوهيدرات جزءا أساسيا من النظام الغذائي للإنسان، فهي موجودة في الخبز والأرز والمعكرونة والحلويات وغيرها من الأطعمة التي نستمتع بها يوميا، لكن ما السبب وراء هذا الانجذاب القوي للكربوهيدرات؟ هل هو مجرد تفضيل ذوقي أم إن هناك عوامل علمية وتطورية تقف وراء ذلك؟

الوقود الأساسي

تُعَد الكربوهيدرات المصدر الرئيسي للطاقة في جسم الإنسان، وعند تناولها، تتحول إلى جلوكوز يُستخدم كوقود للخلايا، مما يدعم الوظائف الحيوية مثل الحركة والتفكير وحتى عملية التنفس. بالإضافة إلى ذلك، تساعد الكربوهيدرات في تنظيم مستويات السكر في الدم وتُسهم في إنتاج السيروتونين، وهو ناقل عصبي مرتبط بالمزاج والشعور بالسعادة، وهذا التأثير البيوكيميائي يجعلنا نشعر بالرضا والراحة بعد تناول وجبة غنية بالكربوهيدرات.

التطور الجيني والقدرة على هضم النشويات

من منظور تطوري، كان أسلافنا البدائيون يعيشون في بيئات قاسية، حيث كان الطعام نادرا، في حين كانت الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات توفر مصدرا سريعا وفعّالا للطاقة، مما يزيد فرص البقاء على قيد الحياة. هذا التفضيل الطبيعي للكربوهيدرات قد تم ترسيخه عبر الأجيال من خلال التطور الجيني.

استهلاك النشويات وتحويلها إلى سكريات بسيطة كان له دور حاسم في توفير الطاقة اللازمة لنمو الدماغ (الجزيرة)

تشير الدراسات الحديثة إلى أن تفضيل البشر للكربوهيدرات يعود إلى آلاف السنين، قبل ظهور الإنسان العاقل (Homo sapiens) بوقت طويل.

كشفت دراسة نُشرت في مجلة “ساينس” كشفت عن تطور جين “إيه إم واي 1” AMY1، المسؤول عن إنتاج إنزيم الأميلاز الذي يساعد في هضم النشويات. هذا التوسع في نسخ الجين حدث قبل ظهور الزراعة بآلاف السنين، مما يشير إلى أن البشر طوروا القدرة على الاستفادة من النشويات خلال فترات الصيد والجمع.

ووفق شبكة سي إن إن، يقول خبير الأنثروبولوجيا تايلور هيرميس “امتلاك نسخ متعددة من جين الأميلاز مكّن الصيادين والجامعين من استغلال الأطعمة الغنية بالنشويات مثل الدرنات والبذور، مما زاد فرص البقاء على قيد الحياة”.

الدماغ والكربوهيدرات: علاقة تطورية وثيقة

يعتقد العديد من العلماء أن الكربوهيدرات، وليس البروتينات وحدها، كانت المصدر الأساسي للطاقة الذي ساهم في تطور حجم الدماغ البشري، وتشير الدراسات إلى أن استهلاك النشويات وتحويلها إلى سكريات بسيطة كان له دور حاسم في توفير الطاقة اللازمة لنمو الدماغ.

وتقول أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد كريستينا وارينر “زيادة نسخ جين الأميلاز عززت قدرة الإنسان على تحليل النشويات وتحويلها إلى طاقة، مما دعم التطور السريع للدماغ”.

كربوهيدرات carbohydrate Set of products with complex carbohydrates on wooden background shutterstock_523563058
الكربوهيدرات وليس البروتينات وحدها كانت المصدر الأساسي للطاقة الذي ساهم في تطور حجم الدماغ البشري (شترستوك)

تتبع الجينات عبر الزمن

وفقا لدراسة نُشرت في مجلة “نيتشر ريفيوز جينيتكس” (Nature Reviews Genetics) عام 2022، فإن دراسة التنوع الجيني عبر الزمن تساعد في فهم التحولات الغذائية المهمة في تاريخ الإنسان.

مع تحول البشر إلى الزراعة قبل حوالي 10 آلاف سنة، ازداد استهلاك النشويات بشكل كبير، وهذا التغيير أدى إلى زيادة عدد نسخ جين AMY1 في البشر المعاصرين، حيث أصبحوا يعتمدون بشكل أكبر على الأطعمة النشوية كمصدر رئيسي للطاقة.

الكربوهيدرات والمزاج: السعادة في المذاق

الكربوهيدرات لا تؤثر فقط على الجسم بل تمتد تأثيراتها إلى الدماغ أيضا، فعند تناول الكربوهيدرات يزيد مستوى السيروتونين، مما يساهم في تحسين المزاج والشعور بالراحة، وهذا التأثير البيوكيميائي قد يفسر سبب انجذابنا الطبيعي إلى الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات.

تشير الأبحاث العلمية إلى أن حب الإنسان للكربوهيدرات هو نتيجة تفاعل معقد بين العوامل الجينية والتطورية والبيوكيميائية، وقد لعبت قدرة البشر القدامى على هضم النشويات واستغلالها كمصدر أساسي للطاقة دورا محوريا في تطور الدماغ وفي البقاء على قيد الحياة، فهذه العوامل تساعدنا على تقدير دور الكربوهيدرات في تاريخنا التطوري، والتعامل بشكل أفضل مع اختياراتنا الغذائية اليوم.

شاركها.
Exit mobile version