اعتادت فاطمة شعبان زيارة المقابر القديمة صحبة والدها الراحل “فقد كان أبي يحب زيارة الأضرحة وآل البيت. وفي الفترة الأخيرة من حياته كنا نزور الحسين والسيدة نفيسة، وضريح الليث بن سعد وولده.. وغيرهم”.

ورثت المرأة هذا الشغف وراحت تتبعه وحدها لاحقاً “في المرة الأخيرة التي تجولت فيها وحدي زرت مقابر سيدي جلال الدين السيوطي وعدداً من المدافن لوزراء وشيوخ وشخصيات عامة، لكن المشكلة الأساسية التي تواجه من يتجولون وحدهم أن كثيراً من حراس المقابر لا يوافقون على فتح الأبواب للزيارات العامة، لذا لا أتمكن عادة من دخول عدد كبير من المقابر، مثل مقبرة عزيز عزت باشا”.

ولعل ذلك ما دفع فاطمة إلى الانضمام إلى جولات مجموعة الدكتور غنيم في المقابر المحيطة بالسيدة نفيسة والإمام الشافعي، والتي يُطلق عليها اسم “البقيع المصري”. إنها الرغبة في اكتشاف مزيد من القصص والحكايات على أعتاب المقابر. وهو شعور وصفته بقولها “أقف أمام المقبرة، أحاول أن أشبع منها قبل أن تغيب، تلك المقابر مريحة وجميلة جداً للنفس والعين، كما أنها محفّزة على المعرفة، من بين المقابر التي زرتها مدفن يحيى باشا إبراهيم، أذهلني المشهد ورحت أبحث عنه، ففوجئت أنه كان رئيساً للوزراء في مصر بين 15 مارس/آذار 1923 و27 يناير/كانون الثاني 1924. وعلى الرغم من تسجيل مقبرته كتراث معماري مميز، فإنها على وشك الهدم أيضاً”.

‎⁨تنظيم الكثير من الزيارات بدأ حين اقتربت المقابر من الاختفاء (الجزيرة)⁩

وصار لدى فاطمة مئات الصور والحكايات، لشخصيات لم تكن تعرف عن بعضها شيئاً حتى بدأت بحثها لاحقاً “من بين المقابر التي زرتها للمرة الأخيرة مدفن علي باشا مبارك، ذهبنا إليه في جولة البقيع المصري بتاريخ 9 يونيو/حزيران 2023، وفي المحيط رأيت عدداً من المقابر المهدمة”.

وتوضح أن الكثير من القباب والأضرحة يقال إنها لأولياء صالحين، وثمة مدافن خشبية كثيرة من دون معلومات واضحة عن أصحابها و”كلما تجولت في تلك الجبانات التاريخية أشفق على هذه الكنوز المجهولة. زيارة المقابر تتطلب شجاعةً وشغفاً، وتدفعني إلى البحث أكثر عن أصحابها وتاريخهم وحكاياتهم. إنها متعة من نوع خاص”.

فاطمة واحدة من آلاف المصريين الذين تجذبهم زيارة المقابر القديمة، ضمن رحلات سياحية منظمة تشهدها البلاد أخيراً.

وقد ازدهرت “سياحة المقابر” مع عمليات الهدم التي نفذتها السلطات، ضمن أعمال تشييد وتطوير طاولت مئات الأضرحة في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة القديمة، ولاتزال، وهو ما أثار مشاعر كثيرين واهتمامهم بالمقابر عموماً، ولا سيما تلك التي اقتربت إزالتها.

وانطلقت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي حملات لتوثيق الجبّانات القديمة، منها “جبانات مصر”. وراح مهتمون يوثقون ويسجلون ما يستطيعون، بينما اتجه عدد من المتخصصين في مجال التاريخ إلى تضمين المقابر المهدَّدة بالإزالة ضمن رحلاتهم، من أجل زيارة أخيرة لأثر ربما لن يراه الزوار مرة أخرى، وتأكيداً لأهمية الجبانات القديمة وما تحمله، ليس فقط من رفات، ولكن من أفكار وقيم وحكايات تستحق أن تُروى.

ما المميز في زيارة المقابر؟

تُعرف سياحة المقابر بـ “السياحة المظلمة” أو “السياحة السوداء” إذ يتجوّل السياح بين المقابر بغرض استكشاف تراثها الفني والمعماري والتاريخي. وذهبت بعض التوصيات بضرورة وجود تصوّر مختلف للمقابر، من مجرد مكان للدفن إلى مساحة تراث ثقافي تحمل الكثير من الفرص السياحية، ومن ثم ضرورة استكشاف طرق تطوير منتجات وخدمات تساعد تلك الوجهة على التحول إلى مصدر دخل مع الحفاظ على تراثها.

أحد الأضرحة التاريخية تزينه النقوش و اللمسات الفنية (الجزيرة)
أحد الأضرحة التاريخية تزينه النقوش واللمسات الفنية (الجزيرة)

يرجع “مسار المقابر الأوروبي” أهمية المقابر لما تحويه من منحوتات وأعمال فنية عدة، فضلاً عن كونها طريقة مختلفة ومبتكرة للتعرف على السير الذاتية للمشاهير، ليس عن طريق الكتب ومواقع الإنترنت ولكن على أرض الواقع. وقد تحولت بالفعل الكثير من المقابر إلى مزارات حول العالم مثل مقبرة “بير لاشيز” في فرنسا، و”هاي غايت” في بريطانيا، ومقابر العلمين في مصر.

بدأ الهدم فازدهرت الزيارات

لم تكن مقابر مصر القديمة مقصداً شعبياً للزيارة، باستثناء المهتمين والمتخصصين. لكن الأمر تحوّل كلياً عقب عمليات الهدم الأخيرة، إذ بدأ تنظيم الكثير من الزيارات الفردية والجماعية إلى هناك، لعل أبرزها الجولات التي تنظمها مجموعة “عاشق تراثك يا مصر” بإشراف الدكتور عادل غنيم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة عين شمس منذ العام 1984.

يقول غنيم “عدد المهتمين بزيارة المقابر القديمة تزايد خلال الأشهر الأخيرة نحو 10 أضعاف، وصار لدينا زوّار من دول مختلفة، روسيا ودول البلطيق والبلقان، والخليج”.

ويشير إلى أن الحزن يخيم على زوار المقابر التي توشك على الهدم، على اختلاف خلفياتهم الثقافية وتخصصاتهم “فالجميع مهتم، ويرغب في زيارة أخيرة، والجميع يشعر بالصدمة من إمكان اختفاء مقابر مميزة وقديمة مثل تلك التي توشك على الاختفاء. نتحدث عن مقبرة الإمام جلال الدين السيوطي، السيدة نفيسة الكبرى، قبة الدرملي، وسردار (قائد) الجيش المصري راتب باشا، وغيرهم كثر، إذ يعود عمر بعض المقابر إلى العام الهجري الثالث”.

‎⁨شرح لتاريخ المقبرة في إحدى الزيارات (الجزيرة)⁩

ويضيف “لدينا في مصر واحدة من أجمل جبانات العالم من حيث المعمار والزخرفة، لم يكن أحد يشعر بوجودها حتى بدأت أعمال الهدم، تراكيب خشبية ورخامية، وأسقف تتراوح بين المسطحة، إلى القباب، وما أصعب النقش على تلك الأخيرة، كتابات نادرة، وخطاطون من طراز خاص كعبد الله زهدي الذي يزيّن توقيعه الكثير من المقابر، وبينهم مقبرته هو نفسه”.

ويصف الخبراء في الترميم والآثار الإسلامية في مصر تلك المقابر التاريخية بـ “الكنوز” لافتين إلى أنه يمكنها أن توفر عائداً سياحياً جيداً للبلاد.

شاركها.
Exit mobile version