يقدم المبدع البريطاني تشارلي بروكر في الموسم السابع من مسلسله “بلاك ميرور” (Black Mirror) 6 حلقات ترقى لأن تسمى أفلاما؛ لا لأن زمن كل منها يناهز ساعة ونصف الساعة فحسب، بل لأنه يوظف خصائص اللغة السينمائية من اختزال وبلاغة بصرية تتجاوز السرد التلفزيوني التقليدي.

الأهم أن الدراما المتفردة في كل حلقة، وفي الموسم إجمالا، تطرح أسئلة حول تصنيفها ضمن المواضيع المعروفة، إذ تحمل من الابتكار والتجديد ما يؤهلها لاستحداث مواضيع جديدة.

منذ انطلاقه عام 2011، أعاد “بلاك ميرور” تعريف التأمل البصري على الشاشة، كاشفا بمرآته السوداء المتشائمة ذلك التقاطع القاتم -وأحيانا البائس- بين التكنولوجيا والطبيعة البشرية. تدفع كل حلقة مستقلة المشاهد إلى مستقبل قريب، أو إلى حاضرٍ يقلق لشبهه بذلك المستقبل، إذ لم تعد أجهزتنا ورغباتنا وبياناتنا أدوات وحسب، بل مرايا تعكس أعمق مخاوفنا.

ولا يكتفي صناع العمل بإدانة التكنولوجيا الرقمية بوصفها الفاعل الرئيس، بل يصدمون المتلقي بحقيقة أن مصدر العتمة والظلم ليس التقنية ذاتها، بل شخص يرتدي ثيابا أنيقة ويقبع في زاوية عمياء قريبة.

مآسٍ إنسانية وبطولة رقمية

تنساب حبكة حلقة “أناس عاديون” إلى المُشاهد برفق ودون مؤشرات تنذر بما سيأتي، حتى يتبين له في لحظة حاسمة أنه انجرف عاطفيا إلى قلب مأزق عنيف يشكل ذروة الحدث، وذلك منذ الحلقة الأولى. تبدأ الحكاية في سكون مع زوجين لا يعكر صفو سعادتهما سوى محاولاتهما العقيمة للإنجاب. لكن الهدوء يتبدد حين تتعرض الزوجة (أماندا) لحادث خطير. يسارع الزوج (مايك) إلى التعاقد مع شركة “ريفرمايند” التي تروّج لنظام تقني متقدم يبقي زوجته حية مقابل رسوم شهرية لا تختلف، ظاهريا، عن اشتراكات الإنترنت، غير أن الكلفة تتصاعد باطراد بعد بدء التجربة.

لا يدين صناع العمل التكنولوجيا الرقمية في حد ذاتها، بل يضعون المجتمع أمام مرآة تكشف وجوه الاستغلال والجشع، والرغبة في الربح ولو على حساب أقدس حقوق الإنسان؛ حق الحياة. ويعزز الأداء الآلي لموظفي “ريفرمايند” الإحساس بالطبيعة التجارية للشركة التكنولوجية، البعيدة تماما عن الاعتبارات الإنسانية.

وفي الحلقة الثانية “البطة السوداء” تحتفل ماريا بنجاحاتها المتواصلة كمديرة تنفيذية في شركة شوكولاتة، لكن ظهور زميلة الدراسة التي كانت محل تنمر الجميع يفسد عليها هذا النجاح، والغريب أن الزميلة “فيريتي” تستطيع تحويل الحقائق الصلبة نفسها إلى أكاذيب لا يمكن تصديقها، وتلعب بحواس كل العاملين في الشركة. تقرر ماريا الدفاع عن نفسها، لتكتشف أن فيريتي المعروفة بتميزها في التكنولوجيا الرقمية تستطيع باستخدام تلك التكنولوجيا أن تقلب الحقائق، وأنها جاءت خصيصا للانتقام.

صنع تشارلي بروكر كاتب العمل حالة تواز بين الصديقة التي استخدمت الديجيتال في تغيير إدراك المحيطين بها وقلب أكثر الحقائق وضوحا في لحظات، وبين ماريا التي ينبع نجاحها من مزج بعض العناصر لصنع مذاق مختلف لنوع جديد من الشيكولاتة. وظهرت المفارقة بين النموذجين (ماريا وفيريتي) حين ظهر الصدام بينهما، فكان لا بد أن تدمر كل منهما الأخرى.

وحرص المخرج على استعراض مشاهد من الماضي، ليتمكن المشاهد من المقارنة بين حيوية الماضي وإنسانيته، وآلية الحاضر وانعدام الروح فيه.

Black Mirror: Season 7 | Official Trailer | Netflix

وودي آلان والحنين

على طريقة المخرج الأميركي وودي آلان في فيلمه “وردة القاهرة القرمزية” 1985 (The Purple Rose of Cairo)، إذ أحبت بطلة العمل بطل فيلم سينمائي أثناء مشاهدتها له، ومن ثم غادر الفيلم من خلال الشاشة وخرج إليها، فإن الحلقة الثالثة من “بلاك ميرور” تصنع مفارقة شبيهة، وهي المعنونة “فندق ريفيري”.

تبدأ أحداث “فندق ريفيري” حين تقع نجمة هوليود براندي فرايدي في فخ إعادة إنتاج فيلم رومانسي كلاسيكي، ولكن بطريقة رقمية مدهشة، إذ يتم إدخالها إلى الأحداث لاستبدالها بالبطل وذلك من خلال وضعها في حالة غياب عن الوعي، ووضع ذلك الوعي داخل الفيلم، وهي طريقة في صناعة الأفلام قد تظهر في الغد القريب. أثناء تنفيذ المشاهد الخاصة بالنجمة الهوليودية تنحرف عن النص، فتنحرف الأحداث في اتجاه آخر، وهكذا تبدأ متاهة رقمية لانهائية ضحيتها نجمة من هوليود وشركة إنتاج أرادت استعادة أمجادها القديمة.

وحرص صناع العمل على وجود تصاميم ديكور فخمة وأساليب تصوير سينمائي عتيقة تعيد إحياء العصر الذهبي لهوليود، مع الانتقالات السلسة بين المشاهد التي تطمس الخط الفاصل بين الأداء والواقع.

المتاهة الأبدية

وكما انتهت بطلة الحلقة الثالثة إلى متاهة أبدية، فإن الحلقتين الرابعة والساسة تنتهيان إلى متاهتين، الأولى يضيع فيها العالم كله في “لعبة فيديو”، والثانية يضيع فيها فريق داخل لعبة أخرى، لا تنتهي. في الحلقة الرابعة يفاجأ المشاهد بشخص انطوائي يدعى “كاميرون” مهووس بلعبة فيديو من التسعينيات، ومشتبه به في جريمة قتل.

يقبض على “كاميرون” بالمصادفة، ليتم استجوابه، وبينما يجيب عن أسئلة المحققين عمليا باستخدام الكمبيوتر ليشرح ما حدث، فإنه ينفذ جميع متطلبات الوصول إلى النهاية، ليتحول العالم بأكمله إلى حالة أخرى بعد أن تخرج كائنات اللعبة إلى الواقع وتسيطر على العقول.

لعب مخرج العمل منذ البداية على فكرة التداخل بين تفاصيل الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي، ولم يكن الإيقاع متسقا تماما، وهو أمر مقصود ليرى المشاهد أنه لا يستطيع التنبؤ بنهاية غريبة مثل تلك التي انتهت بها الحلقة، إذ تبتلع اللعبة العالم.

وفي الحلقة السادسة “نحو اللانهاية”، يستحضر صناع العمل عالم أفلام “حرب النجوم”، ولكن على طريقتهم، إذ يموت قائد السفينة الفضائية يو إس إس كالستر، فيخوض طاقمها بقيادة الكابتن نانيت كول معركة من أجل البقاء في عالم ألعاب لانهائي يعجّ باللاعبين العدائيين، ولكنهم يكتشفون أن الخيانة قديمة، إذ استنسخ القائد الراحل نسخة رقمية من كل واحد منهم، وأدخلهم اللعبة بشكل غير قانوني دفع كل اللاعبين إلى استهداف الفريق.

وفي الحلقة الخامسة التي جاءت تحت عنوان “تأبين”، نجد رجلا وحيدا، وحزينا، تخطى منتصف العمر، يشارك في تأبين امرأة يزعم أن علاقته به سطحية، وأنه لا يجد ما يساعد على استدعاء الذكريات معها، لكن الدخول الرقمي إلى تفاصيل صور فوتوغرافية يكشف مفاجآت. حرص المخرج على تحويل الصور الفوتوغرافية إلى عالم واقعي تماما للمشاهد، وتميزت الانتقالات بين الذكريات والحاضر بتركيز خفيف واختفاء تدريجي للصورة.

شاركها.
Exit mobile version