“لا شيء أصعب من آلام الفقد، وعندما تتجرع هذه الآلام مرة تلو مرة تكون الأمور أصعب وأشد، ولكن ماذا عسانا أن نقول، هذا هو خيارنا.. قدرنا ويجب أن نرضى به مهما كان.. ونطلب من الله أن يمدنا بأسباب الصبر والقوة حتى نستطيع المواصلة.. ولحمزة ولكل الشهداء.. إننا على العهد ونحن ماضون” ما قاله الصحفي وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة، مودعا نجله الأكبر حمزة الذي استشهد قبل يومين بعد القصف الإسرائيلي الذي استهدف سيارته، كان مؤثرا للدرجة التي هزت ضمير شرفاء العالم لفاجعة أن يتعرض شخص واحد لكل تلك الخسارات ويبقى صامدا، بل يكمل ما بدأه بصلابة.

 

“الحزن المتراكم”، التعبير النفسي الذي أطلقه علماء النفس على الخسارات المتعاقبة وآلام الفقد المرتبطة بموت المقربين في حالات متتابعة، في عالم مثالي، تصفه الباحثة النفسية الألمانية كاثرين شير، أنه العالم الذي يستطيع الفرد فيه التقاط الأنفاس بين حزن وآخر، وفيه يتمكن الحصول على فرصة شفاء من صدمة الفقد، لا يعني هذا أن الحزن يختفي تماما، لكن ينتقل من مرحلة حادة وهي الفترة الأولى المشتعلة إلى مرحلة متكاملة يمكن فيها العودة لممارسة النشاط الطبيعي للإنسان لكن دون أن يعود هو كما كان.

الصحفي حمزة الدحدوح (يمين) ووالده وائل الدحدوح (مواقع التواصل الاجتماعي)

حين يصبح الحزن رفاهية

في عالم آخر لا يتسم برفاهية الوقت بين الكارثة والأخرى، يصبح “الحزن المتراكم” هو التعبير الذي يطلق على المرور بصدمات فقدان متتالية، دون أن يستطيع الشخص أن يمر بفترة كافية لالتقاط الأنفاس بينها، فلا مجال للتعافي من الخسارة الأولية، حتى تفاجئك الخسارة الثانية والثالثة، وهكذا يصبح من الصعب التعامل مع الحزن الناجم عن كل خسارة.

في دراسة حول تأثير الخسائر المتعددة على شعور الحزن قامت بها دوروثي إل ميرسر، أستاذة علم النفس في جامعة شرق كنتاكي، لفتت الدراسة إلى أن الخسارات المتعددة تؤثر على صحة الأفراد العقلية والنفسية و الجسدية وتؤثر على أنماط علاقاتهم ووظائفهم وشخصياتهم وتعلقهم بالأشياء المادية في الحياة، وفي كتاب “ما هو حزنك: قوائم لمساعدتك خلال أي خسارة” تقول ليتسا ويليامز أن مواجهة الخسارات الجديدة أصعب بكثير من المواجهة للخسارة الأولى فتبدو وكأنك تحارب بنصف طاقتك ونصف قدرتك ونصف مشاعرك.

مواجهة الخسارات الجديدة أصعب بكثير من المواجهة للخسارة الأولى (بيكسلز)

حزن متراكم وجبال تنتظر الانهيار

ما يحدث في غزة أن شعبا بأكمله أصبح فريسة للحزن المتراكم، توالت عليه الصدمات حتى فقد القدرة على النجاة منها، ومع غياب الدعم النفسي الذي صار رفاهية وسط كل ما يحدث.

تحدث الدكتور علي عبد الراضي، مدرس الإسعافات الأولية النفسية بجامعة الأزهر، للجزيرة نت، حول أثر الفقدان المتكرر في حياة الشعب الفلسطيني بالكامل كنموذج بحثي أصيل لتجارب الحزن المتراكم، وكرب ما بعد الصدمات المتكررة، أن هناك طريقتين لمواجهة الصدمات ظهرتا بشكل واضح مع تكرار الفقد في الأحداث الأخيرة:

  • الطريقة الأولى: الإنكار

الإنكار، وما يتبعه من سير للحياة بالشكل المعتاد، دون أي اختلاف واضح، فيظهر الفرد متخطيا للأزمة دون أن يكون بالفعل قادرا على مواجهتها لهشاشته النفسية.

  • الطريقة الثانية: الصلابة النفسية

الصلابة النفسية في مواجهة الخسارات المتتالية، وهي ما نشهده يحدث كل يوم منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفيها يتمتع الشخص بالقدرة على مواجهة ما يمر به بشكل واعٍ، ويستطيع أن يحرر حزنه وأن يفصل بين حياته العملية وبين أحزانه مهما كبرت.

القدرة على مواجهة الحزن والصلابة النفسية عند مواجهة الشدائد تتحقق حين يؤمن الإنسان بـ”معنى الحياة” (شترستوك)

العلاج بالمعنى

يؤكد عبد الراضي للجزيرة نت القدرة على مواجهة الحزن والصلابة النفسية عند مواجهة الشدائد تتحقق حين يؤمن الإنسان بـ”معنى الحياة”.

أشار أستاذ الإسعافات الأولية النفسية أنه من الغريب أن المدرسة التي أسسها أحد ضحايا المحرقة النازية، فيكتور فرانكل، الشاب الذي فقد أسرته بالكامل في المحرقة إبان الحرب العالمية الثانية، صار الشعب الفلسطيني هو أكثر الشعوب استلهاما لها في مواجهة المحرقة الحالية، مضيفا أن الطبيب النفسي فرانكل حين طور مفهوم العلاج بالمعنى من قلب المعاناة، مؤسسا مدرسة جديدة في العلاج النفسي لا تقل أهمية عن نظريات فرويد في التحليل النفسي، وضح للعالم أن إيجاد معنى وهدف للحياة هو أساس القوة التحفيزية لدى الفرد والتي تجعله قادرا على النجاة حتى في أكثر الظروف بؤسا ومعاناة.

الدكتور علي عبد الراضي، مدرس الإسعافات الأولية النفسية بجامعة الأزهر (الجزيرة)

يقول عبد الراضي للجزيرة نت، إن معنى الحياة يتجلى بشدة في كل موقف مأساوي يمر به الشعب الفلسطيني، فهم بين هدفين كلاهما إيجابي، إما تحرير الأرض والحصول على حقهم في وطن محرر وإما الشهادة في سبيل الله، وكلا الأمرين معنى كبير للغاية يجعل كل مآسي الحياة تهون أمامهما، لذا فالخوف الإسرائيلي الأكبر هو الصلابة النفسية التي يتمتع بها الفلسطينيون وليس فقط التجهيزات العسكرية، لذا فهم يستهدفون كل ما يكسر من عزيمة وصلابة الشعب على أمل انهياره وتوقف تمسكه بالحياة لكن بلا جدوى.

“القوة النفسية البادية على الجميع حاليا ربما تختلف حين تهدأ الامور وتعود لنصابها الطبيعي”، يقول مدرس الصحة النفسية بجامعة الأزهر، “في هذه المرحلة لا يجب إهمال العلاج النفسي لكل المتضررين، وتلك مهمة شاقة تستلزم تكاتفا دوليا للخروج بشعب كامل من بوتقة الحزن المتراكم، وأن حالة الشرود الغالبة على الجميع الآن في الفيديوهات القادمة من هناك تستلزم أن توفَّر طواقم الإسعافات الأولية النفسية لتصاحب الطواقم الطبية الأخرى كي تكون طوق نجاة لآلاف الأطفال الذين تعرضوا لصدمات الفقد سواء فقد أسرهم أو أطرافهم او حتى فقدان حياتهم الهادئة الوديعة السابقة.

شاركها.
Exit mobile version