أظهرت دراسة حديثة نُشرت في “جورنال أوف جيوكيميكال إكسبلوريشن” أن الأنشطة البشرية، مثل تعدين الفوسفات والزراعة، تسهم بشكل كبير في تلوث المياه الجوفية في حوض قفصة بتونس، إلى جانب الانبعاثات الناجمة عن هذه الأنشطة، والتي تؤثر سلبًا على جودة الهواء.

يُعد حوض قفصة من أهم المناطق الجغرافية في وسط تونس، حيث يتميز بموارده الطبيعية الغنية، مما يجعله مركزًا رئيسيًّا لاستخراج الفوسفات.

ويمثل هذا القطاع أحد المحركات الأساسية للصناعة والتصدير في البلاد، إذ تحتل تونس مكانة بارزة عالميًّا في إنتاج الفوسفات، حيث جاءت في المرتبة الخامسة عام 2010، وتصدر مشتقاته إلى نحو 50 دولة.

ويتركز النشاط الرئيسي لاستخراج الفوسفات في جنوب تونس، حيث يحتوي حوض قفصة على تكوينات جيولوجية تعود إلى العصر الإيوسيني والطباشيري، مما يعزز أهميته كمصدر رئيسي لهذه المادة الحيوية.

ورغم أن استخراج الفوسفات لا يعد السبب الرئيسي لتلوث الهواء في تونس، فإن تدهور جودة الهواء أصبح مصدر قلق متزايد. ودفع هذا التلوث المنظمات الدولية إلى دق ناقوس الخطر، محذرةً من التداعيات البيئية الخطيرة التي قد تؤثر سلبًا على الصحة العامة والنظم البيئية في البلاد.

(الجزيرة)

لعنة الفوسفات

تحتوي صخور الفوسفات التونسية على نسب متفاوتة من اليورانيوم بمقدار (45-140 جزءا في المليون)، مما يؤدي إلى تلوث النشاط الإشعاعي لموارد المياه الجوفية، ويرجع ذلك أساسًا إلى عمليات تعدين الفوسفات وتخزينه ومعالجته إلى جانب تسرب المياه الجوفية الأحفورية والحرارية من نظام طبقات المياه الجوفية شمال الصحراء الغربية، وفق الدراسة.

إلى جانب ذلك، أشارت الدراسة إلى أن المياه الجوفية في حوض قفصة تعاني من ارتفاع تركيزات النترات، التي تتجاوز أحيانًا الحد المسموح به لمياه الشرب (50 مليغراما/لتر)، حيث يبلغ متوسطها 168 مليغراما/لتر.

ويُعزى هذا التلوث إلى الاستخدام المكثف للأسمدة النيتروجينية في الزراعة وأكسدة المواد الكيميائية المستخدمة في التعدين، مثل نترات الأمونيوم والمتفجرات.

هذه الأنشطة تسهم في زيادة مستويات الراديوم (وهو عنصر مشع)، أما التأثير الأكبر فيحدث في المياه الجوفية الضحلة، التي تكون أكثر تعرضًا للتلوث من الجريان السطحي الزراعي (أي الماء الذي يتدفق من الأراضي الزراعية) أو من أنشطة التعدين مثل استخراج الفوسفات.

واللافت أن الدراسة أظهرت أن الراديوم لا يبقى مرتبطًا بالمعادن الفوسفاتية بل يتسرب إلى النفايات، مما يزيد من التلوث الإشعاعي للفوسفوجيبسوم في مناطق التعدين، ويشكل مصدرًا محتملا لتلوث المياه الجوفية.

وإلى جانب ذلك، كشفت الدراسة أن الإنتاج السنوي للفوسفوجيبسوم، وهو منتج ثانوي مشع لتعدين الفوسفات، يقدر بنحو 10 ملايين طن، مما يزيد من المخاطر البيئية في المنطقة.

تدهور بيئي من آثار الفوسفات في تونس

تلوث الهواء

وإلى جانب ذلك، فإن تونس تعتبر من البؤر النشطة لانبعاثات ثاني أكسيد الكبريت في شمال أفريقيا، حيث ترتبط هذه الانبعاثات بمصادر قطاع النفط والغاز، خصوصا في مدينة الصخيرة، وفق غرينبيس (منظمة السلام الأخضر).

وتؤكد غرينبيس أن البلاد تواجه تحديات بيئية محلية تتجلى في ارتفاع مستويات الجسيمات الدقيقة في الهواء، والتي تُعرف بـ”بي إم 2.5″، وهي جسيمات صغيرة قد تكون ضارة عند استنشاقها.

وكشفت المنظمة أن العدد الكبير من الوفيات المبكرة المسجلة سنويا في القارة الأفريقية بما فيها تونس، كان نتيجة للتعرض لتلوث الهواء، فيما أشارت دراسة معهد حوكمة الموارد الطبيعية إلى أن إنتاج الفوسفات يؤدي إلى زيادة نسبة الغبار والتلوث في الهواء، مما يؤثر سلبًا على صحة السكان، خاصة النساء.

واعتبر التقرير الصادر في 28 مارس/آذار 2024، أن قطاع الطاقة في شمال أفريقيا خصوصا صناعة النفط والغاز من أكبر المساهمين في انبعاثات تلوث الهواء، وذلك من خلال ما حددته عمليات الرصد عبر الأقمار الصناعية لثاني أكسيد الكبريت.

آثار التلوث على التنوع البيولوجي

يؤكد الخبير البيئي مصطفى بنرامل، رئيس جمعية المنارات الإيكولوجية من أجل التنمية والمناخ، أن تلوث الهواء الناتج عن السلوكيات البشرية لا يقتصر تأثيره على المياه الجوفية فحسب، بل يمتد ليشكل تهديدًا كبيرًا للتنوع البيولوجي.

وأوضح بنرامل أن هذا التلوث يؤثر على الكائنات الحية والنظم البيئية بطرق متعددة، مسببًا أضرارًا جسيمة للطبيعة.

وأضاف بنرامل أن من بين آثار تلوث الهواء، ظهور بقع أو نخر على أوراق النباتات، ما يؤدي إلى انخفاض نموها وضعفها، مما يجعلها أكثر عرضة للهجمات الطفيلية من الحشرات والفطريات.

فضلا عن تعرضها للمخاطر المناخية مثل الجفاف، كما يؤدي التلوث إلى إضعاف النباتات وتباطؤ نموها بشكل كبير، مما يؤثر سلبًا على إنتاجية المحاصيل الزراعية.

وأشار بنرامل أيضًا إلى أن التلوث يتسبب في التخثث البيئي للبحيرات والمسطحات المائية، نتيجة لتساقط النيتروجين من انبعاثات أكاسيد النيتروجين والأمونيا، ما يؤدي إلى إثراء البيئات وتعديل توازناتها الكيميائية.

كما يتسبب تلوث الهواء في انخفاض أعداد بعض الحيوانات الملقحة، خصوصًا الطيور والحشرات مثل النحل، ويؤثر على قدرتها على التكاثر ويعيق حصولها على الغذاء الطبيعي والمناسب. ويضيف إلى ذلك:

  • تأثير على النباتات: يتسبب تلوث الهواء في تلف أوراق النباتات ويقلل من قدرتها على القيام بعملية التمثيل الضوئي، مما يؤدي إلى ضعفها وموتها. وبعض الملوثات مثل ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين يمكن أن تجعل التربة حمضية، مما يؤثر على امتصاص العناصر الغذائية من قبل النباتات.
  • تأثير على الحيوانات: تتعرض الحيوانات لمخاطر مباشرة وغير مباشرة نتيجة تلوث الهواء. ويمكن أن يؤدي استنشاق الهواء الملوث إلى مشاكل في الجهاز التنفسي، ويمكن أن يؤدي تناول النباتات الملوثة إلى تراكم المواد السامة في أجسامها. وبعض الملوثات يمكن أن تؤثر على الجهاز العصبي للحيوانات وتسبب مشاكل في النمو والتكاثر.
  • تأثير على الكائنات الدقيقة: يمكن أن يؤثر تلوث الهواء على الكائنات الدقيقة التي تعيش في التربة والماء، مما يؤثر على خصوبة التربة ودورة العناصر الغذائية.
  • تغير التركيبة السكانية: يمكن أن يؤدي تلوث الهواء إلى تغيير التركيبة السكانية للنباتات والحيوانات، حيث تصبح بعض الأنواع أكثر قدرة على تحمل التلوث من غيرها.
  • اضطراب العلاقات الغذائية: يمكن أن يؤدي تلوث الهواء إلى اضطراب العلاقات الغذائية بين الكائنات الحية، مما يؤثر على استقرار النظام البيئي.
  • تجزئة الموائل: يمكن أن يؤدي تلوث الهواء إلى تجزئة الموائل الطبيعية، مما يعزل الكائنات الحية ويقلل من قدرتها على التكاثر والتنقل.

عواقب وخيمة

يتفق الناشط الإعلامي محمد التفراوتي البيئي، مع ذلك، ويقول إنه لا يمكن أن يختلف اثنان عن كون انبعاثات الغازات الدفيئة والملوثات لها العديد من العواقب السيئة على البيئة، إذ إن تأثير هذه الانبعاثات يتضح بشكل كبير في تغير المناخ، حيث تسهم الغازات مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان في ظاهرة الاحتباس الحراري، من خلال حبس الحرارة في الغلاف الجوي.

هذا التغير يؤدي إلى وقوع أحداث مناخية متطرفة مثل موجات الحر والجفاف والفيضانات والأعاصير، فضلاً عن تحمض المحيطات. وتمتص المحيطات ثاني أكسيد الكربون، مما يزيد من حموضتها ويؤثر سلبا على الكائنات البحرية مثل المرجان والأصداف من خلال تعطيل عملياتها البيولوجية، وفق حديث التفراوتي.

في النهاية فإن تلوث الهواء يعد أحد أبرز العوامل التي تؤثر على صحة الإنسان، خاصة في المدن الصناعية حيث ترتفع مستويات الجسيمات الدقيقة والملوثات مثل الأوزون، ويمكن لهذه الملوثات أن تخترق عمق الرئتين، مما يؤدي إلى تفاقم أمراض الجهاز التنفسي مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية المزمن.

كما يؤثر تلوث الهواء على صحة القلب والأوعية الدموية، حيث يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية. بالإضافة إلى ذلك، يتسبب في أعراض مزعجة مثل تهيج العينين والأنف والحنجرة، إلى جانب الشعور بالصداع والإرهاق العام، مما يؤثر على جودة الحياة بشكل ملحوظ، وفق حديثهما.

وفيما يتعلق بالتهديدات الصحية طويلة الأمد، يؤكد الخبيران أن مرض السرطان، وخاصة سرطان الرئة، أصبح أكثر شيوعًا بسبب التعرض المستمر لبعض ملوثات الهواء.

فقد أظهرت الدراسات أن التعرض طويل الأمد للأبخرة السامة والغازات الضارة يؤدي إلى حدوث طفرات جينية تزيد من خطر الإصابة بالسرطان. ومن هنا، يصبح الحد من الانبعاثات الملوثة أولوية قصوى لحماية صحة الأفراد وضمان مستقبل أكثر أمانًا للمجتمعات.

وكان تقرير غرينبيس قد أشار إلى أن تونس تسجل ما يقارب المعدل المتوسط 2100 حالة وفاة جراء الهواء السام، وهو ما يعني أن هناك يوميا 6 حالات وفاة جراء تلوث الهواء.

الحل

يعد الحد من التعرض لتلوث الهواء والماء أمرًا ضروريًّا للحفاظ على الصحة العامة، يقول بنرامل إن الحل يبدأ بمراقبة جودتهما بانتظام، ويمكن التحقق من مؤشر الجودة في المنطقة واتخاذ الاحتياطات اللازمة في الأيام التي تكون فيها مستويات التلوث مرتفعة.

واقترحت الدراسة سالفة الذكر عدة إستراتيجيات للمعالجة، منها المعالجة النباتية (استخدام النباتات لتنظيف النترات) والتي قد تكون حلاً جزئيًّا، لكنها تواجه صعوبة في المناطق القاحلة، وبناء أنظمة المراقبة المتقدمة لتتبع حركة الملوثات في المياه الجوفية، والاهتمام بممارسات الزراعة المستدامة واستخدام بدائل للأسمدة يمكن أن يقلل من تلوث النترات.

كذلك تؤكد الدراسة أنه من الضروري أيضًا دراسة الآثار طويلة المدى للتلوث بالراديوم واليورانيوم على جودة المياه والصحة العامة، مما سيساعد في توجيه السياسات البيئية المستقبلية.

شاركها.
Exit mobile version