غزة- منذ أن بدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ومع أول قذيفة وصاروخ، كان القطاع الصحي في “بؤرة الاستهداف”، وبدلا من أن تكون المستشفيات ملاذا آمنا يقدم الخدمة الطبية للضحايا والمرضى، باتت هي نفسها بكوادرها وحجارتها هدفا لهذا العدوان.

ولا تزال الذاكرة تحمل الهجوم الكبير على “مجمع الشفاء الطبي” في مدينة غزة، وهو المجمع الأكبر على مستوى فلسطين، الذي وضعته قوات الاحتلال هدفا رئيسيا من أهداف عمليتها البرية واجتياحها الواسع لمدينة غزة، وروجت الكثير من المبررات اتضح في النهاية -ووفقا لمنظمات وهيئات طبية وحقوقية دولية- أنها جملة من الأكاذيب، ولم تقدم إسرائيل ولو دليلا واحدا على أن هذا المجمع خرج عن سياق عمله الصحي الإنساني.

خرج مجمع الشفاء عن الخدمة، ولم تتوقف عمليات الاستهداف الممنهجة من قبل الاحتلال ضد المستشفيات، وتوالى انهيارها وخروجها عن الخدمة تباعا، وآخرها مستشفى كمال عدوان في بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، وبحسب وزارة الصحة والسلطات المحلية في غزة فإن الهدف الإسرائيلي هو “تدمير المنظومة الصحية كعنوان للحياة وجعل غزة غير قابلة للعيش”.

استهداف ممنهج

“مبكرا ومنذ اللحظات الأولى للحرب أدركنا أننا في عين العاصفة وأن لا حصانة لنا فيها”، يقول المدير العام للمستشفيات الميدانية الدكتور مروان الهمص للجزيرة نت، ويضيف: “حتى الآن ومع تصاعد الحرب في عامها الثاني ما زلنا لا نأمن على أنفسنا من الاستهداف قتلا وجرحا واعتقالا”.

وتراوح الاستهداف للمنظومة الصحية بين المباشر وغير المباشر، وقد طاول البنية التحتية الصحية من طواقم ومرافق وأجهزة ومعدات، ومن بين 37 مستشفى حكوميا وأهليا وخاصا كانت تعمل قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعمل حاليا 7 مستشفيات فقط وبالحد الأدنى من الإمكانيات والتخصصات الطبية، وتواجه معوقات وهي مهددة بالانهيار في أي لحظة، سواء جراء التهديد والاستهداف المباشر، مثلما يحدث حاليا مع مستشفى العودة (جمعية أهلية) في منطقة تل الزعتر بجباليا شمال القطاع، أو نتيجة القيود المشددة على توريد الوقود والأدوية والإمدادات الإنسانية، بحسب الهمص.

وتشير التقديرات الرسمية إلى أن حجم الخسائر المادية للمنظومة الصحية يقدر بنحو مليار دولار، ويؤكد الهمص: “نعمل في ظل ظروف بالغة التعقيد وبأقل الإمكانيات، ونعاني من نقص كبير في الكوادر المتخصصة والمعدات والأجهزة والوقود (..) الجهاز الطبي الذي يخرج عن العمل لا نستطيع إصلاحه لأن الاحتلال يمنع إدخال قطع الغيار”.

ونال مجمع الشفاء النصيب الأكبر من هذا الدمار الكبير في البنية التحتية الصحية، وقد اقتحم الاحتلال هذا المجمع مرتين، وعاث فيه فسادا وتدميرا، وقتل 10 من الكوادر الطبية، واعتقل عددا آخر في مقدمتهم مدير المجمع الدكتور محمد أبو سلمية الذي قضى شهورا في السجن قبل إطلاق سراحه، ويقول الهمص: “من العدم نجحنا في وزارة الصحة بإعادة افتتاح قسم الاستقبال والطوارئ بالمجمع، بينما بقية الأقسام والتخصصات النادرة لا يمكن إعادة العمل بها في ظل هذه الحرب وهذا الحصار الخانق”.

وحاليا، وبحسب تأكيد الهمص، لا يوجد خدمة طبية في مدينة غزة وشمال القطاع سوى في المستشفى الأهلي العربي المعروف باسم المعمداني (جمعية أهلية)، ويعمل بكل طاقته رغم قلة الكوادر والإمكانيات، علاوة على مستشفيات خاصة صغيرة لا يمكنها تحمل عبء الحرب، في حين خرجت مستشفيات شمال القطاع عن الخدمة تباعا، وهي الإندونيسي (حكومي) وكمال عدوان (حكومي)، ونالهما دمار كبير وحرق للأجهزة والمعدات واعتقال للكوادر الطبية وأبرزهم الدكتور حسام أبو صفية، بينما مستشفى العودة في حكم المتعطل والاحتلال يحكم حصاره عليه، ويستهدف مبانيه مرافقه بالقصف واطلاق النار، وبحسب مديره محمد صالحة فإن الاحتلال طالبهم الأسبوع الماضي بإخلائه وإلا سيقصفه فوق رؤوسهم ومن فيه من مرضى وهم 112، بينهم 37 مريضا.

ولا يبدو واقع الحال الطبي في جنوب القطاع مختلفا كثيرا عن شماله، ويكمل الهمص في تشخيص هذا الواقع المرير ويقول إن 3 مستشفيات حكومية، ومستشفيين أهليين، لا تزال تكافح في جنوب القطاع من أجل استمرار تقديم الخدمة الطبية لنحو مليوني فلسطيني من السكان والنازحين، يمثلون أكثر من 90% من التعداد السكاني في القطاع الساحلي الصغير.

وتواجه مستشفيات جنوب القطاع ما واجهته نظيرتها في شماله، وفي مدينة رفح أقصى جنوب القطاع التي تتعرض لاجتياح بري مستمر منذ مايو/أيار الماضي، دمرت قوات الاحتلال مستشفياتها الصغيرة كلها، وأهمها مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار (حكومي) وكان يديرها الهمص نفسه، ويقول: “الاحتلال دمر رفح بالكامل بما في ذلك مستشفياتها”.

ومن حين إلى آخر تستهدف قوات الاحتلال مستشفى شهداء الأقصى (حكومي) وهو الوحيد في مدينة دير البلح ويخدم أكثر من 700 ألف نسمة في المحافظة الوسطى.

وإبان اجتياحها لمدينة خان يونس الذي استمر 4 أشهر، بين ديسمبر/كانون الأول وأبريل/نيسان الماضيين، اقتحمت قوات الاحتلال مجمع ناصر الطبي (حكومي) وهو ثاني أكبر مجمع في القطاع بعد الشفاء، واعتقلت عددا من طواقمه في مقدمهم المدير الطبي للمجمع الدكتور ناهض أبو طعيمة، غير أن جهودا مضنية نجحت في إعادة تشغيل هذا المجمع بعد الانسحاب الإسرائيلي من المدينة، ويخدم حاليا أكثر من مليون من سكانها والنازحين فيها.

ويجزم الهمص أن المنظومة الصحية بأكملها في القطاع بحاجة لإعادة إعمار بعد توقف الحرب ورفع الحصار، ولكن قبل ذلك فإن زهاء مليونين و300 ألف نسمة في القطاع بحاجة ماسة لمستشفيات ميدانية لتلبية الاحتياجات إلى حين الانتهاء من الإعمار، وفي حين توجد حاليا في محافظتي خان يونس والوسطى 10 مستشفيات ميدانية، فإن محافظة شمال القطاع بحاجة إلى 3 مستشفيات ميدانية، ومحافظة غزة تحتاج إلى 5 مستشفيات، ومحافظة رفح تحتاج إلى 3 مستشفيات.

اغتيال وتغييب للكوادر المتخصصة

توثق السلطات المحلية في غزة أن الاحتلال قتل 1060 فردا من منتسبي الطواقم الطبية، واعتقل 360، استشهد منهم 4 داخل السجن جراء التعذيب الشديد، علاوة على حوالي 3500 جريح، من بينهم حالات إعاقة وبتر.

ولم تكتف قوات الاحتلال باستهداف الطبيب والممرض والمسعف والعامل في الحقل الطبي وحسب، وإنما وسعت دائرة الاستهداف لتشمل الأسرة والعائلة، ويقول الهمص إن هناك كثيرين من أفراد الطواقم الطبية ممن مسحت أسرهم وعائلاتهم من السجل المدني.

وفي ذلك إمعان من قبل الاحتلال بالقتل ورفع فاتورة الدم، بحيث لا يبقى ملاذ لضحايا الحرب والمرضى، وبرأي الهمص فإن الاحتلال استباح كل شيء، ودمر كل حصانة للعاملين في كل القطاعات الإنسانية، وفي ذلك رسالة بأن “المستشفيات هي آخر عوامل الصمود الفلسطيني ولا بد من تدميرها بكل ما فيها من مقومات بشرية ومادية”.

وتزامنا مع الاستهداف للكوادر الطبية المحلية، يقول الهمص إن الاحتلال فرض قيودا مشددة على وصول الوفود الطبية الخارجية، وأمعن في التضييق عليها، بالحجز لساعات طويلة والتفتيش المهين، قبل السماح لها بالدخول من دون أي معدات أو أجهزة أو أدوية، ويسمح فقط لكل طبيب بهاتفين محمولين على أن يكونا مستخدمين، ونتيجة ذلك انخفض عدد الوفود الطبية من نحو 50 فردا في الشهر الواحد قبل اندلاع الحرب إلى أقل من 7 حاليا، وكان لذلك أثر سلبي كبير على حياة المرضى والجرحى الذي يحتاجون لتدخلات طبية تخصصية لا تتوفر في القطاع، سواء من حيث الكادر البشري أو الإمكانيات المادية، وهذا ما يفسر أن حوالي 25 ألفا بحاجة ماسة للسفر والعلاج بالخارج.

وزادت حدة هذه القيود المفروضة على حركة الوفود والمرضى والجرحى عقب احتياج مدينة رفح واحتلال معبر رفح البري مع مصر، وهو المنفذ الوحيد للغزيين على العالم الخارجي، وبحسب نائب المفوض العام للهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان أمجد الشوا فإن الاحتلال يتحكم في هذه الحركة ولا يسمح بها إلا في أضيق نطاق.

وخلال الشهور القليلة الماضية سمحت قوات الاحتلال لبضع مئات من الحالات المرضية الملحة بالسفر وفق معايير صارمة وإجراءات أمنية معقدة، وذلك من خلال معبر كرم أبو سالم، وفيه أيضا تمارس ضغوطها على الوفود الطبية، التي يقول الشوا إن القطاع بحاجة شديدة إليها لإسناد الكوادر المحلية المنهكة، وتقديم الخدمات المنقذة للحياة بالنسبة لآلاف المرضى والجرحى ممن لا يتوفر لهم علاج فيما تبقى من مستشفيات.

ويرى المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي الدكتور إسماعيل الثوابتة أن تغييب الأطباء المتخصصين وعرقلة وصولهم ضمن الوفود الطبية الأجنبية كان له آثار كارثية، وحرم المرضى والجرحى من الرعاية الصحية الملحة والضرورية.

وقد أدت القيود الإسرائيلية المشددة التي حالت دون تمكن الفرق الطبية الدولية من الوصول إلى القطاع، لنقص حاد في الكوادر الطبية والمساعدات الإغاثية، وفضلا عن حالة المجاعة التي تعصف بمئات الآلاف، فإن الكوادر الطبية المحلية تجابه ضغوطا هائلة، وليس بإمكانها التعامل مع الأعداد الكبيرة من الإصابات في وقت واحد ومع حالات طارئة بحاجة لتخصصات نادرة ودقيقة لا تتوفر في القطاع، بحسب تأكيد الثوابتة.

قيود وحصار

وامتدت قيود الاحتلال وتعقيداته لتشمل عمل المنظمات الإغاثية المحلية بكل تخصصاتها، ومنها الصحية، التي كانت وفقا لنائب المفوض العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان “المستجيب الأول لمواجهة تداعيات الكارثة الإنسانية”، ورغم قلة إمكانياتها فإنه كان لهذا دور بارز في التخفيف عن المواطنين، خاصة إغاثيا وصحيا، وقد أنشأت النقاط الطبية في كثير من المناطق، وتحديدا في مراكز الإيواء وخيام النزوح، وقدمت خدمات طبية مساندة خففت العبء عن المستشفيات، علاوة على خدمات الدعم النفسي.

ورغم نطاق عملها الإنساني فإن الاحتلال لم يترك هذه المنظمات تعمل في بيئة آمنة، وعمد إلى استهداف مقارها وعامليها، وقد استشهد المئات من العاملين في هذه المنظمات الإغاثية الأهلية، واعتقل آخرون، ومنهم أطباء أحدهم مدير مستشفى العودة التابعة لجمعية العودة المجتمعية والصحية الدكتور أحمد مهنا، وقد مضى نحو عام على اعتقاله من داخل المستشفى في مخيم جباليا.

كما وقف الحصار الخانق مانعا أمام عمل المنظمات الإغاثية، حيث القيود المشددة على دخول المساعدات بأنواعها بما فيها الطبية، وحتى الأدوات المساعدة لذوي الإعاقة والتأهيل الطبي، وأزمة انقطاع التيار الكهربائي، وعدم توفر المواد المخبرية، ويقول الشوا: “كلها أمور مست بالقدرة على التشخيص، فضلا عن عدم توفر أدوية مهمة لذوي الأمراض المزمنة أثر على صحتهم والبعض منهم فقد حياته جراء ذلك”.

ومع نهاية الشهر الجاري يدخل القرار الإسرائيلي بحظر عمل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) حيز التنفيذ، وتطبيقه يشكل انتكاسة حقيقية، حيث إن أونروا هي أحد المقدمين الأساسيين، سواء للمساعدات الإغاثية أو الخدمات الطبية، بحسب الشوا.

منظومة الإسعاف

يصف الهمص العاملين في فرق الإسعاف بأنهم “فدائيون” يعملون في ميدان خطير ومعقد، وقد دفع عدد كبير منهم ثمنا لهذه المهمة الإنسانية من دمائهم وحريتهم، حيث قتلت وجرحت واعتقلت قوات الاحتلال العشرات منهم، ودمرت غالبية سيارات الإسعاف واستهدفتها بشكل مباشر، رغم أنها تحمل علامات مميزة.

ويقول المسؤول الصحي إن الاحتلال أخرج منظومة الإسعاف بالكامل عن الخدمة في شمال القطاع، في حين تواجه معوقات شديدة في مدينة غزة وجنوب القطاع، ويقدر أن القطاع الصحي بحاجة عاجلة لنحو 60 سيارة إسعاف حديثة ومتطورة، لتعويض النقص الحاد، سواء بسبب التدمير أو توقف السيارات عن الخدمة لعدم توفر قطع الغيار أو الوقود.

وأحد هؤلاء “الفدائيين” هو حسن عمران الذي يعمل مسعفا منذ 12 عاما، ويقول إنه نجا من الموت بأعجوبة عدة مرات خلال عمله في الميدان، في حين فقد عددا من رفاقه شهداء وجرحى ومعتقلين.

ويجزم هذا المسعف أن الاحتلال يتعمد عرقلة عمل الإسعاف ووصوله إلى أماكن الاستهداف لانتشال الشهداء وإنقاذ الجرحى، ويمنع بالكامل وصولهم إلى مناطق باتت تخضع كليا لسيطرته العسكرية والأمنية مثل محافظتي رفح وشمال القطاع.

ويوثق المكتب الإعلامي الحكومي استهداف قوات الاحتلال 136 سيارة إسعاف منذ اندلاع الحرب، ويقول عمران: “كل مرة نخرج فيها في مهمة ميدانية نعتقد أنها الأخيرة ونخشى الموت بصاروخ أو قذيفة”.

التعليم الطبي

تأثر التعليم الطبي بكل تخصصاته تأثيرا كارثيا بحسب وصف الهمص، جراء تدمير كليات الطب في الجامعات وتدمير المستشفيات، ولم يعد أمام الطلبة أماكن للتعليم والتدريب.

ويقول هذا المسؤول الطبي إن غزة وصلت قبل الحرب إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من التخصصات الطبية المختلفة، بما فيها الطب البشري وطب الأسنان والطب البيطري، وكذلك التمريض والتحاليل الطبية، وغيرها من التخصصات التي تدرسها الجامعات المحلية، ووفقا للهمص فإن متطوعين من طلبة الطب كان لهم دور بارز ومساند للأطباء في المستشفيات خلال شهور الحرب.

ويتفق المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي مع الهمص ويقول إن الحرب تركت آثارا مدمرة على التعليم الطبي، وهو عنصر حيوي لاستدامة القطاع الصحي، حيث استهداف المستشفيات وتدمير البنية التحتية الصحية أثر بشكل مباشر على تدريب طلبة التخصصات الطبية، ولم يعد لديهم البيئة اللازمة لتلقي التعليم العملي والتدريب السريري.

وبحسب الثوابتة فإن قرابة 10 جامعات وكليات تقدم برامج طبية متقدمة تضررت بشكل كبير، مما أثر على آلاف الطلبة الذين يسعون للحصول على التعليم الطبي، لافتا إلى أن هذا التدمير الممنهج للبنية التحتية التعليمية يُعيق تطوير الكوادر الطبية المستقبلية ويزيد من معاناة القطاع الصحي المحاصر.

ولم يكتف الاحتلال باستهداف البنية التحتية الصحية والتعليمية والكوادر العاملة في المستشفيات، بل طاولت جرائمه أكثر من 3500 طالب وطالبة من تخصصات الطب والتمريض ارتقوا شهداء، بحسب إحصاءات محلية.

شاركها.
Exit mobile version